الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نُتَف من أنا وهناك / النُتفة الأولى : تشويش على البث

عندليب الحسبان

2015 / 2 / 25
الادب والفن


لزمنٍ طويلٍ وبعيد ظلّتْ الشآم تعني لي "الفاكهة المجفّفة " , فالقادم من الشآم " دمشق " عوّدنا أن يأتينا وبيديه صندوق حلوى صفّتْ فيه بجمال يغري الأطفال قطعٌ من الفاكهة الملونة المسكّرة : الاجاص , والتفاح , والتين , والخوخ , والبرقوق , فعلقت في ذاكرتي هذه الشآم الحلوة علوقَ سكر فاكهتها على لساني الصغير .
لم أعرف أن عاصمةَ سورية اسمها دمشق الا متأخرا بعد دخولي المدرسة بوقت وبعد أن صرتُ اسمعها تتردد في نشرات الأخبار , بصراحة لم أحب كثيرا "دمشق " هذه , بقيتُ أحب الشآم وفاكهتها المسكّرة أكثر .
وبدأتُ كأطفال جيلي أتعلّق بغوار الطوشة ومقالبه , وما زالت صورة "غوار "برفقة " ابوعنتر " وهما يجولان في الحارة بلباس الشرطة ناشبةً بذاكرتي الى الآن , بالطبع نسيتُ الحوارَ ونسيتُ الكثير من تفاصيل المشهد , ولكن بقي الزي الشرَطي حاضرا حضور السلطة في الوجدان .
بلدتي " ام قيس " بلدة حدودية , هي والجولان هضبة ضخمة شُقّتْ فنزفتْ نهرَ اليرموك , هي هضبة مغروسة بين فخذي صراع دائم حامٍ دامٍ , في الشمال يربض الجولان السوري المحتَل , وفي الغرب تنام بحيرة طبريا وكثيرٌ من مدن وقرى فلسطين . وفي الوسط نهر اليرموك يجري في مكانه لا يراوحه , برغم جريان التاريخ من حوله وتقلبه من ضفة إلى أخرى . وإلى الشرق منه تقع "الحمة الأردنية " , هي جمعٌ من عيون الماء الحارة والباردة ,تنزّ من هنا وهنا وهناك , فعلى مسافة يخبرها أهلُ الحمة وجوارِها تداهمك رائحة قوية هي مقصد السياح للشفاء والراحة , انها رائحة الكبريت , وذات يوم وعلى ذات المسافة ضج صوت الكبريت أيضا مناديا بالحرب والموت .
بيتنا يقع على الشارع الرئيسي الواصل الى "الحمة ", أذكر أن يوم الجمعة كان يوما مختلَفا عليه في بيتنا , فهو يوم عطلتنا المدرسية ولهونا نلعب بابَ البيت في الشارع , وهو يوم السياحة الأجنبية وزمامير السيارات والضوضاء التي يحبها الأطفال , حيث تتكاثر السيارات الملونة الآتية من الشرق باتجاه الحمة الأردنية للسياحة العلاجية والترفيهية , كان هذا اليوم سياحيا للجميع الاّ لأمي المسكينة , فهو يوم الطبخة اللاّحمة , ويزيده ملحميّةً أولئك السياح الذين يصفّون سياراتهم أمام البيت ليطلبوا تعبئة قنينة ماء , او أولئك النسوة يستسمحن أهل البيت لأداء الصلاة في إحدى الغرف , أو يطلبن استخدام الحمام لأغراض الوضوء أو فك الوضوء , كان أبي يفرح كثيرا بهن , أما أمي فكانت تدخل المطبخ وتمتم بحنق : الله يمضي هذا اليوم على خير ....
السياح الاجانب هؤلاء كانوا في معظمهم سوريين وسعوديين ,.
كنّا ننزل دائما إلى الحمة الاردنية للسباحة , وكالحلم البعيد أطوف الآن على أكتافٍ وذُرعان ٍوصدورٍ لاحمةٍ ناعمة , هي تلك التي كانت تتلاقفني في ماء الحمة فأكاد أسحل منها .كنت أسمع أبي وآخرين يقولون وهم يخرجون أيديهم من شباك السيارة ويشيرون غربا : هذه هي الحمة السورية . مرة طلبت أن نسبح فيها , فقيل : لا يمكن , إنها مع اليهود , لم أفهم : كيف اسمها الحمة السورية , وهي مع اليهود ..؟ المنطقي أن يكون اسمها الحمة اليهودية ..!!!.....ربما ضحك ابي , وربما بكى ..أو غضب ..لا اذكر ....!!!
كان التلفزيون ملهاة حقيقية لنا نحن الأطفال , وفيما بعد لنا نحن المراهقين وخاصة البنات , حيث تفرضه علينا ظروفُ الاقامة الجبرية في البيت بالتزامن مع استنفار علامات الانوثة الاولى , فيصبح التلفزيون حاجةً ملحة لا غنى لنا عنها , المحطات التي يلتقطها تلفزيوننا كانت محدودة , هناك عمان الاولى والثانية وهاتان تبثان بوضوح , وهناك اسرائيل و سورية ومصر , وهذه يعتمد وضوح الصوت والصورة على مكان السكن في البلدة , كان حظ حارتنا وضوح بث مصر واسرائيل , أما سورية فكانت مشوشة كثيرا ومن النادر أن يظهر الصوت والصورة صافيين بلا تشويش , كنت أحيانا أرى برامج التلفزيون السوري عند بعض جيراننا فلم أنسجم معها , كثير منها ثقافي أو سياسي أو اخباري بلغة عربية قويمة لم استسغها , والمسلسلات السورية كنتُ بطبيعة الحال أشاهدها على التلفزيون الاردني .
أما اسرائيل فقد كان موعد بث الفلم العربي مساء الجمعة بالنسبة لي موعدا مقدسا , تقريبا لم يفتني فلم من أفلام السبعينات او الثمانينات , وكانت كلها افلاما حديثة الانتاج غير مكرورة , على العكس من التلفزيون الأردني الذي بلغ عدد مرات بثه لفلم الأقوياء في شهر واحد ثلاث مرات ,
أما التلفزيون السوري فلم يكن أصلا يبث أفلاما مصرية حسب وصف من يشاهدونه , وفي مرة خفّ التشويش والتقط تلفزيوننا القناةَ السورية فشاهدت برنامجا عن النقد "السينمائي ",, سألتُ اخي الأكبر : كيف يقدمون نقدا للأفلام السينمائية , دون أن يعرضوا أفلاما سينمائية ؟
أجاب : لأن العلاقات السورية المصرية مقطوعة بسبب "كامب ديفيد ", طبعا لم افهم وقتها ما قال ..........!!
التلفزيون المصري كان بالنسبة لي فضاء اعلاميا وفنيا , محطات محلية متعددة : الخامسة والاولى والثانية , ومصر الاولى والثانية , أفلام ومسلسلات وأغان وحفلات وفوازير فطوطة وسمّورة , وشريهان وفساتينها المجنونة والملونة ,وشهرزاد تحكي وتحكي وأنا اسمع واسمع , وأنا أسمع سميرة سعيد تغني : وباحب باحب باحب ....وأنا "باحب " محمود عبدالعزيز .
أفلام ومسلسلات لا تسكت, ولا أملّها , أذكر منها الشهد والدموع وثلاثية نجيب محفوظ : , أذكر جيدا مبخرة " أمينة "تتصاعد منها خيوط الدخان فتملأ صدري بنشوة الحلم , وأذكر خطواتِها المتثاقلة على السّلّم التي تختلط الآن في ذاكرتي بخطواتِ أمي في الصباح , أذكر نهنة سي السيد الحشمة , وغنج "عيشة " والشريط الأحمر , وأذكر هرج " خديجة , ولا أنسى أبدا موسيقى البداية والنهاية بنكهة المشربية , إنه عالم جميل من المتعة اللذيذة , والخيال المصوّر , إنه عالمُ مِصْر ...
ولكنّ هذه المتعة كانت تمرّ بفترة كمون شتوي , ففي ذروة الشتاء يضعف البثّ المصري ,ويشتدّ التشويش , فيأتي البياتُ البصري , ويبدأ موسم "الكاسيتات " العربية والغربية , خوليو , فيروز , مارسيل , عبدالحليم , أنغام ......., وأنغام أخرى كثيرة وكثيرة تنثر أشجانها وأحلامها في الغرفة الصغيرة , وبلا تشويش يلتقطها صوتُ المطر الراكض على نافذتي ويهربان بي بخفة من سجن العائلة إلى حيث لا أعرف ........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله