الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من سرق الفردوس؟..

سامي فريدي

2015 / 2 / 12
التربية والتعليم والبحث العلمي



Everything was in the wrong place.- Isaac Luria
(فردوس) لفظة هندية الأصل [paridayda] ومعناها مكان ذو سور (مسوّر)، وفي الآشورية [pardesu] يمعنى (مملكة مسوّرة). بناء الأسوار حول المدن والممالك يرد ذكره في ملحمة جلجامش، الذي ينى أسوارا حصينة حول الوركاء، وهو طراز معظم المدن القديمة مثل بابل ونينوى وبغداد عبر الزمن. وفي الآرامية [pardaysa]. وقد انتقلت اللفظة للاغريقية واللاتينية والفرنسية حتى اخذت معناها وشكلها المتعارف [Paradise].
وقد وردت كلمة (فردوس) في الانجيل (لوقا23: 43): "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". أما في التوراه فالكلمة العبرية المذكورة في (تك2: 15) هي [gan] التي صارت في العربية (جنّة). عبارة الفردوس/ الجنة وردت الاشارة إليها في [تك 2: 15] السابق ذكرها، المكان الذي وضع فيه آدم في البدء. لكنه طرد من ذلك المكان وفقد سلطانه وطبيعته إذ عصى وسقط.. [لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين]- (التين 95: 4- 5).
وسواء كان الفردوس حلما أو واقعة، وهما أو حقيقة، تصوّرا أو تذكّرا، فأنه يمثل مقاربة فكرية لتأكيد وجود الانسان في المكان الغلط (اسحق لوريا)، وطريقة أدبية خلقية لتبرير الوجود الغلط، والذي مهما اختلفنا فيه جملة وتفصيلا، لن يكون بالامكان تفسيره أو تبريره أو تعزيره أي أصلاحه وتجاوزه.
وهذه هي النقطة التي ابتدأ منها الفكر الديني. من هنا انبثقت فكرة [دين/ Din] العبرية. اتخذ الدين نقطة السقوط/ العودة- استعادة الفردوس أساسا لوجوده ومبررا لفرض تشريع نظام عبادة وسياسة يخدمان الغرض نفسه. وتعود جذور الفكرة إلى أزمة (المكان) عند قبائل العبرانيين الرعاة الرحل. الأرضية السوسيوتاريخية التي انبقت منها فكرة (أرض الموعد) الدائمة الخضرة والغية بالمياه. وكان عنصر الأرض (الحيازة التاريخية) أهم مقومات تكوين شعب ذي خصائص وسمات قومية.
لكن الدين – البراغماتي في أساسه- لا يعلن غرضه السياسي المباشر وانما يمرره تحت قناع سائغ اجتماعيا. فكان نظامه [التربوي الاجتماعي الاجتهادي] تحت عنوان (الأخلاق)، مدعّما بيافطة (المقدس).
ورغم وحدة المبدأ والمنطلق، فقد اختلفت طروحات الديانات وأساليبها ووسائلها في تصوير الاجراءات [العبادات والمعاملات] وترسيم السلطات والقوانين [الشرائع والفروض]. كما تنافست – كما شركات الموبايل اليوم- وتسابقت في تقديم التسهيلات والاغراءات والضمانات لتوسيع حدود ممالكها – البشرية والرأسمالية-، دون أن تتورع في حمأة المنافسة عن النزول إلى أحطّ وسائل المنافسة الأرضية وأقذع الأساليب –غير المقدسة- في الغاء غيرها وتسفيه مزاعمها، في براغماتية ميكافيللية مقذعة. "إذن هذا هو المقياس، الوصيّة التي سمعتموها منذ البدء، هي أن يحبّ بعضنا بعضا، لا أن نكون مثل قايين الذي قتل أخاه!"- (1 يو 3: 10، 11، 12).
الفردوس عند اليهودية هو صورة أرض الموعد الموسومة بـ(مملكة داود) بمرموزها الأرضي والسماوي، الاجتماعي والسياسي. أما المندائية البابلية القديمة والتي لا تمثل مشروعا سياسيا قوميا -كاليهودية-، فقد صوّرت الفردوس بالتزام حياة الطهارة الروحية والاخلاقية، فهو (حالة روحية وفكرية)، وجماعة ذات تقليد وتماسك اجتماعي وديني لا تسعى للانتشار والتوسع والنفوذ. وعلى نفس الغرار.. رأت الزرادشتية الفردوس في الانحياز إلى عالم النور والفضيلة وتجسيده بسجلات أعمال الاحسان ومساعدة الفقراء والضعفاء والأرامل، الأمر الذي تكاد تشترك فيه مع العقائد الهندية البوذية والهندوسية والسيخية، سيما في البرنامج الاجتماعي والتركيز على الاحسان.
أما المشروع الاسلامي الذي لم تكن الأرض- القومية- تعوزه، وانما الشحة الاقتصادية، فجاء تركيزه على (الغنائم) والملذات الجسدية التي يجري تأمينها عبر شرعنة (الغزو). فصورة الفردوس الاسلامي أساسه تأمين الحاجات واشباع الملذات الحسيّة، وهو القاسم المشترك بين الجنة الأرضية والسماوية في الاسلام.
وقد كان للسعي وراء ملذات الجسد والاستغراق فيها انعكاسه على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والتجارية والفكرية خلال الحكم الاسلامي، بدء بالغزوات وحركة التجارة الدولية وانتشار أسواق النخاسة ومظاهر العبودية والقنانة الشرعية داخل المجتمع، وليس انتهاء بزهور حركة الزهد والاعتزال والتصوف والباطنية المعارضة لطبقة الحكم والنفوذ.
ثمة تداخل كبير بين المشروعين الاسلامي واليهودي، بدءا بالملكوت الأرضي: (مملكة داود) مقابل [دولة الخلافة]، القائمة على استحلال البلاد والعباد بنص ديني، معتبرة أن كلّ ما على الارض والحياة الدنيا، ما هو إلا صورة ومقدمة تمهد للملكوت السماوي الممثلة في (الجنّة). فبينما تجمع مملكة داود الملك الأرضي والسماوي في مكان واحد هو أورشليم؛ يفصل الاسلام بين الملكوت الأرضي (الخلافة) والملكوت السماوي (الجنّة)، من جهة، ومن جهة أخرى، تشترك كل من دولة الخلافة [الحاكمية الالهية عند سيد قطب] والجنة السماوية في نظام الحياة والمكافآت والأجور المادية [طعام وشراب وجنس، وكلّ ما تشتهي نفس].
*
ألم تكن عبارة "وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا." بسيطة وبريئة بما فيه الكفاية؟..
كيف أخذت الفكرة إذن، بعدا دينيا/ سياسيا، وأحيطت بكم من الشروط والأعباء والاسقاطات العرقية العنصرية والملذات المادية والجسدية ناهيك عن ضمير العبودية الواضحة.
يمكن طرح هذا السؤال بشكل أكثر وضوحا حول علاقة الانسان بالمكان. لكلّ طفل مكان ولادته. قد لا يكون لهذا المكان سور أو جدار مادي يحيط به، لكن له تحديدا معنويا نفسيا لدى الشخص والجماعة المنضوي فيها. ومن خصائص العلاقة (العناية والمحافظة/ المحبة والارتباط)!. هذه العلاقة التبادلية بين الانسان والمكان لها درجة عالية من النقاء والوفاء، ولا تتخللها شائبة أو وصاية ثانوية أو خارجية.
بيد أن هذه العلاقة تعرضت للاختراق والتدمير من قبل الدولة والمؤسسة الدينية. كلّ من هاتين المؤسستين – على حدة- قام بمصادرة فكرة الأرض/ (الفردوس) بطريقة أو بأخرى، وجعل نفسه المالك المطلق للأرض. بيده صكوك الملكية والتمليك والايجار والنفي. ومن منطلق ملكية الأرض وما عليها، تحوّل الانسان الموجود على تلك الأرض عبدا للمالك ولشروطه. ووجدت جملة من واجبات وأعباء وشروط وضرائب قهرية على ابن الأرض أداؤها للوصي/ الوكيل الجديد على الأرض.
فمعيار الملكية والجشع هو مبرر ظهور كلّ من الأديان والدول وما يتعلق بهما، سعيا وراء تحقيق مكاسب مادية دنيوية دانية دنية. فالدين والدولة – الشريعة والقانون- هما القفطان الذي يرتديه الاقطاعي والرأسمالي في تسخير المصلحة العامة للمصلحة الشخصية.
من هذا المنظور يمكن فهم كيفية تحوّل (الفردوس) إلى (جحيم) و(الجنّة) إلى (نار هاوية) بوجود مزيد من الزبانية والمرزبانات والأمراء والخلفاء والاقطاع والسراكيل والوكلاء. وبفضل الديني والسياسي ظهرت فكرة الجحيم والعقوبات والعبودية والارهاب والاضطهاد والاستلاب والاغتراب. بفضل الديني والسياسي صارت المسافة ما بين الفردوس والجحيم والوطن والمنفى -مجرد شعرة-!.
هذه العلاقة البراغماتية بالأرض المؤطرة سياسيا بدولة تحكمها طبقة راسمالية تجارية دينية، انعكست على ضعف الترابط الاجتماعي وعدم نضوج مفهوم [شعب/ أمة] – سيما في الحال العربي-، وهشاشة الصلة بالمكان، مع قوة عوامل الطرد السكاني، التي دفعت عديد اليهود والمسلمين للهجرة حيث مراكز الجذب والحصول على فرص أفضل للحياة واشباع الحاجات والملذات المادية.
السؤال هنا: أن الفردوس كان منذ ظهور فكرته ظاهرة أرضية، فكيف تحوّل إلى فكرة ميتافيزيقية ذات إطار مقدس!.
*
الفردوس.. حالة (ذهنية) وليس مكان!
[The Paradise is a State of Mind!]
الفصل بين المادي والروحي، هو أساس الفلسفة المسيحية. العمل على استعادة الفردوس المسروق [anthropocentric] إلى أصله السامي [theocentric]، حيث الفردوس هو ملكوت روحي مركزه حياة الانسان الفرد، ويحتل حضور الربّ قلب الملكوت. ان طبيعة الملكوت المسيحي هي روحية (لأنّ الله روح!)، وجوهر هذا الملكوت هو المحبة (لأنّ الله محبّة!) (أما ثمر الروح فهو محبة!)، وحياة الانسان هي ثمر المحبّة. وكلّ ما يتنافى مع المحبّة الالهية فليس من الله. يقول موقع (JHM) ان لله مملكة، تلك هي ملكوت الله. ولهذه المملكة ملك، هو السيد يسوع المسيح، ولها دستور هو الكلمة الالهية، ولها شعب هو شعب المسيح، شعب كهنة وقديسين!.
وتؤكد كلّ من المسيحية اليسوعية واليهودية الكابالية على الجوهر والأساس الروحي للملكوت والوجود والحياة.
ان العودة إلى الفردوس تعني استعادة طبيعة آدم الأول القديم [Adam Kadmon]. وطريق العودة هو الروح، ليس بالعبادة فحسب [تسجدون بالروح!]، ولكن بالحياة عامة [اسلكوا بالروح!]. وترجمة الروح هي المحبة، جوهر الوصية العظمى (أحبّوا بعضكم). فـ "لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ!"- (1 يو 3: 18)، هناك حيث "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ."- (غل3: 28)
*
فكرة الفردوس هي جوهر انشغال الانسان في حياته وتفكيره وبحثه العلمي وتاملاته الأدبية وانتاجه الثقافي. الفردوس هو الحلم. وحسن أن يكون للانسان حلم!.. حلم يلتقي فيه الفقدان والأمل، الماضي والمستقبل.
الحلم والأمل كانا وراء سعي القدماء من حكماء وفلاسفة للبحث عن سبل ارتقاء مدارك البشر وتجويد سلوكهم وتعاملاتهم، وتمثل (جمهورية أفلاطون) [428- 348 ق م] أحد المحاولات المتقدمة في هندسة مجتمع الفضيلة. وفي عصر الافلاطونية الجديدة يذكر كتاب (مدينة الله) لأوغسطين [354- 430م]، وكتاب (المدينة الفاضلة) للفارابي [872- 950م] في عصر الأنوار العباسي. وصولا الى(الفردوس المفقود) ملحمة جون ملتون المنشورة في عام (1667م) في أكثر من عشرة آلاف بيت. و(الأرض الخراب) لأليوت المنشورة عام 1922م، ورواية (1984) لجورج أورويل الصادرة عام (1948م).
لكلّ طفل تصوّره عن جمال الحياة والمستقبل المشرق. والانسانية عموما عاشت على حلم فردوس ما، يبرر هذه الحياة ويسبغ عليها معنى، فإن لم يكن المستقبل والفردوس أجمل من هذه الحياة وأسمى، فأي معنى له؟!
ولعلّ المغزى يكمن هنا، لماذا يتجه الحلم نحو الماضي، ولماذا يتعلق بالطفولة. ليس الطفولة الشخصية إذن، انما طفولة الانسانية الأولى. كما تناولها سيجموند فرويد [1856- 1939] محورا في ابحاثه الرائدة عن التحليل النفسي وتفسير الأحلام. هنا يقتضي وقفة أطول لتأمل العلاقة بين الحلم والواقع، الماضي والمستقبل، كثير من البشر يتمنون أن تكون حياتهم كما في الحلم، ولكن هل يمكن أن يكون المستقبل المنشود، نقطة غائرة في قاع ماض بعيد، أدنى إلى الغيب منه إلى الاحتمال!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية