الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداع نينوى – الأمّة والتاريخ – وسط صمت العالم

كلكامش نبيل

2015 / 2 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم أكتب مباشرة عن مأساتنا هذه، فما الذي يمكنني أن أكتبه وقد مزّقت تلك المشاهد قلبي، فأنهمرت الدموع لتعمي عينيّ طوال اليوم، كيف لي أن أكتب في حينها، وقد جفّت كلّ الكلمات وأشعل الغضب المتبقّي منها. كان لمقالي أن يكون لعنة كاهن نهريني يصبّها على الغزاة البرابرة وهم ينتهكون قدس أقداسه ويحطّمون تراثه أمام عينيه، وما كانت تلك اللعنات لتشفي غليل أيّ مواطن نهريني أصيل، بل أي مواطن متحضّر في هذا العالم. لقد إنتظرت حتّى اليوم لأكتب وقد أزاح النهار غشاوة الدموع عن عيني، وخفّف من آلامها. قرّرت أن أكتب للتاريخ لكي لا يزيفّونه مرّة أخرى في المستقبل، فهذا ديدنهم اللعين.

هل يجب أن نرثي نينوى الآن؟ في الواقع نحن نرثيها منذ حزيران الماضي، وتفاقم مرضها وأوشكت على الإحتضار في آب، عندما تمّ تهجير بقايا سكّانها الأصليّين – الذي يحبّونها كنينوى فقط – مدينتهم الوحيدة التي لا ينتمون لغيرها، ولا يفضّلون الغريب على أهلها. منذ تمّوز والخرائب تطال كلّ شيء يشكّل تاريخ مدينة، كل ما يمكن أن يجعل من نينوى وريثة تلك العاصمة الآشوريّة المجيدة، ولكن لا إستغراب فهم لم يسكنوا المدن إلاّ مؤخّرا ولم ينبهم من التمدّن شيء بعد، ولن يحصل ذلك أبدا. هم يحوّلون المكان إلى صحراء تذكّرهم بموطن الأجداد، وليس للحجر والبناء لديهم أيّ معنى. ومع ذلك، كنت أقول لن نندب نينوى، فلا يزال ملاكها الحارس "لاماسو" هناك، يحرسها وهو ممتقع من رؤية أولئك المشعثين المغبرين الحفاة يجوبون شوارع مدينته، لكنّه إلتزم الصمت فهو يراهم هناك للمرّة الثانية، وليس الأمر بجديدٍ أبدا. دمّر أعداء الحضارة المساجد والكنائس والأديرة والأضرحة والمعابد، طال دمارهم كلّ شيء يخصّ المسلمين والمسيحيّين والأيزيديّين والشبك. لكنّ الثور المجنّح بقي هناك، يراقب هذا الخراب، يطال معالم الحضارة، الواحدة تلو الأخرى. لكنّهم أبوا إلاّ أن يصوّروا كلّ تاريخهم "المجيد" لنا من جديد، حيّا هذه المرّة ومصوّرا بطرق تقنيّة عالية، لتكون شاهدا على وحشيّتهم وبربريّتهم، فتهاوت تماثيل المتحف وهدّموا وجه الملائكة الحارسة، تلك الوجوه الساحرة، ذات النظرات الثاقبة، تلك الوجوه التي تفوق وجوه آلهتهم جمالا. جاء هذا ليعلن لنا وبجلاء أنّ نينوى ماتت الآن، ولا يوجد هنالك أمل لنا بعد الآن، سوى قيامة المدينة من جديد، إن كانت هناك قيامة.

البعض يقارن بين الإنسان والتراث، وهي مقارنة خاطئة تماما، فكلاهما مهم بذات الدرجة، فالإنسان بلا تراث لا هوية ولا كيان له، ولم يوجد التراث بلا إنسان. سألني أحدهم مرّة سؤالا جدليّا إفتراضيّا بهدف إيقاعي في معضلة أخلاقية، عندما قال، لو كان أحد المجرمين يهدّد بتدمير قطعة أثريّة أو قتل إنسان ويتوجّب عليك أن تختار واحدا فقط لتنقذه، فقلت له بأنّني لن أجيب على أسئلة غير واقعيّة، وفي الواقع ولو إفترضنا وجود مثل هذا الموقف فإنّني سأنقذ الأثر والإنسان معا. هؤلاء الإرهابيّين يقتلون الإنسان والتراث ويشنّون حرب إبادة شاملة على المنطقة وتراثها لأنّهم مدفوعين من قبل دول بلا حضارة ولا ثقافة وتشعر بالنقص أمام العراق وسوريا ومصر. إنّ هذه الجدليّة لن تطرق أبدا في حوارات أمم متحضّرة، فقد بكى الفرنسيون خشية أن يدمّر النازيّون معالم باريس، كما هرع سكّان براغ لإنقاذ تماثيل جسر الملك كارل عندما غزا النازيون براغ، وقاموا بحفظها حتّى إنتهاء الحرب. الدواعش أسوأ من النازيّين، فحتّى الأخيرين لم يدمّروا الفن التجريدي وآلاف اللوحات التي صادروها من مواطنين يهود، والآن الورثة بصدد إستعادتها. كلّ الدول الناشئة سرعان ما تبحث لها عن تاريخ، بينما يهدّم هؤلاء الرعاع حضارة عمرها آلاف السنين.

من يدافع اليوم عن مثل هذه الفئة وأفعالها ينقسم إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى هي تلك الفئة الداعشية التي تقرأ سموم كتبهم وتطبّقها حرفيّا، بدوافع إيمانها الأعمى، وهذه الفئة هي داعش وإن لم تدمّر بيدها، وهي في طور التحوّل من داعش كامن إلى داعش فاعل عاجلا أم آجلا، ولا تستحق هذه الفئة النقاش حتّى. الفئة الثانية هي تلك الغارقة في جدليّة أهميّة الإنسان وتفضيله على التراث، وهي في الواقع ذريعة كاذبة للدفاع الضمني عن أيديولوجيّتهم. الفئة الثالثة هي تلك الفئة الجاهلة والتي لا تعرف حتّى بأنّ هذه الآثار كانت مطمورة حتّى مجيء الآثاريّين الغربيّين للكشف عنها وفق معطيات الكتاب المقدّس، وإلاّ لما كانت لنا أي آثار ومكتبة طيسفون في العراق ومكتبة الإسكندرية في مصر خير شاهد على ما فعله الغزاة الأوائل بحضارتنا، وحرقهم لمكتبة الموصل المركزيّة ليس إلاّ عرضا حيّا من ظلمات القرن السابع الميلادي. هذه الفئة قد تبحث عن نصوص حقد من كتب دينية أخرى، لتقول بأنّ الدواعش مجرّد أداة للقوى الكبرى – من وحي نظريّة المؤامرة – ولكنّهم في الوقت ذاته يعجزون عن الرد عن سبب كونهم وبمجموعهم مطيّة هذه القوى التي تستغلّهم، في الحقيقة هذا التبرير يصدق معه القول المأثور "عذر أقبح من ذنب".

السؤال هنا عن جذور هذه الظاهرة، هل هي ظاهرة جديدة؟ ليس الأمر كذلك، في الواقع قبول عموم سكّان الشرق الأوسط من المسلمين لفكرة هدم التماثيل في مكّة بكل بساطة هي بذور ما حصل، بالإضافة للنصوص التي تحارب الفن والتماثيل، الوافدة من جديد مع الغزو الوهّابي الجديد. طوال قرون لم يكن هناك نحت في أرض الفن – العراق وسوريا ولبنان ومصر – بسبب حكم الإسلام، ولم يعد لدينا نحّاتون وفنّانون حتّى الإنتداب البريطاني والفرنسي وإنتعاش الحضارة من جديد. لقد توقّعنا بأنّ ذلك الخلاص أبديّ، إلاّ أنّ وسائل التكنولوجيا الحديثة أصبحت منبرا لإحياء أفكار الماضي البائد من جديد، فرأينا حشودا مجرمة تدمّر تماثيل بوذا في أفغانستان في التسعينيّات، وحشودا من سكّان المالديف يقتحمون المتحف الوطني في الجزيرة التي تعتاش على السياحة لتدمّر كل تماثيل الحضارة البوذيّة – بعد أن إنسلخوا عن جذورهم – ورأينا رعاعا يهدّمون مدينة تمبكتو – المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي – في مالي، ورأينا عشرات الأصوات الناعبة على قنوات فضائيّة مصريّة وهي تطالب بهدم آثار مصر – في ظل حكم الأخوان – ورأينا تدمير وسرقة مقتنيات من متحف "ملوي" في المنيا – جنوب مصر، ووضع النقاب على وجه تمثال كوكب الشرق السيّدة أم كلثوم. كلّ هذه الأمثلة بالإضافة للخراب التام الذي طال التراث الآشوري والروماني والمسيحي واليهودي والإسلامي في سوريا والعراق، وكلّ النصب الحديثة أيضا إلاّ دليل على تنامي ظاهرة معادية للتحضّر في هذه المنطقة وتذكّرنا ببدعة محطّمي الأيقونات التي إجتاحت بيزنطة في السابق – وبتأثيرات ممّا قام به الأمويّون في الشام كما يرجّح البعض – وعلى الجميع مواجهة هذه الظاهرة للحفاظ على ما تبقّى. إنّ شعوب هذه المنطقة الآن تدمّر نفسها بنفسها وتثبت بأنّها لم تعد جديرة بالإحترام.

إذا لم تواجه الشعوب ههنا الواقع، وتبحث عن جذور المشكلة، فإنّها ستختفي قريبا، ولن ينفع الندم حينها. إنّه فكر شرّير معادي للحياة ويمجّد الموت، وهو ينتهك حرمة الإنسان والتاريخ، فحرق الإنسان وقتله وشرّده وإستعبده، وقطع أيدي الرجال والنساء، وصلبهم في ساحات قروسطية قميئة، ودمّر الحجر وأفنى كلّ شيء، ويغرس بذور شرّه الآن في عقول الناشئة الجديدة، التي لن تكون إلاّ وقودا لمزيد من الخراب والتوحّش إن لم يتمّ إتّخاذ موقف حاسم من ذلك. إنّه مستقبلنا جميعا كأبناء لهذه المنطقة، أيّا كانت إنتماءاتنا، إمّا أن نتّحد ونجابهه أو نموت جميعا كالحمقى وبإستحقاق. نحتاج إلى ثورة حاسمة فكريّة تزيل كلّ النصوص غير الملائمة لهذا العصر – إن كانت ملائمة إنسانيّا لأي عصر قد خلا – إنّه الوقت الآن للتحرّك وبجديّة وحزم ومصارحة تامّة للذات قبل فوات الأوان.

وختاما، لا يسعني إلاّ أن أتقدّم بخالص شكري لإميل بوتا، وهنري لايارد، وروبرت كالدفاي، وليونارد وولي، وهرمز رسّام وغيرهم من آثاريّي الغرب لنقلهم خزائن تراثنا المجيد وحفظه في باريس وبرلين ولندن ونيويورك وشيكاغو وغيرها من دول العالم الحر، فلولاهم لأبادنا البرابرة أمّة وتراثا اليوم وإلى الأبد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي