الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنفى هو الجسد..

سامي فريدي

2015 / 2 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سامي فريدي
المنفى هو الجسد..
عمانوئيل (16)
نمو برعم على غصن.. قلما يستوقف الملاحظة!.
ظهور فسيلة من جانب جذع نخلة، ظاهرة مدهشة، لكن الفلاح ينظر إلى الثمار والفوائد المترتبة عليها، أكثر من شيء آخر.
خروج فرخة من بيضة ظاهرة يتسلى بها الأطفال، أما تكاثر الفيران والقطط وهي تجر أفراخها.. ولادة عنزة أو حصان.. فهي تختلف عن النبات والبيض الذي يفكر الناس في التهامه قبل ان يفوت موعده.
يستخدم الطب الحديث مصطلح (التلقيح) أو (الاخصاب) لوصف التفاعل الجنسي الذي ينتج مولودا من نوع الأبوين. ويكاد لا يختلف مفهوم التلقيح عن الانبات بالتفسير العلمي. لكن المهم هنا ليس [ماذا/ كيف] الذي اهتمت به العلوم والمعارف الطبيعية، ولكن (لماذا)!. هذا هو اللغز الأساسي الذي يختفي وراءه المعنى. ما معنى ذلك، ولماذا يحدث بدون توقف!؟..
فالأرض مليئة بالنباتات والحيوانات والبشر، وكلها تحدث بفعل الطبيعة، ولا فضل لأحد في ذلك. الحيوانات تلتهم النباتات، والانسان يلتهم النباتات والحيوانات، والكوارث تحدث وتدمر الأرض وما عليها.. سواء كانت بفعل -ثورات- الطبيعة أو حروب البشر وصراعهم وتجاربهم الذرية والكيمياوية والبيولوجية. لماذا؟.. لماذا لا يسأل الناس السؤال الذي سأله وليم بليك؟.. لماذا يخلق الله حيوانات جميلة لتكون طعاما لحيوانات متوحشة، ولماذا يفترس البشر الحيوان والنبات ويعتبرونها من مظاهر البذخ والسيادة، ولا يفكرون أن لها حياة لا تختلف عنهم.
عندما يفترس الكائن الحيّ كائنا حيا فليس ثمة معنى للحياة!. الكلّ سيموتون ويندثرون عاجلا أو آجلا، بطريقة أو بأخرى.
كم من البشر، صحا على نفسه أمام هذا السؤال واتخذ قرارا بوقف تناول اللحوم مثل برناردشو؟!.. في عصر ثقافة السوق الاستهلاكية يشيع تناول اللحوم أكثر من أي زمن آخر، ومعظم طلبة المدارس يحملون أطباق لحوم الوجبات السريعة في طريق خروجهم من المدرسة [ماكدونالد، همبرغر، هوت دوغ، كي اف سي، مستر فيش، شاورما]، وكلما زاد تناول المرء للحوم ازداد وحشية، حسب الدراسات العلمية، فماذا عن صورة المستقبل؟!..
*
فكرة خروج – حواء- من ضلع (آدم) أو من صدره تنتمي إلى الأساطير الأوليغاركية أكثر منها حدثا تاريخيا أو علميا أو وصفا لظاهرة طبيعية. لكن خروج -الحيّ من الحيّ – ليس من الصدر ولا من الفم، ولا ينزل من السماء، أو يصعد من الماء في سلة، كما في قصص الأطفال، ظاهرة لا تخلو من تعجيز عقلي – بل صدمة شعورية-!. لحظة الولادة هي لحظة قهرية تستثير الشفقة والرأفة وتدفع بنوع من مشاعر الندم أن لم تكن مشاعر العدمية والعبث الوجودي.
الانسان لا يشعر بعذاب الحيوان خلال الحمل والولادة، ولكن يتاح له ذلك في الحالة الانسانية. وإذا كان الحمل – هونا على هون- فأن آلام المخاض والطلق والولادة فوق احتمال الجسد، بحيث أن بعض النساء تموت بسببها. وهنا تحضر المقارنة بين لذة الممارسة الجنسية وآلام الوضع المرتبطة بها عضويا، مهما حاول المرء التملص منها أو لجأت بعض النساء لتهوينها لغرض ما.
ذلك الألم الموصوف بالفظاعة هو الحجاب الذي يلف لغز الوجود الانساني. الحياة ليست لذة ولا تسلية أو نكتة، ولا أمرا يبعث على البهجة. ذلك الألم الذي يولد من خلاله الأنسان، إلى الألم الذي يحمله عبر الموت للمجهول. ليس نكتة، ولكنه تجاهل المخلوق العاجز عن تقرير وجوده. الانسان عندما يعجز عن فهم أو إدراك شيء ما يحيله إلى نكتة ويبدأ بالضحك!!.
المفارقة هنا ان التوراه لم تعدم الربط بين (آلام الحمل والوضع) وبين الخطيئة [تك3: 16؛ مز51: 5]. الولادة ايضا تستحضر وقوع الوليد – بوضع مقلوب- على رأسه وعلى وجهه –السيقان فوق والرأس دون، والظهر فوق والأمام دون-(!!). والأمر لا يخلو من مغزى في أدق تفاصيله الجديرة بالتأمل والبحث.
في فكرة الولادة أيضاً يحضر (الجنس) بقوة عند الانسان، وتحضر أسئلة الجنس والوجود واللماذا!.
ان مغزى قول يسوع: "طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ!"- (لو23: 29) يبقى عميقا وعصيا. يقابله قول المعرّي:"جنى عليّ أبي وما جنيت على احد!".
هل قصد أن الأب يكون جانيا/(مجرما)! ليس بسبب آلام الحمل، وانما بسبب مسؤولية العذاب الذي ينتظر الوليد!. لذلك عفّ يسوع والمعري عن الزواج عاكفين على الزهد في كلّ شيء ما عد الفكر. وكما يعتبر العلماء يسوع المسيح الأكثر ذكاء بين البشر، يعتبر المعرّي الأكثر ذكاء في تاريخ العرب. الفارابي الملقب بالمعلم الثاني – بعد أرسطو- هو الاخر عاش عازبا بستانيا زاهدا حتى وفاته، ومثله المتنبي والرّصافي وكثيرون في قائمة الفلاسفة وكبار المفكرين والزهاد.
المغزى الحقيقي للممارسة الجنسية هو حنين العودة للرحم، الأمنية المستحيلة لاستعادة (حالة) ما قبل الولادة؛ حالة الجنين أو حالة (العدم) قبل تكوّن الجنين. فالفردوس الحقيقي هو –(رحم) (الأم)- الممثل حالة (اللاتكون) –[En Sof]. لذلك اعتبر فرويد التصاق الطفل بثدي الأم تعبيرا جنسيا، بمعنى حنين/ شوق استعادة/ امتلاك الرحم. ويبدو أن الطفل يكافح كفاحا مريرا في بداياته لاستعادة حالة الرحم او العودة من حيث أتى.
وهنا تساعد الرضاعة في تسكين/ خداع الطفل عبر المادة المسكرة في حليب الأم التي تدفعه للغفوة تدريجيا على صدرها ومواصلة فردوسه الذهني عبر الحلم في سفينة النوم. هذا الخدر – اللذيذ- هو وظيفة الفعل الجنسي لنسيان الحياة ومتاعبها ومهانتها.
ولعلّ هذا هو السبب ان الطبقات الكادحة التي تشقى وتحتمل المهانة على جادة الحياة أكثر ميلا لممارسة الجنس. ثمة صلة بنيوية عميقة إذن وعلاقة رياضية طردية بين القهر والجنس. ويميل بعض الأزواج لافتعال الخصومة والفراق -المؤقت- لمضاعفة الحافز الجنسي بينهما، ومن النساء من تلجأ إلى تقريع زوجها بكلمات مهينة تعرض بفحولته لتحفيزه للقفز فوقها.
تبقى الولادة والرحم والجنس والشقاء شراشف تلفع سؤال المغزى وعبث الوجود!.
*
إشكالية الانسان أنه جسد. إشكالية وجوده التصاقه بالجسد، وأنه غير قادر على الانفكاك منه – إلا بالموت-. المشكلة أن للجسد حاجات ومتطلبات غير نهائية وغير قابلة للالغاء [متعددة- مستمرة]. أول شيء يتفتق عنه وعي الطفل هو جسده، وأول شيء يعرفه الطفل هو جوعه، والجوع أول صور الشعور والوعي و- الحاجة- الأنانية. البعض يولد ويموت، وهو لا يعرف أو يتجاوز هذا الشعور البدائي الأول.
لكن الجسد [تجسّد- أخذ جسدا] ليس خصوصية الانسان فحسب. فالحيوانات والنباتات أيضا لها جسد، ولها حاجات جسدية، ومعظمها يولد ويفنى في دائرة الجسد. لا أحد
قادر على التخلص من الجسد أو الخروج منه أو تجاوزه. وجوده محدد بكيانه المادي ، وفناء الجسد نهايته. أما الانسان فهو غير ذلك. أنه يولد بالجسد، ولكنه لا يموت بموته، ولا ينتهي بنهايته.
الحيوان لا يستطيع أن يكون انسانا بمجرد رغبته أو إرادته – وهو يفتقدهما في الأصل -. ولكن الانسان قادر أن لا يكون حيوانا برغبته وإرادته وقدرته.
للانسان شعور بالذات، تعبيره الحاجة، ومفتاحه الجوع، وغايته البقاء والتفاضل.
للانسان وعي، عقل، رأي، فكر، اختيار [يحب أو لا يحب/ يريد أو لا يريد/ يفعل أولا يفعل/ يوافق أو لا يوافق!]. وعلم النفس يلخص الانسان بكلمة واحدة: إرادة!
الانسان يكتشف ويزرع، يصنع ويبتكر ويؤسس ويبني، يغير صور الأشياء ويجدد صورها ويطوّر أشكالها ووظائفها وأنظمة عملها.
الانسان قادر وخلاق ومغيّر ومجدّد. الانسان يستطيع ويريد.. يستطيع.. ويريد.. ولكن..! حاجة الانسان الحقيقية ليست الجسد، وانما المعنى، والمعنى غاية. وعندما يكون المعنى غاية يكون الجسد وسيلة، مجرد وسيلة. ومشكلة الانسان التمييز بين الوسيلة والغاية!. هل هو في خدمة الوسيلة، أم في خدمة الغاية؟.
ومن هذا المنظور يمكن تعويض العلاقة بالجسد، بتهذيب العلاقة بالحاجات الحسية عبر التنظيم والاختزال والاقتصار على الضرورة!.
*
لقد ساعد المجتمع في تحرير الفرد من ربقة الحاجات الأساسية بتسهيله توفيرها، وبالتدريج وجد الفرد نفسه عبدا لتقاليد الجماعة ومتطلبات النظام العام. وبلغ الأمر إلى حدّ فقدان الفرد لحريته. فهو (يكاد) لا يستطيع أن يوجد بلا جماعة!. الجماعة هي القبيلة- الدين- الدولة- الحزب- المنشأة الاقتصادية. بل أن كلا من هذه ظهر لتحرير الفرد من حلقة اجتماعية معينة ثم تحول إلى حلقة عبودية جديدة. رسالة المسيح قامت على أساس أن (الروح) تحرر الانسان من عبودية المادة والجسد. وأن الوجود الحقيقي هو وجود روحي خالد فيما المادة متحولة زائلة. واعتقد البعض أن (العمل) مفتاح الحرية. ولكن الانسان ما يزال عبدا للمادة والجسد والعمل والجماعة.
دوامة، حلقة مفرغة، يعيش الانسان في داخلها، وما من فكرة أو وسيلة تأخذه خارجها..
من هنا يستعيد –لاوعي- الفرد يوتوبيا الرحم ويجعل له معادلا موضوعيا أكثر احتمالا، هو فكرة المغارة/ الغار، ذلك الرمز الذي استدرج الميث [mythos] والفكر الديني لاحقا. الغار/ المغارة حيث يعتكف الزهاد والانبياء والرهبان معتزلين العالم، نظير غير مادي لرمز البرية/ الصحراء/ الجبل. الوحي والرسالات والأفكار المقدسة تولد من هناك، الانبياءوأبطال الأساطير يولدون من هناك. الامتياز أنهم يستطيعون معاودة دخول الغار/ المغارة/ الصحراء/صعود الجبل مرارا للهروب من العالم والاجتماع إلى الجنّ والملائكة وحوريات الفكر. لكن الرحم لا يسمح بالعودة إليه بعد الخروج منه.
الغار والمغارة والصحراء هي كناية أخرى عن تشبيه الأنثى بالأرض. علاقة بين عمل الفلاحة والجنس. الانبات في الحالتين، الانغماس في لحم التربة، واالانتظار اللذيد لولادة البرعم. السهر والسقي ومناجاة القمر والليل والنجوم. ثمة حالة بحث وتسكع خلال الأفكار والتصورات والأخيلة والأحلام. حالة من القهر والعجز والهزيمة والعناد والمطاردة.
في هذه الزاوية الضيقة ظهرت فكرة التمرد على المجتمع والتكنولوجيا ممثلة في فكرة الزهد والتصوّف، العودة إلى البرية أو الحياةعلى أطراف المدن. حيث حياة الفضيلة ونبذ الملذات الحسية هي أساس فكرة التصوف.
*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيا الأرض
ماجدة منصور ( 2015 / 2 / 15 - 07:06 )
لا خلاص للإنسان الحقيقي..إلا بالعودة الى أحضان أمه الأرض0

نحن ولدنا بأصابع كي تقطف الثمار و الخضار0

لم نولد بأنياب..تنهش اللحم0
لتحيا الأرض..أم البشر

اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات