الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر والدولة الإسلامية داعش

خليل كلفت

2015 / 2 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


مصر والدولة الإسلامية داعش
بقلم: خليل كلفت
1: يبدو أن حقبة سياسية، من الصعب بل من المستحيل أن يتكهن أحد بمصيرها، قد بدأت بالفعل مع ظهور الدولة الإسلامية داعش، التى لم تَعُدْ "فى العراق والشام، فقط، ومنظمات إسلامية إرهابية أخرى، وكلها امتدادات لجماعة الإخوان المسلمين، داخل مصر، وحول مصر، وفى العالم. وإذا لم تتمكن مصر، والعالم العربى ومحيطه غير العربى وحتى ما وراء هذا المحيط، من الخروج من هذه الحقبة الرهيبة سالمة، أو بأقل الخسائر الممكنة، فإن شعوب هذه المنطقة الواسعة والمهمة من العالم ستشهد عصرا مظلما طويلا على طريق التدهور والهلاك.
2: ومن الجلىّ أن مصر صارت الآن محاصرة من جانب قوى الإسلام السياسى من جميع الجهات: من الداخل المصرى الإخوانى فى سيناء والعاصمة والمحافظات مدعوما من الشرق بالإرهاب الإسلامى الإخوانى الحمساوى، على خط يمتد جنوبا حتى اليمن، ومن الغرب الليبى الداعشى، ومن الجنوب السودانى والصومالى، بتواطؤ قصير النظر من جانب الإمپريالية الأمريكية والأوروپية، بالأخصّ منذ ثورات "الربيع العربى"، وبأخصّ الأخصّ منذ الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، حيث انفتحت منذ ذلك الحين أبواب الجحيم على مصر وحكمها الجديد بقيادة المشير عبد الفتاح السيسى.
3: ولا يمكن بالطبع أن نتحدث من زاوية ضيقة عن مصر وحدها وكأن الإمپريالية الأمريكية والأوروپية وحلفاءهما، بالتحالف مع الإسلام السياسى الإخوانى القاعدى الداعشى، ستكتفى بالسيطرة على مصر وابتلاعها تماما. ذلك أن الهدف الأمريكى الإخوانى الكبير هو السيطرة على المنطقة العربية ومحيطها غير العربى الممتد من تركيا إلى پاكستان مرورا بإيران وأفغانستان؛ وكلها محكومة أو شبه محكومة بالإسلام السياسى. ويتمثل الهدف الأبعد للتحالف الغربى الاستعمارى فى السيطرة الإستراتيچية السياسية والأيديولوچية والعسكرية والاقتصادية النفطية والمالية والتعدينية والمائية، والسيطرة على طريق التجارة العالمية من المحيط الهندى إلى البحر الأبيض المتوسط مرورا بمضيق باب المندب والبحر الأحمر، وقناة السويس، وبالعكس. ونظرا إلى أن مصر هى بوابة كل هذه الأهداف الاستعمارية بحكم موقعها الإستراتيچى، وحجمها السكانى، وقوتها العسكرية بالمقارنة مع بلدان المنطقة العربية، وتكوينها الثقافى، وثقلها الحضارى، فإن من المنطقى تماما أن يتم التركيز عليها خاصة بعد القضاء المبرم على سوريا والعراق واليمن والصومال والسودان وفلسطين وأفغانستان. ولكنْ لماذا لم تضع الإمپريالية وتنفذ هذا المخطط منذ وقت طويل مادام يمثل هدفا مهما من أهدافها؟ والجواب هو أن تداعيات ضرب العراق والثورات الشعبية فى المنطقة فتحت أبوابا لم تكن مفتوحة بهذه الصورة بسبب الضعف الهائل المفاجئ للبلدان المعنية ولم تكن بالتالى مفتوحة أمام التنفيذ العملى المباشر.
4: وتدفعنا دفعا إلى أن نتصور وجود تحالف أمريكى أوروپى مع الإخوان وامتداداتهم فى كل مكان تلك الروايات المتواترة عن وجود مثل هذا التحالف بهدف توظيفه لصالح أمريكا وإسرائيل وأوروپا، ويمكن استنتاج وجود تحالف أمريكى إخوانى منذ تاريخ طويل من علاقات الإخوان مع بريطانيا عندما كانت تحتلّ مصر، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة بعد صعودها إلى وضع القوة الدولية العظمى الأولى فى إطار القطبية الثنائية، وكذلك من وقوف الولايات المتحدة إلى جانب الإخوان بصورة مكشوفة فى سنوات ما قبل ثورة يناير وما بعدها، وكذلك من واقع أن ضعف الإسلام السياسى الإخوانى فى مصر فى الصراع المحتدم على سلطة الدولة يجعله فى حالة إعادته إلى الحكم طوع بنان أمريكا وإسرائيل اللتين يمكنهما أن تنتزعا منه مكاسب لم يكن من الممكن انتزاعها حتى من مبارك على الأرض المصرية والعربية حيث تتواتر الروايات عن قبول حكم الإخوان فى مصر بالمشروع الإسرائيلى المتعلق بتهجير قسم من سكان غزة إلى سيناء، تمهيدا بالتأكيد لهدف أكبر. كما يمكن التحالف على النطاق العربى كله مع مصر إخوانية أكثر من مصر السيساوية التى أخذت تتجوَّل خارج السور. ولهذا التحالف على كل حال سبع فوائد متنوعة متبادلة للطرفين الإسلامى والاستعمارى.
5: فهل تملك مصر منفردة أن تصمد أمام هذه الهجمة الكبرى عليها من إسلام سياسى عجز كل رؤساء مصر بعد حركة 23 يوليو 1952 عن وقف تقدمه فى وقت تعانى فيه مصر من أزمة سياسية واقتصادية وأمنية كبرى؟ وما الخيارات التى أمامها؟ ثم هل سيكون بوسع الحكم الجديد أن يتقدم فى مجال التصدى للإخوان المسلمين أو فى مجال التحالف مع روسيا والصين لتقديم عون حاسم، أو فى مجال تقديم تنازلات كبيرة لأمريكا بصورة تُرْضِيها، ولكنْ بعيدا عن اقتسام السلطة مع الإسلام السياسى بكل نتائجه الكارثية على الحكام الحاليين من خلال إحلال إخوانى شامل محلهم بعد "ذبحهم"، دون أن ترتفع المعارضات المصرية إلى مستوى التحدى كصف واحد للتحدى الإخوانى، خاصة فى ظل هذا المزاج الثوروى الذى أوجدته فجوة يصعب ردمها بين المعارضات الشبابية والسلطة الجديدة إلى حد استعداد بعض هذه المعارضات للعبث ببقاء الشعب أو بتحويله إلى أفغانستان أخرى فى المنطقة تفاديًا لديكتاتورية عسكرية يرونها قائمة أو قادمة، ولا أدرى كيف تصوَّروا احتمال وجود رأسمالية متقدمة أو تابعة بدون ديكتاتورية عسكرية؛ على غير القانون الاجتماعى الذى يُحتِّم وجود الرأسمالية والديكتاتورية العسكرية مترابطتين معًا فى كل مكان فى العالم!
6: وقد تعرضت مصر ذات يوم، فى عهد عبد الناصر، لما تتعرض له الآن فى عهد السيسى. بل يمكن القول إن ما نتعرض له الآن أخطر بكثير مما تعرضنا له فى عهد عبد الناصر. ذلك أن الضربة الأمنية القاسية التى وجهها عبد الناصر إلى الإخوان فى الخمسينات والستينات، لم تمنع، لأنها كانت ضربة أمنية خالصة، من عودتهم بقوة مضاعفة فى عهدىْ السادات ومبارك؛ الذى يجب أن يُحاكم على أنه أضاع مصر لأنه فتح الأبواب على مصاريعها أمام النمو الاقتصادى والسياسى والنقابى والمجتمعى وحتى العسكرى للإخوان المسلمين فى عهده. أىْ أن الإسلام السياسى الإخوانى لم يكن قد نجح بعدُ فى عهد عبد الناصر، فى التخريب الأيديولوچى والسياسى والمجتمعى الشامل لمصر، رغم عقود من وجود ونشاط الإخوان قبل ذلك، ولم تكن تحالفاته الإقليمية والعالمية قد توثقت بعدُ إلى هذا الحد.
7: ومن ناحية أخرى، وهى الأهم، لا تتمتع مصر الآن بمثل ما تمتعت به فى ذلك الحين من وضع إقليمى ودولى. كانت مصر فى ذلك الحين فى فترة الاستقلالات والتحرر الوطنى وعدم الانحياز، وكان عبد الناصر زعيمها بلا منازع، وكان يتمتع بشعبية جارفة فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث، والأهم من كل ذلك أن التنافس بين القوتين العظمَيَيْن كان يسمح للبلدان المستقلة حديثا ومنها مصر باللعب على حباله. فعندما رفضت أمريكا تسليح وتدريب جيشنا، ورفض صندوق النقد الدولى تمويل بناء سدنا العالى كان بوسع عبد الناصر أن يتجه إلى الاتحاد السوڤ-;-ييتى، وتواصل هذا الاتجاه بالتسليح والتدريب وإقامة مشروعات اقتصادية كبرى. وعندما تراجع دور الاتحاد السوڤ-;-ييتى وانهار فى نهاية المطاف لم يكن أمام السادات إلا التصرف على أساس أن تسعًا وتسعين فى المائة من أوراق اللعبة صارت فى يد الولايات المتحدة، وكانت إسرائيل تحتل سيناء. ولأن أمريكا كانت تهدف فى ذلك الوقت إلى إعادة مصر إلى حظيرة الغرب وتكريس وجود إسرائيل فى المنطقة من خلال دورٍ لمصر، ولم يكن هدفها فى ذلك الحين التدمير العاجل والتفتيت الفورى لمصر وفقا لبعض التوقعات.
8: وفى المقابل تعيش مصر الآن فترة من الأزمة الاقتصادية والأمنية بصورة مضاعفة بحكم التداعيات المنطقية التى كانت محصلة صراع ثورة يناير والثورة المضادة. ومع هذا تتمتع مصر بدولة أنضج وأكثر تطوُّرا بالمقارنة مع دولة كانت فى مرحلة من مراحل تجديدها لنفسها فى عهد عبد الناصر بعد ثلاثة أرباع قرن من الحكم البريطانى. ولدى مصر الآن جيش أقوى مائة مرة من الجيش الذى كان لدى عبد الناصر، وخبرة سياسية ومخابراتية لم تملكها مصر فى ذلك الحين. ولديها بالطبع ما تحقق من ضربٍ للإخوان وتقليصٍ لدورهم التخريبى من الداخل. كما يتمتع الجيش بقيادة السيسى بقدر كبير من الشعبية بفضل دوره فى الإطاحة بمبارك تحت ضغط الثورة الشعبية، ولم يكن الجيش يرغب فى الإطاحة به قبل الثورة، وبفضل دوره فى الإطاحة بالحكم الإخوانى بتوظيف موجة من موجات الثورة أشرف بعمل دءوب على تعبئتها وتوجيهها وتطويرها لضرب الإخوان، لأن الصراع كان عدائيا ومحتدما ومريرا بين الإخوان والجيش الذى كان يواجه خطر الأخونة على الجيش والدولة والشعب ومستقبل مصر كله.
9: ورغم أن الجيش المصرى هو أقوى جيش فى العالم العربى، ورغم شعبيته التى لا ينكرها إلا جاحد يفتقر إلى كل موضوعية، فإن جيشنا لن يكون قادرا وحده على الصمود أمام الحصار الإخوانى الداعشى من كل الجهات خاصة فى حالة الدعم الأمريكى للإخوان بالمال والسلاح والمعلومات الاستخباراتية والدپلوماسية وربما العسكرية. وتتمثل أكثر السيناريوهات خطورة فى انضمام أمريكا بقوة إلى قوى الخلافة الإسلامية للسيطرة بها على المنطقة. وهناك من يتشدقون بأن شعبنا وحده كفيل بإلحاق الهزيمة بكل هذه القوى غير أن الحرب متى بدأت تحتاج إلى العمل العسكرى الفورى المحترف فى المحل الأول رغم الدور المعروف للشعوب فى الحروب الشعبية على مدى أطول. وها نحن نرى الشعوب والأنظمة وحلفاءها بقيادة الولايات المتحدة تحارب طالبان والقاعدة وشباب الصومال وبوكو حرام وغيرها طوال عقود، وداعش منذ سنوات، دون أن تحقق هذه الشعوب والأنظمة والولايات المتحدة نصرا حاسما.
10: ولا مناص أمام القيادة المصرية فى حالة أسوأ السيناريوهات من اللجوء إلى روسيا والصين لتقديم مساعدة عسكرية واقتصادية لوقف أو هزيمة هذا الهجوم الكاسح. وصحيح أن نظام القوتين العالميتين المتكافئتين انهار مع انهيار وتفكك الاتحاد السوڤ-;-ييتى نتيجة تناقضات كبرى بداخله وبداخل توابعه وكذلك بداخل كل البلدان المسماة بالاشتراكية فى ذلك الحين، وصحيح أن الولايات المتحدة عربدت فى العالم فى زمن القطبية الأحادية فى فترة ما بعد الحرب الباردة فى مجال مفتوح أمامها دون منازع. غير أن هذا الوضع بدأ يتغير بشدة مع ظهور أو انبعاث قوى اقتصادية وعسكرية كبرى (خاصة الصين وروسيا) بصورة من شأنها إعادة التعددية القطبية نتيجة لتعدد القوى الكبرى فى العالم. ولهذا صار قدر كبير من اللعب على حبال التناقضات بين قوى عالمية متعددة مفتوحا ولكنْ أمام مَنْ يستخدمها بجسارة وكفاءة. وتمثل روسيا عسكريًّا فى المحل الأول والصين اقتصاديًّا فى المحل الأول جزءًا كبيرًا من حلّ مشكلتنا، وقد بدأت القيادة المصرية الجديدة تسير بالفعل فى هذا الاتجاه، ولا شك فى أن الصين وروسيا تحتاجان بدورهما إلى هذا الباب المفتوح. وبالطبع فإن هذا سيكون دون شك انتقالا من تبعية إلى تبعية، كالمستجير من الرمضاء بالنار، غير أن وضعنا السياسى والإستراتيچى والعسكرى فى معركة كالتى نبدأها الآن يُوجِب علينا مثل هذا السلوك اللاأخلاقى فى حالة الضرورة القصوى أىْ عندما يكون البديل الوحيد هو الهلاك تحت الهجوم الكبير الكاسح من جانب الإسلام السياسى مدعوما بالإمپريالية.
11: ورغم عمل أمريكا على دعم الإخوان المسلمين شرقا وغربا فى حربها مع مصر لإعادة السيطرة عليها فإن احتمال انقلاب القوى الإسلامية على أمريكا فيما بعد، كما حدث غير مرة من جماعات إسلامية إرهابية فى المنطقة، يمكن أن يمثل رادعا كبيرا لأمريكا. وليس هناك ما يدعو أمريكا، والحالة هذه، إلى دعم الدولة الإسلامية داعش الآن ضد مصر أو غيرها. ولا شك فى أن أحد أهداف الولايات المتحدة من وراء توظيف حكم إخوانى فى مصر يتمثل فى تهجير فلسطينيين من غزة إلى سيناء لصالح حليفتها إسرائيل. غير أن إسرائيل، وهى الدولة الأكثر عقلانية والأوفر قوة وتخطيطا فى المنطقة، يمكن أن تحل وحدها هذه المشكلة فى وقت لاحق، بعد أن قضمت وهضمت الضفة الغربية وقطاع غزة وضمتهما بالكامل إلى نفسها بصورة نهائية، رغم التمثيليات الخداعية المتواصلة طوال قرابة ثمانية وأربعين عاما بعد هزيمة 67، حول حل الدولتين (حل المعراخ تاريخيا)، أو حل دولة إسرائيل الواحدة مع منح الحكم الذاتى للفلسطينيين، وهو الحل الذى يتم بالفعل تطبيقه منذ قرابة نصف قرن (حل الليكود تاريخيا).
12: وهناك سيناريوهات أخرى محتملة يمكن أن تردع أمريكا وأوروپا. فأمريكا تقود بالفعل تحالفا دوليا لمحاربة الدولة الإسلامية داعش. ومهما كانت حقيقة الروايات العربية والغربية عن قيام أمريكا بنفسها بخلق وتعزيز الدولة الإسلامية فى العراق والشام، ومهما حققت هذه الدولة بعض المصالح الغربية، ومهما ابتعدت تماما عن المساس بإسرائيل والقدس، ربما رغبة منها فى تحييد أمريكا وإسرائيل فى الوقت الحالى إدراكا منها لحقيقة أنها ستواجه قوة لا قبل لها بها فى حالة تدخلهما بمزيد من العزم ضدها فقد صارت الدولة الإسلامية خطرا على أمريكا وأوروپا فى أعقار ديار الغرب. كما أنه لا شك فى أن أمريكا معنية بشدة بتفادى احتمال لجوء السيسى لحماية مصر إلى روسيا والصين، وهما الدولتان اللتان يعتمد عليهما النظام السورى الشعب الآن، إلى جانب إيران وحزب الله، فى مواجهة الشعب والإسلام السياسى والولايات المتحدة الأمريكية.
13: ومن المنطقى أن لا تتفق مصر إخوانية أو داعشية مع مصالح دول الخليج وحتى مع بقائها. ولهذا فإن من المرجَّح أن تقوم هذه الدول، رغم تداعيات تغيُّر القيادة السعودية، ورغم ما يقال عن التأثير السلبى للتسريبات، بتعزيز قوة مصر باعتبارها حائط الصدّ ضد تهديد داعش الذى يمكن أن يأتى إليها من ليبيا عبر مصر، حتى فى حالة الضغوط الأمريكية على هذه الدول فى اتجاه العكس. ومن ناحية أخرى، تمثل علاقات دول الخليج بمصر مصلحة خليجية فى أىّ مواجهة محتملة بين السعودية والحوثيين أو بينها وبين إيران، مع احتمالات تطور الصراع الإيرانى الغربى (المفاعلات النووية) والإيرانى العربى بسبب النشاط المحموم لإيران بتحالفاتها الطائفية مع الشيعة والزيديين والعلويين: فى سوريا (نظام الأسد)، ولبنان (حزب الله)، وغزة (حماس)، والبحرين ودول الخليج (الشيعة وجُزُر الإمارات التى تحتلها إيران)، واليمن (الحوثيين).
14: وبالطبع فإنه لا يمكن عزل تطور الصراع بين مصر وداعش الليبية، أو ليبيا الداعشية لا قدَّر الله، عن تطور الصراع الإقليمى والدولى الذى يدور ضدها فى سوريا والعراق الآن. ولأن داعش تشكِّل تهديدا ليس لسوريا والعراق فقط، بعد أن انتقلت بسرعة إلى ليبيا ومصر، وتهدِّد بالانتقال إلى بلدان المنطقة كلها، وبالأخص إلى دول الخليج، وتتهور إلى حدّ التهديد بفتح إيطاليا وأوروپا، وتفعل كل هذا بوحشية مروِّعة، فقد صار لا مناص من أن يواصل العالم الحرب ضدها. وعلى هذا فإن نكسات أو نجاحات داعش على أىّ جبهة ستؤثر على قوتها ومعنوياتها على كل الجبهات الأخرى. وتدور المواجهة الأساسية ضدها هناك فى سوريا والعراق وسيكون للمزيد من الضربات المؤثرة عليها هناك تأثيرٌ إيجابى بالنسبة لمصر وقوى مقاومة الإسلام السياسى فى ليبيا. وبالتالى فإنه إذا حدث اختراق كبير ضدها على الجبهة السورية العراقية فإن أمل الانتصار عليها على الجبهة الليبية المصرية سيكون كبيرا بما يُبدِّد الكثير من مخاوفنا التى تقدمت الإشارة إليها.
15: غير أن هذا سيحتاج إلى موقف قوىّ متماسك من القيادة المصرية دون وَجَل. وبالطبع فإن مصر تملك أوراقا مهمة فى هذا الصراع تُضاف إلى القوة الفعلية التى يُضاعفها دون شك ردّ فعل القيادة المصرية على شبح انهيار محتمل للنظام المصرى فى حالة اتخاذه لمواقف متخاذلة. وبين أوراق مصر احتياج دول الخليج إليها فى حالة تطورات من الجنوب (من جانب الحوثيين مدفوعين إيرانيًّا)، أو من الشمال (داعش)، أو من جانب إيران مباشرة. كما تصطدم رغبة أمريكا المرجَّحة لإعادة الإخوان إلى حكم مصر موحَّدة دون تفتيتٍ بتركها لداعش، مع عملها ضمن إطار إخوانى أمريكى أشمل، فمن شأن التفتيت أن يُضْعِف البديل الإخوانى المنشود، بهدف دور كبير لحماية المصالح الأمريكية وتطبيع العلاقات المصرية والعربية مع إسرائيل بصورة أعمق وأسرع.
16: وكانت القيادة المصرية محقة تماما عندما وجهت ضربة جوية كبيرة، لا بد أن تتبعها ضربات بلا هوادة، إلى الدولة الإسلامية فى ليبيا فى أعقاب مذبحة المواطنين المصريين، باعتبارهم مصريين، وباعتبارهم مسيحيين. ذلك أنه حتى إذا كان الرد على عدوان داعش على المصريين فى ليبيا يؤدى إلى التصعيد، فإن من شأن عدم الرد أن يُغْرِى داعش ليبيا وداعش سيناء ومصر إلى توسيع وتسريع العدوان الوحشى على مصر وبالتالى إلى المزيد من التصعيد.
17: إننا نواجه تطورا بالغ الخطورة لأن التصعيد الإخوانى الداعشى سيكون منسَّقا على جميع جبهات ليبيا وسيناء وحماس والداخل المصرى، مع دور مباشر غير مستبعد من الجنوب السودانى. وإذا واصل الإخوان دعم داعش بقوة باعتبار أن إخضاعها فى المستقبل سيكون أسهل بكثير من إسقاط الحكم الحالى فى مصر، مع مزيد من جرّ الولايات المتحدة إلى مثل هذا الموقف، فإن الخطر سيتضاعف.
18: وقد تصورنا بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين فى مصر أن تلك الضربة للإسلام السياسى من شأنه إضعاف هذا الاتجاه مصريا وعربيا وإقليميا وعالميا. غير أن توسيع نطاق حرب الإرهاب على مصر بعد ذلك يضعنا أمام احتمالين متصارعين: احتمال القضاء فى الأجل القصير والمتوسط على قوة وفاعلية الإسلام السياسى الداعشى، واحتمال أن يتضاعف التهديد الإخوانى الداعشى. وإذا تركنا هذا الكابوس جانبا، فإن كسر موجة التمدد الإخوانى القاعدى الداعشى فى الأجل القصير لن يتحول فى الأجل الطويل أو حتى المتوسط إلى واقع جديد مستقر يتراجع فيه كابوس الدولة الإسلامية. وكانت ضربة عبد الناصر للإخوان توحى ذات يوم بأن القضاء المبرم عليهم قد تحقق بالفعل، غير أنهم عادوا أقوى بما لا يقاس بعد عقود تالية. والدرس هو أن الضربة الأمنية لا تكفى.
19: ولا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق التاريخى بالتخلص من تحدِّى الإسلام السياسى دون العمل الحاسم فى سبيل وضع حل العدالة الاجتماعية ورفع مستوى معيشة الشعب والحل الفكرى والثقافى والتنويرى والتوعوى إلى جانب الحل الأمنى فى المدى المباشر بدلا من الاقتصار عليه. وبطبيعة الحال فإن هذه الحلول المترابطة ليست مطلوبة لمواجهة تحدِّى الإسلام السياسى فقط، بل هى منشودة دوما فى سبيل تقدُّم بلادنا وارتفاع مستوى معيشة شعبنا بوجه عام. ولا سبيل إلى العدالة الاجتماعية إلى جانب باقى إستراتيچيات تجفيف منابع الإسلام السياسى دون تقدُّم اقتصادى يرتفع إلى مستوى كسر التبعية الاستعمارية وكل التبعيات المترتبة عليها؛ فما هى وسائل النظام الجديد فى مصر لتحقيق هذه الغايات الكبرى؟ ولا شك فى أن "تجفيف منابع الإرهاب" سيظلّ عبارة بلاغية فارغة بلا محتوًى حقيقى إنْ اقتصر على مصادرة أموال الجماعات الإرهابية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الوهابية السلفية الإرهابية الأخرى أو منع التمويل الجديد المتدفق عليها. فبدون مستويات من الحرية والعدالة الاجتماعية والتنوير والدخول بسرعة فى معركة حاسمة مع فكر أخطبوط الإسلام السياسى وأخطبوط الأزهر، يستحيل تحقيق أىّ تقدُّم فى هذا المجال.
20: ومن البديهى أن هذه الإستراتيجية لن تقلب الأوضاع على الفور بطريقة سحرية بل ستظل هناك بالضرورة فجوة زمنية يمكن أن يعربد فيها أعداؤنا. وبالطبع فإن هذه الإستراتيچية ستظل مستحيلة إذا لم تتحول مصر إلى اقتصاد متقدم هو الأساس المنطقى لأىّ مستوى من مستويات العدالة التوزيعية والاجتماعية التى لا يقدر على تحقيقها سوى اقتصاد قوى حقا، كما أن هذا هو الحل الوحيد للتفاقم الكارثى للبطالة. وتتمثل مشكلة كبرى فى أن التقدم الاقتصادى من ناحيته يحتاج إلى حل مسألة الكادر فى مصر التى تكاد تكون خالية من كل كفاءة فى إدارة كل المجالات: العلم، والتعليم، والإعلام، والطب والصحة العامة، والقضاء، والشرطة، والإدارة العليا والدنيا للدولة، وبالأخص فى مجال الإنتاج والاقتصاد بوجه عام، وفى مجال محاربة الفساد. كما تتمثل مشكلة كبرى فى أن هذه المجالات مترابطة ولا يمكن إصلاح حالها إلا بصورة مترابطة. وهناك حاجة إلى تمويل ضخم للغاية بمبالغ خرافية وفى حالة توفر مثل هذا التمويل نحتاج، نحن المفتقرين إلى الكفاءة، إلى التخطيط العلمى الدقيق والتنفيذ الصارم المنضبط، ولن أحصر هنا بالطبع كل ما نحتاج إليه وكل ما نفتقر إلى الكفاءة فى كل بند فيه. ثم إن علينا أن نقوم بكل هذا تحت ضربات حرب إسلامية إرهابية لا هوادة فيها على مصر وعلى بلدان وشعوب المنطقة بدعم إمپريالى بقيادة أمريكية.
21: وقد صار من الواضح تماما أن الإفقار المتواصل للجماهير قد خلق فى مصر تربة خصبة لنشأة الجماعات الإسلامية الإرهابية، وتوسُّعها المستمر، ونموها السرطانى. كما صار من الواضح أن هذه المستويات الرهيبة من الإفقار لم تكن نتيجة لارتفاع معدل الربح فقط، بل تسلطت على مصر عصابات سياسية لصوصية جعلت من المستحيل حتى الحفاظ على مستوى معيشةٍ أفضل بعض الشيء وإفقارٍ أقل بعض الشيء لأن كل مقدراتنا الاقتصادية أهدرها نهب البرچوازية البيروقراطية والقطاع العام، فى عهد عبد الناصر، ثم الانفتاح وبداية الخصخصة واستشراء الفساد فى عهد السادات، ثم التجريف الكامل الشامل لكل أساس اقتصادى لحياة الشعب وتحويل مقدرات مصر الاقتصادية إلى حسابات لصوص عهد مبارك فى بنوك سويسرا وباقى العالم حيث وصل الفساد والنهب واللصوصية إلى حدودها القصوى المنفلتة دون ضابط أو رابط. وتم كل هذا ليس فقط فى ظل ديكتاتوريات عسكرية وپوليسية عاتية، فالديكتاتوريات العسكرية والپوليسية العاتية تحكم العالم كل العالم، ولكن المقاومة الشعبية للفساد والاستبداد، وهى الآلية التى تمثل كابحا نسبيا فى إطار الديمقراطية الشعبية من أسفل فى البلدان الرأسمالية المتقدمة، ظلت شبه غائبة فى البلدان التابعة ومنها مصر.
22: أىْ أن الدولة التى يتغنَّى بها عَبَدَة الدولة عندنا هى التى نجحت فى التدمير الحالى والمحتمل للبلاد. وكان نظام مبارك الذى حكم القضاء ببراءته هو وأسرته وعصابته، بدلا من أن يقدمهم النظام الجديد إلى العدالة الانتقالية، والذى ضاعف الفقر بنهبه وقهره للحرية والفكر، هو المسئول المباشر عن النمو السياسى والاقتصادى والمجتمعى والعسكرى لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى، إلى حد أن الهدف المباشر لجماعة الإخوان المسلمين كان يتمثل قبل ثورة يناير فى الانقلاب ضد مبارك، إلا أن ثورة يناير أنقذتنا منها، وتكفلت التطورات اللاحقة بقيادة الجيش بالدخول فى المواجهة الحاسمة مع هذه الجماعة لتخليصنا وتخليص العالم منها. غير أن المواجهة الأمنية الخالصة محكوم عليها بالضرورة بالفشل، ما دامت متلازمة الفقر فى كل المجالات تتربع على عرشها، وتنطبق هنا نظرية النجيل الذى ينبت وينمو من جديد كلما تم حَشُّه. غير أن كل هذا لن يكون كافيا. ذلك أن جماعات الإرهاب الدينى الإسلامى وغير الإسلامى، والقومى العربى وغير العربى، فى القارات الثلاث سوف تنمو كالفطر، فتهدد كل الشعوب؛ أىْ أن المطلوب إنقاذه لا يقتصر على مصر والمنطقة العربية، بل يمتد ليشمل إنقاذ شعوب عالم الفقراء، فى كل مكان فى العالم، الأمر الذى يعقِّد المسألة من جديد، إن لم تعمل كل شعوب العالم الثالث، بل كل فقراء العالم شرقًا وغربًا، فى نفس الاتجاه فى سباق أخير مع الزمن، قبل أن يكتسحنا الطوفان الإسلامى الرهيب.
22 فبراير 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - داعش العراق والشام وداعش الانقلاب في مصر
عبد الله اغونان ( 2015 / 2 / 23 - 20:43 )

ما يؤخذ على داعش العراق والشام هو اغتصاب السلطة وبشاعة القتل على الهوية

وهو نفس السلوك الذي يرتكبه داعش الانقلاب في مصر

فما الفرق بين الداعشين

ذلك موضوع واضح ومعروف لأولي الألباب

اللهم ول أمورنا خيارنا

اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع