الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


Organon

سامي فريدي

2015 / 2 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سامي فريدي
Organon
عمانوئيل (20)
أصل اللغة صوت، وهو أساسي لتكون اللغة. ولكن ليس كل صوت لغة. ويتكون الصوت من كن احتكاك الجسيمات [غازية/ سائلة/ صلبة] فيما بينها، سواء كان احتكاكا بينيا – لنفس الجسم- أو احتكاكا خارجيا – لجسمين مختلفين-. فالهواء عند مرور بالجبال أو الأشجار أو البنايات يصدر صوتا. وكذلك حركة المياه على السطوح، أو سحب صندوق من مكانه. فوجود الصوت قديم وشائع كظاهرة طبيعية، وليس قصرا على الكائنات الحية. ويشترط وجود ثلاثة أمور لولادة الصوت، أولهما المادة (جسم) والثاني الهواء وثالثها عنصر الحركة (اهتزاز). ولا يوجد صوت في الفضاءات المفرغة من الهواء أو في ظل انعدام الحركة.
ودالة الصوت هي السماع، فكلّ ما يسمع لا يعتبر صوتا. أما قيمة الصوت فهو اختلافه وتميزه في الأدن. ويختلف الصوت باختلاف قوة الهزة أو سطح الاحتكاك أو تغير طبيعة المادة. مما يدخل في مجال التجارب الموسيقية ودراسات فيوياء الصوت. أما الصوت الحيّ (الانسان) فيرتبط بجهاز الحنجرة التي تحتوي عل أوتار غشائية رقيقة يمرّ خلالها الهواء، فيولد اهتزازها ذبذبات تتولد منها (حروف) تتركب لتوليد لفظة منطوقة ذات دلالة معينة في علم الاتصال هي الكلمة.
تنقسم الأحرف – حسب طبيعتها الصوتية النطقية- إلى نوعين: حرف ساكن/ صحيح [consonant]، وحرف متحرك/ علة [vouel]. ولا بد من اجتاعهما لتوليد اللفظة/ الكلمة. وبحسب أصوات الأحرف يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف: حرف ساكن (س، ص)، حرف متحرك (و، ي)، حرف مركب [متحرك+ ساكن] مثل (لم، قد، عن). وباجتماع مركبات هذه الأصوات تتكون الكلمات وفق أوزان هارمونية.
وفي الموسيقى يدعى الصوت الثابت (الخام) بالنغم [solo]، والصوت المتغير باللحن أو المقام. ويعتمد بناء الكلمة على (تركيب) الأحرف وذلك حسب حسب (أبعاد) رياضية، واختلاف التراكيب والأبعاد (المسافات الصوتية) ينتج اختلاف المفردات والمعاني وجماليات اللغة.
فالصوت قد ينتج بفعل عوارض الطبيعة أو العمليات الحيوية، ولكن اللغة القائمة على مفردات ومعاني ودلالات تخضع لأعمال العقل وتقترن بسلطة الوعي. وهذان أمران مقترنين بالانسان، بوصف أرقى كائن حيّ عاقل. وتميز الحضارة والتطور تفاوت مستويات البشر فيما بينهم. ولذلك كانت بعض اللغات أدوات أساسية للحضارة كالاغريقية القديمة واللاتينية، لكونها أدوات منتجة للمعرفة وآليات التفكير والتواصل.
فمادة الاتصال ما بين الأرض والسماء [+] من جهة، وما بين البشر أنفسهم أفرادا وجماعات هي اللغة. وهذه تنقسم –تقنيا- إلى : [مكتوبة، منطوقة]. وكان فيثاغورس [580- 500 ق م] قد أشار إلى أن الكون يتألف من التمازج بين العدد والنغم. وأن تكرار نقرات متشابهة على سلك مشدود بين نقطتين ينتج نغما هارمونيا، ويمكن تغيير درجة النغم بإرخاء الشدّ. وهذا يقود إلى ملاحظة أهمية فنّ الخطابة في العهدين الأثيني والرومانيوكونها أحد الأدوات الأشاسية للمعلمين والفلاسفة والسياسيين. والخطابة أداة رئيسية كذلك في المسرح الملحمي الشائع يومذاك. ومن خشبة المسرح [stage] وفنون الخطابة اشتقت منصة الدرس وتقديم المحاضرات، أوالخطب السياسية والمواعظ الأخلاقية والدينية.
وقد اختلف فلاسفة الأغريق القدماء في أدواتهم اللغوية وأسالبيهم الخطابية بحيث انماز بعضهم عن بعض، وأصبحت طرزهم وأساليبهم مدارس لغوية وفنية يمكن دراستها ومحاكاتها. كما اختلفوا فيما بينهم بين التعويل على الخطابة والشفاهية مثل سقراط وديوجين أو تدوين أفكارهم وحواراتهم مثل أفلاطون وأرسطو.
ولا تكاد الكتابة تختلف في جوهرها عن الخطابة، وارتكازها على التقليد والمحاكاة والقليل من التجديد والتجريب والابتداع. كما يختلف تقييم الكتابة بين كونها علما أو فنا، وحول مكانتها بين الفائدة والمتعة، من شخص لآخر. وللوقوف على مفاهيم اللغة والخطاب واتجاهاتها اليوم، من مراجعة واعتبار فنون الأقدمين المبدعين والمؤسسين لها وبالشكل الذي راجت وانتقلت ما بين اللغات والثقافات، وتبعا لمراحل النهوض والانحطاط الحضاري عبر العصور.
اشتهر هرقليطس [القرن السادس ق. م.] بالغموض، حتى دعي بـ"الفيلسوف الغامض" طيلة عصور اليونان والرومان. وذلك لأنه كان يستخدم المفارقات والأقوال الشاذة، في لغة مجازية رمزية. وقد لقبه تيمون الفليوسي [300 ق. م.) بلقب (صاحب الألغاز). ويقول عنه أفلوطين: "كان يتكلم بالتشبيهات، ولا يعنى بإيضاح مقصوده".
وكان بروتاغوراس [القرن الخامس ق.م.] يستخدم ما عرف بالمنهج السوفسطائي القائم على الجدل المؤسس على المغالطة والتلاعب بالألفاظ، وهى [السفسطة/ Sophystism]، لأن المغالطة تكون غير ارادية، أما السفسطة، فأنها تكون ارادية لقلب الحقّ إلى باطل و العكس.
عاش زينون [490- 430 ق.م] في بداية عصر السفسطائيين وفد اعتبره أرسطو مؤسس علم الجدل، من حيث أنه كان يسلم بإحدى قضايا خصومه ويستنتج منها نتيجتين متناقضتين ليثبت بذلك بطلانها .
أما ايمبيدوكليس [490- 430 ق م] فهو أبو الخطابة –حسب وصف أرسطو-، ويُعتبر آخر فيلسوف اغريقي يدوّن أفكاره وفلسفته (شعرا). ومن أعماله قصيدتان: [(تطهيرات)، و (عن الطبيعة)]. وقد وصف أرسطو موهبته الشعرية بأنها تنافس هومر نفسه. واعتبره  لوكريتيوس  بأنه مثله الأعلى. وكلا قصيدتاه: [تطهيرات وعن الطبيعة] تؤلفان معاً [5550 سطرا]. ويعتقد بعض الباحثين اليوم أنهما في الحقيقة قصيدة واحدة فقط، وأن الأولى (تطهيرات) -المتكونة من مائة بيت- هي مقدمة تمهيدية للقصيدة  الأصلية (عن الطبيعة).
وقد كان غورجياس - (Gorgias) [487- 380 ق.م] من أشهر معلمي الخطابة في زمن أفلاطون.
كان سقراط [470- 400 ق م] مناصرا لأساليب التواصل  الشفوية، يعتمد اسلوب المحاورات ، وإليه تنسب مفاهيم (السخرية السقراطية) و(المنهج السقراطي) أو المعروف باسم Elenchus))، والتي ترد في الانجيل بنفس اللفظ " صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ!"- (أع9: 5). ولا يزال المنهج الأخير مستخدمًا في مجال واسع من النقاشات. كما أنه يستخدم في (البيداغوجيا/ علم التربية) من خلال طرح مجموعة أسئلة، ليس بهدف الحصول على إجابات فردية فحسب، وإنما كوسيلة لتشجيع الفهم العميق للموضوع المطروح.
أنتيسِتنيس [445 تقريبًا- 365 ق.م] هو الآخر كان يُعرف بنزقه وروحه الساخرة، وتلاعبه بالألفاظ. وهو القائل:"أفضّل أن يلقى بي بين الغربان على أن يلقى بي بين المجاملين. فالغربان تأكل لحم الموتى. أما المجاملون فيأكلون لحم الأحياء!".
ويعتبر افلاطون [428- 348 ق م] المبدع الأكبر لفنون الكتابة والتأليف الفلسفي والذي سلمت أكثر مؤلفاته من الضياع. وتنسب إليه عديد المناهج والنظريات والأساليب المعتمدة في معظم النصوص والمؤلفات الفكرية والدينية. أدرك أفلاطون صعوبة التعبير اللفظى عن الوجود المتعالى الذي يجاوز نطاق التجربة الحسية. لذا فقد لجأ إلى الأسطورة وإلى الصور الخيالية لكي يفسر بها حقيقة هذا العالم العقلى وابعاده المثالية. وكان يشعر في أعماق نفسه بأن العبارات الشاعرية الوصفية التي كان يسوقها لإيضاح حقيقة عالم المثل لن تحقق هذا الغرض على الوجه الأكمل . فقد كان أفلاطون شاعراً بصعوبة التعبير عن مضمون مذهبه لخصوبة الفكرة التي انتهت إليها تجربته الروحية. ولأن اللغة - وقد وضعت للإشارة إلى الموجودات الحسية- لا يمكن أن تصح للتعبير عن عالم مثالى مغاير لعالمنا الحسى في وجوده وطبيعته.
كان أفلاطون كاتبا دراميا قبل اتجاهه للفلسفة، مما انعكس في أسلوبه ومحاوراته السقراطية -نحو أربعين محاورة- بينها سبع وعشرون محاورة موثوقة-. وعناوين مؤلفاته مأخوذة من اسم أحد المحدّثين في المحاورة . يعتبر الكثيرون مؤلفات أفلاطون متفردة في نوعها، لأنها عبارة عن حوار، يساعد في تقريب الكتابة من الكلام، -والذي كان أفلاطون يعتبره أرقى من الكتابة-. ولمحاوراته قيمة فنية، تتميز بقدرة كبيرة على جذب القارئ وتشخيص الناس والمواقف ببراعة. كما تتميز محاوراته بحيوية الكلام الدارج، وهي بعيدة عن أسلوب كتابة الكتب العلمية الجافة، ويصعب فيها التمييز بين المقولات الجادة والسخرية والمزاح. ومن مميزات مؤلفات أفلاطون أيضا أن المتحدثين في محاوراته هم العلماء والساسة والمثقفون المعاصرون له، وهو لم يقل كلمة واحدة في محاوراته (وانما يتكلم من خلال شخوص المحاورة (الرواية)!).
أوجد أفلاطون ما عُرِفَ من بعدُ بطريقة الحوار، التي كانت عبارة عن دراما فلسفية حقيقية، عبَّر من خلالها عن أفكاره. إن فنَّ الحوار والجدل، أو لنقل الديالكتيكا، هو ما يسمح للنفس بأن تترفَّع عن عالم الأشياء المتعددة والمتحولة إلى العالم العياني للأفكار. فعن طريق هذه الديالكتيكا المتصاعدة نحو الأصول، يتعرَّف الفكر إلى العلم انطلاقًا من الرأي الذي هو المعرفة العامة المتشكِّلة من الخيالات والاعتقادات وخلط الصحيح بالخطأ. هنا تصبح الرياضيات، ذلك العلم الفيثاغوري المتعلق بالأعداد والأشكال، مجرد دراسة تمهيدية، يمكن عن طريقها "تفتيح النفس [...] للتأمل وللحقيقة". فالدرجة العليا من المعرفة، التي تأتي نتيجة التصعيد الديالكتيكي، هي تلك المعرفة الكشفية التي نتعرَّف عن طريقها إلى الأشياء الجلية.
وقد استكمل ارسطو [384- 322 ق م] عمل معلمه، وذلك بوضعه علم المنطق الصوري الذي يعتبر أول القواعد التي عرفتها البشرية. وبواسطته يمكن التمييز بين مجموعة من المفاهيم مثل: التصور، وهو فكرة عامة تعبر عن مظهر من مظاهر الواقع. ويعتبر أول فيلسوف قام بتحليل عملية الاستدلال المنطقي  التي تقوم على أساس شكل من أشكال البرهان سماه القياس، الذي هو الأداة أو الوسيلة للمعرفة.
في أول عمل فلسفي خاص به (رسالة في تهذيب العقل)، تناول سبينوزا [1632- 1677م] طبيعة المعرفة وأنواعها، والسبل المناسبة للوصول إلى الفهم الصحيح لكل ما يمثل خير الإنسان. وذلك عن طريق علاجه من أوهامه وأخطائه وتطهيره بمنهج سليم يستطيع التمييز به بين الأفكار الغامضة والواضحة. والأهم من ذلك إثبات وحدة العقل والطبيعة، وأنه ليس هناك أي تناقض بين الروح والجسم والفكر والمادة، تلك الثنائيات التي سيطرت على فلسفة ديكارت.
اهتم نيتشه [ 1844م - 1900م] بالفيلولوجيا كعالم لغوي وشاعر، درس الكتب التاريخية في إطارها التاريخي الصحيح من دون ترجمة. ومكّنته دراسته الجامعية من تحصيل ثقافة كونية شاملة. اهتمامه الأولي كان الكتب الفلسفية اليونانية القديمة. وفي كتابه الأول (مولد المأساة) تحدث عن الأساطير الإغريقية وارتباط الحضارة بالموسيقى. أما كتابه الأشهر(هكذا تكلم زرادشت) الذي اعتبره انجيله الشخصي، فقد مزج فيه شعراً قوياً وحساساً مع مبادئ فلسفية مبتكرة وواقعية، ونداء إلى نظرة فلسفية جديدة، تعيد النظر بالمبادئ الأخلاقية الفلسفية.
في عام 1905 نشر برتراند رسل [1872- 1970] مقالته الفلسفية (عن التدليل) التي تعد نموذجا فكرياً في الفلسفة لشرح الرياضيات بالمنطق.. ولا زال لعمله أثر ظاهر على المنطق HYPERLINK "http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D8%A7%D8%AA"والرياضيات ونظرية المجموعات واللغويات والفلسفة وبالتحديد فلسفة اللغة ونظرية المعرفة HYPERLINK "http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7"والميتافيزيقيا. ويعتبر أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية.
ويعتبر لودفيج فتجنشتاين [1889- 1951] أحد تلاميذ رسل الذي عمل على تفكيك العلاقة بين اللفظ والمعنى، عبر مناقشته أفكار ديكارت، وذلك في عمله الأول [Tractanus] ومراجعاته المستمرة في سنواته الأخيرة. وأهمية نظريته تنبع من تغيير النظرة السائدة حول اللفظ والدلالة، من جهة، ومن جهة أخرى، طرحه لسؤال، من أين/ أو كيف يتولد المعنى إذن؟!..
*
لقد جهد العقل البشري في تأسيس البنى الاركازية لنظم المعرفة وأدوات الاتصال عبر الزمن. لكن أولئك الفلاسفة والعلماء والباحثين كانوا أكثر تواضعا، ولم يسمحوا لأقدامهم الانفصال عن سطح الأرض. العكس منه كان في جانب الكهنة وكتبة الأنبياء وسدنة المعابد. أولئك الذين نسبوا معارفهم وأقوالهم لمصدر سماوي، أكثر بعدا وغموضا من وحي دلفي. فعلى جبل حوريب (الطور) [خروج 3] كان موسى النبي يكلم الربّ مباشرة وينقل عنه. ويشير المؤرخون إلى كثرة تكرار عبارة (وقال لي الربّ) وما في سياقها، في بدايات كلّ فقرة أو نهايتها، لتلقين ذهن السامع/ القارئ إلى المصدر العلويّ للكلام.
فالمؤلف الديني كان يجتهد لتأكيد المصدر –غير الأرضي- لكتاباته وأفكاره. الأمر الذي دفع بعض الأنبياء لشرح مفصل عن طريقة استلامهم – كلام المقدس-. وكما سبق في عدم ذكر أفلاطون نفسه في المحاورات ونسبة الكلام لشخوصه، فالكاهن/ السادن/ الكاتب لا يشير لنفسه وانما تظهر شخصيات رئيسة في النص الديني مثل [قال الربّ، الوحي، الملاك، النبي]، فيما يغيب المؤلف الحقيقي عن المشهد. ورغم أن الأبحاث الجيولوجية والتاريخية فشلت في تأكيد حقيقة وجود أي من الشخصيات النبوية، التي تنسب إليها الكتب الدينية والنبوات، فلم يترك المؤلفون السرّيون دليلا يعود عليهم، مما يجعل الكتب الدينية – المقدسة- أدنى للغز في أصولها ومضامينها وتوجيهاتها، منها إلى شيء آخر، يقود إلى يقين ما.
ومن أثلة ذلك ما يرد في سفر أشعياء ابن آموص: "رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ. فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ. ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ قَائِلاً: مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ فَقُلْتُ: هأَنَذَا أَرْسِلْنِي. فَقَالَ: اذْهَبْ وَقُلْ لِهذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعًا وَلاَ تَفْهَمُوا، وَأَبْصِرُوا إِبْصَارًا وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ، لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمَ بِقَلْبِهِ، وَيَرْجعَ فَيُشْفَى. ."- (أشعيا 4: 1- 10)
ويذهب النبي أرميا بن حلقيا أبعد من ذلك للقول: "فَكَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلاً: قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ. فَقُلْتُ: آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ!. فَقَالَ الرَّبُّ لِي: لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ لأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ. وَمَدَّ الرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ. اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ."- (أرميا1: 4- 10)
وغالبا ما يؤكد الخطاب الديني – جهالة/ أمية- أشخاص الأنبياء والرسل، لمنع أي خاطر ينسب الفكرة أو الاسلوب للتعليم البشري. والواقع أنه لا يذكر بين كلّ أنبياء التناخ شخص متعلم باستثناء موسى الذي نشأ في بيت فرعون وتعلم بكلّ حكمة المصريين، ويذكر أن اسم (موسا) هوكلمة اغريقية معناها –صوت-، ويصف الكتاب موسى أنه كان يتلكأ في النطق، فلا يكون كلامه واضحا، لذا تخذ أخاه هارون ترجمانا وخطيبا بدلا عنه. والشخصية المثقفة الأخرى هي أشعياء ابن أموص ابن عم الملك عزيا بن أمصيا. أما البقية فالغالب أنهم رعاة في أحسن الأحوال كما يرد عن عاموس (عا1: 1). وكان معظم تلاميذ يسوع صيادي سمك.
ومن الصور والأساليب الغريبة ما يرد سفر حزقيال:"وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَاسْمَعْ مَا أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهِ. لاَ تَكُنْ مُتَمَرِّدًا كَالْبَيْتِ الْمُتَمَرِّدِ. افْتَحْ فَمَكَ وَكُلْ مَا أَنَا مُعْطِيكَهُ. فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِيَدٍ مَمْدُودَةٍ إِلَيَّ، وَإِذَا بِدَرْجِ سِفْرٍ فِيهَا. فَنَشَرَهُ أَمَامِي وَهُوَ مَكْتُوبٌ مِنْ دَاخِل وَمِنْ قَفَاهُ، وَكُتِبَ فِيهِ مَرَاثٍ وَنَحِيبٌ وَوَيْلٌ. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، كُلْ مَا تَجِدُهُ. كُلْ هذَا الدَّرْجَ، وَاذْهَبْ كَلِّمْ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. فَفَتَحْتُ فَمِي فَأَطْعَمَنِي ذلِكَ الدَّرْجَ. وَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، أَطْعِمْ بَطْنَكَ وَامْلأْ جَوْفَكَ مِنْ هذَا الدَّرْجِ الَّذِي أَنَا مُعْطِيكَهُ. فَأَكَلْتُهُ فَصَارَ فِي فَمِي كَالْعَسَلِ حَلاَوَةً. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، اذْهَبِ امْضِ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَكَلِّمْهُمْ بِكَلاَمِي. لأَنَّكَ غَيْرُ مُرْسَل إِلَى شَعْبٍ غَامِضِ اللُّغَةِ وَثَقِيلِ اللِّسَانِ، بَلْ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. لاَ إِلَى شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ غَامِضَةِ اللُّغَةِ وَثَقِيلَةِ اللِّسَانِ لَسْتَ تَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ. فَلَوْ أَرْسَلْتُكَ إِلَى هؤُلاَءِ لَسَمِعُوا لَكَ. لكِنَّ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَسْمَعَ لَكَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَشَاؤُونَ أَنْ يَسْمَعُوا لِي. لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ صِلاَبُ الْجِبَاهِ وَقُسَاةُ الْقُلُوبِ. هأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ وَجْهَكَ صُلْبًا مِثْلَ وُجُوهِهِمْ، وَجَبْهَتَكَ صُلْبَةً مِثْلَ جِبَاهِهِمْ، قَدْ جَعَلْتُ جَبْهَتَكَ كَالْمَاسِ أَصْلَبَ مِنَ الصَّوَّانِ، فَلاَ تَخَفْهُمْ وَلاَ تَرْتَعِبْ مِنْ وُجُوهِهِمْ لأَنَّهُمْ بَيْتٌ مُتَمَرِّدٌ. وَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، كُلُّ الْكَلاَمِ الَّذِي أُكَلِّمُكَ بِهِ، أَوْعِهِ فِي قَلْبِكَ وَاسْمَعْهُ بِأُذُنَيْكَ. وَامْضِ اذْهَبْ إِلَى الْمَسْبِيِّينَ، إِلَى بَنِي شَعْبِكَ، وَكَلِّمْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ!"- (حز2: 8- 10، 3: 1- 11)
هذه الصورة/ الطريقة وألفاظها وانعكاساتها سوف تتكرر لدى يوحنا في سفر الرؤيا: "وَالصَّوْتُ الَّذِي كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ السَّمَاءِ كَلَّمَنِي أَيْضًا وَقَالَ: اذْهَبْ خُذِ السِّفْرَ الصَّغِيرَ الْمَفْتُوحَ فِي يَدِ الْمَلاَكِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ. فَذَهَبْتُ إِلَى الْمَلاَكِ قَائِلاً لَهُ: أَعْطِنِي السِّفْرَ الصَّغِيرَ. فَقَالَ لِي: خُذْهُ وَكُلْهُ، فَسَيَجْعَلُ جَوْفَكَ مُرًّا، وَلكِنَّهُ فِي فَمِكَ يَكُونُ حُلْوًا كَالْعَسَلِ. فَأَخَذْتُ السِّفْرَ الصَّغِيرَ مِنْ يَدِ الْمَلاَكِ وَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ فِي فَمِي حُلْوًا كَالْعَسَلِ. وَبَعْدَ مَا أَكَلْتُهُ صَارَ جَوْفِي مُرًّا. فَقَالَ لِي:يَجِبُ أَنَّكَ تَتَنَبَّأُ أَيْضًا عَلَى شُعُوبٍ وَأُمَمٍ وَأَلْسِنَةٍ وَمُلُوكٍ كَثِيرِينَ."- (رؤيا 10: 8- 11)
وفي نصوص أخرى متأخرة تظهر شخصية (الوحي) باعتبارها الناطق باسم السماء [حزقيال، لوقا، رؤيا]، لتعقبها شخصية (الروح) و (الرؤى) كما في يوئيل: "وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى."- (يوئيل2: 28) وفي سفر الأعمال: "وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. "- (أع2: 4). وفي هوشع: "وَكَلَّمْتُ الأَنْبِيَاءَ وَكَثَّرْتُ الرُّؤَى، وَبِيَدِ الأَنْبِيَاءِ مَثَّلْتُ أَمْثَالاً". – (هو12: 10)
ويمثل الانجيل أفضل نموذج لصورة المحاورات سواء منها المتعلق بما بين يسوع وقادة اليهود أو تعليمه للتلاميذ والموعظة على الجبل، بما يجعل منها التطبيق الأكثر قربا لفنون الحوار والجدل والخطابة والبلاغة الأغريقية القديمة. وقد استخدم في عظاته الشفاهية أساليب متنوعة من الأمثلة والتشبيه والكناية والترميز، وكان عدم المباشرة والمعاني الروحية هو الغالب على كلامه الذي كان التلاميذ يفهمون معانيه الحرفية المباشرة فحسب. وفي الانجيل يكونّ يسوع هو معطي الكلام [بديلا عن الربّ، الوحي، الروح]: "فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا، لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَمًا وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا."- (لو21: 14- 15)، "فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ."- (مر4: 2، 10، 13، 11)
ان ما يهمنا – أساسا- من اللغة والكتابة والنصوص هو المعنى، ولكن هذا المعنى لا يوجد في المكتوب أو الحرف وأنما في – ذهن- القارئ كما يقول لودفيج فتجنشتاين. ولما كان العقل يختلف من فرد لآخر، فالفهم وآليات التوصيل تختلف بين الأفراد. وهنا يخطر السؤال الأكبر: ما هي المعرفة إذن؟.. إن لم تكن واحدة وراسخة عند الجميع!. وإذا كنا نشترك في أيما (إطار) أو (مضمون).. (ثقافي) أو (قومي) أو (ديني)، فما هي آلية توصيلنا إلى هذه الشراكة؟.. والجواب هو: التلقين/ التقليد/ التبعية!. فالثقافة الجمعية مهما كانت مجالاتها، هي من بقايا النظم العبودية والمستمرة في أغلبها حتى اليوم. ومن هنا تنبع مسؤولية الفرد في امتحان معلوماته العرفية وعاداته وأفكاره وعقيدته ليكون في صورة [الفرد الحرّ المسؤول]!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهجوم على إسرائيل: كيف ستتعامل ألمانيا مع إيران؟


.. زيلينسكي مستاء من الدعم الغربي المحدود لأوكرانيا بعد صدّ اله




.. العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية: توتر وانفراج ثم توتر؟


.. خالد جرادة: ماالذي تعنيه حرية الحركة عندما تكون من غزة؟ • فر




.. موقف الدول العربية بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم