الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورخيس كاتب على الحافة (فى فصول) 9: الطليعة وبوينوس آيرس والحداثة

خليل كلفت

2015 / 3 / 2
الادب والفن


بورخيس كاتب على الحافة (فى فصول)
9: الطليعة وبوينوس آيرس والحداثة
تأليف: بياتريث سارلو
ترجمة: خليل كلفت
بياتريث سارلو (1942-) ناقدة أدبية وثقافية أرجنتينية. ومنذ 1978 أدارت المجلة الثقافية وجهة نظر، أثناء فترة استمرارها على مدى ثلاثة عقود، وكانت أهم مجلة للنظرية الاشتراكية في الأرجنتين وقد أُغلقت بعد تسعين عددا طوال ثلاثين عاما. تفتح مقالات سارلو الكثيرة في مجلة وجهة نظر ومجموعة كتبها إمكانيات جديدة للقراءات، أكثر مما تقدم المزيد من القوالب النظرية أو النماذج النقدية.
*****
القسم الثاني
الطليعة وبوينوس آيرس والحداثة

الفصل السابع
9: مغامرة مارتن فييرو: الطليعة والكريولية
يرتبط بورخيس ارتباطا وثيقا بثلاث مجلات أدبية في العشرينات: پريسما Prisma، پروا Proa، مارتن فييرو Martí-;-n Fierro(1)، وهي مجلات شجعت برامج الطليعة وكشفت بذلك الحدود الأيديولوجية والمؤسسية للطليعة في الأرجنتين. وبين هذه المطبوعات الثلاث، تمتعت مارتن فييرو بأوسع جمهور وأعلى ظهور: تحديث المثقفين الشبان الذين بدأوا ينشرون في العشرينات وكانوا معروفين لدى الأصدقاء والأعداء على السواء باعتبارهم اﻟ-;-مارتنفييريستا Martinfierrista [اﻠ-;-مارتنفييريون نسبة إلى مارتن فييرو].
ومع ظهور مارتن فييرو في فبراير 1924، نشهد "قطيعة" جمالية حديثة بصورة نموذجية- تلك التي تميز الطليعة. والحقيقة أن الفضيحة التي جلبتها المجلة على نفسها لكي تحقق اعترافا مباشرا وواسع النطاق، والحرية التي انتقدت بها الكتاب الحداثيين ("الموديرنيستا") modernista وأولئك المنتمين إلى جيل الثينتيناريو(2) [الذكرى المئوية لاستقلال الأرجنتين] Centenarí-;-o، والمساجلات مع الملتزمين اجتماعيا والأدب الإنساني، والنغمة الپاروديةparodic التي تبنتها في السخرية من اتجاهات سابقة عليها ومعاصرة لها،- كل هذه المظاهر تجعل مارتن فييرو مسبار قياس للأعماق قام بترجيع أصداء التغيرات في النسق النصي والمعارك المؤسسية التي خيضت في ذلك الحين. وفي الوقت نفسه، اختلف توجه المجلة عن توجه الطليعات الأوروپية من نواح تبين حدودها ولكن أيضا أصالتها.
وإذا كانت الطليعة الأوروپية قد جمعت بين جماليات راديكالية وإحياء أخلاقي و"ولع بالتجريب الخطر"، فماذا يمكن أن يقال لتعريف الطليعة الأرجنتينية التي لعب فيها بورخيس ذلك الدور القيادي؟ ولكي نشخص نوع الخروج الذي قامت به مارتن فييرو واﻠ-;-مارتنفييريستا، ونفسر النغمة المعتدلة إلى حد كبير لمداخلاتهم، يجب أن نبحث طبيعة المجال الثقافي في الأرجنتين بين 1900 و1920. والواقع أن المثقفين، والندوات cénacles الفنية الرائجة في زمن الثينتيناريو، قاموا بخلق الشروط الملائمة للإضفاء التدريجي لطابع الاحتراف على الكاتب وإرساء الممارسات الأيديولوجية والثقافية التي طمحت إلى الهيمنة الطويلة الأمد. وكان على اﻠ-;-مارتنفييريستا الشبان أن يخوضوا معركة مع تلك الشروط والممارسات في سياق نضال في سبيل إرساء أسس تفوقهم الجمالي والمؤسسي.
والواقع أن مجلة تأسست في 1907، وهي مجلة نوسوتروس Nosotros [نحن]، صارت الدورية الأوسع قبولا في ذلك الحين(3). وكانت تنشر أكثر من مائة صفحة من النصوص شهريا ولم تقم فقط بتغطية التطورات في الأدب الأرجنتيني والفنون التشكيلية بل قدمت أيضا أقساما إخبارية مكثفة من الخارج وترجمات لمقالات أجنبية. وكان مديرا نوسوتروس، روبرتو خيوستي Roberto Giusti وألفريدو بيانتشي Alfredo Bianchi، مروجيْن أدبييْن نموذجييْن في فترة شهدت تمايزا ضئيلا في المجال الفني، على وجه التحديد بسبب النطاق الصغير للمجال والافتقار إلى التعقيد. وكانت نوسوتروس بالتالي مطبوعة انتقائية أيديولوجيًّا وجماليا. وقد تمثل برنامج المجلة في تنظيم ونشر الإنتاج الفني والفكري وكانت تعتبر أنها تمثل المجال الثقافي بأكمله. وسعت الطليعة إلى كسر هذه الوحدة، وإلى تقسيم الجمهور، وإلى الجدال مع الكتاب المكرَّسين في ذلك الحين.
حاولت مارتن فييرو إحداث قطيعة مع مؤسسات وممارسات المجال الثقافي القائم، والذي كان تطوره قد خلق، في الواقع، الشروط الضرورية لتطور الطليعة ذاتها. وفي بداية العشرينات، في السنتين أو الثلاث سنوات التي سبقت ظهور المجلات التي شارك فيها بورخيس وزملاؤه الكتاب (پريسما، پروا، إينيثيال Inicial، مارتن فييرو)، بدا المجال الثقافي، تحت هيمنة نوسوتروس، موحَّدا نسبيا. وفي هذه السنوات، كان يُنظر إلى وحدة المجال على أنها شرط أساسي لتوطيده وتوسيعه. ولهذا السبب، ضم مديرا نوسوتروس كتابا أكثر شبابا إلى صفحاتهم. ويمكن أن نجد الدليل على هذا في واقع أنه تطور، داخل نوسوتروس، أولئك الكتاب الذين قدر لهم أن يصيروا قادة أو أعضاء الطليعة اﻠ-;- أولترائيستاUltraista (4) [التطرفية "الراديكالية"] أو اﻠ-;-مارتنفييريستا. وفي 1921، نشرت نوسوتروس تصريحا لخورخي لويس بورخيس، بعنوان "أولترائيسمو" Ultraismo [التطرفية (=الراديكالية)]، طوَّر ما سيغدو في الحال المبادئ الجمالية الأساسية للطليعة، وتضمن خمس أو ست قصائد. وبعد ذلك بسنة تقريبا نشرت "منتخبات أولترائيستا" بدون مقدمة، وطوال 1923، نشرت أيضا قصائد أولترائيستا بوضوح لكل من إدواردو جونثاليث لانوثا Eduardo Gonzá-;-lez Lanuza و كوردوبا إتوربورو Có-;-rdova Iturburu (اللذين سينضمان كلاهما في الحال إلى صفوف اﻠ-;-مارتنفييريستا)، ومقالا لبورخيس "معضلة بيركلي"، كان استباقا لأفكار سيطورها في عقود لاحقة. ونشرت نوسوتروس المنتخبات الأولى اﻠ-;- أولترائيسمو الأرجنتينية، بقصائد لبورخيس، وسيرخيو پينييرو Sergio Pinñ-;-ro، ونورا لانخي Norah Lange، وإدواردو جونثاليث لانوثا (الذين سيصيرون جميعا، بعد ذلك بأشهر معدودة، أعضاء صاخبين وبارزين في جيريّا Guerrilla الأدبية الطليعية). وفي ديسمبر 1923، نشرت نوسوتروس مقالا آخر لبورخيس ("حول أونامونو Unamuno، الشاعر")، وفي مارس 1924، أعادت طبع تعليق بقلم دياث- كانيدو Diaz- Canedo، كان قد ظهر في إسپانيا، حول ديوان بورخيس وهج بوينوس آيرس Fervor de Buenos Aires. وكان هذا المقال آخر دليل على الانسجام بين القطاع الأكثر مؤسسية من المجال الثقافي وأولئك الذين سيصبحون، في الحال تقريبا، الطليعة. وعندما ظهرت مجلة أخرى للكتاب الشبان، إينيثيال، في أكتوبر 1923، حيتها نوسوتروس بهجوم قاس. وبدورهم، بدأ اﻠ-;-مارتنفييريستا يجدون مكانهم الخاص في شبكة المؤسسات الثقافية.
خَلْق بيئة
أثر ظهور المجلات الطليعية، ومارتن فييرو بالذات، تأثيرا عميقا في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للمجال الثقافي. ومن 1924 فصاعدا قامت الطليعة بمناوأة هياكل القواعد الأدبية المعيارية السائدة عن طريق شن الحرب على نوسوتروس، والحداثة modernismo، وكتاب الثينتيناريو. وفي رأي مارتن فييرو فإن نوسوتروس نسخوا النظام الرسمي ومعاييره الجمالية بل حتى عملوا أدوات له.
وفي سلسلة من المقالات، أعلن محررو مارتن فييرو برنامجا لتغيير الأساليب التي تم بها، تقليديا، خلق پانثيون pantheon أدبي في الأرجنتين. وبدأت المجلة تتنافس على الاعتراف الأدبي داخل هذه المؤسسات واشتركت في نظام الجوائز الرسمية. وقبلت المجلة المؤسسات بوصفها آلية لتشجيع الفنانين الشبان واعترفت صراحة بالحق المشروع للدولة في أن تتدخل كمنظم ومشجع للعلوم. وحتى رؤساء الجمهورية الذين حاولوا احتضان التطور الفني كان بوسعهم أن يكونوا، وفقا للطليعة، "منصفين لكلا الطرفين". غير أن الطليعة حذرت بالفعل ضد خطر "سياسة العصا". فبدلا من دعم حركة في سبيل التغيير الجمالي والمؤسسي، كانت "سياسة العصا" مبنية على أدوات توفيقية مثل نوسوتروس- أيْ، على شخصيات كانت ذات نفوذ في العقد السابق. وكما أعلن محررو مارتن فييرو فإن السياسة الرسمية لم تعد "بنفع على البلاد". وفي هذا الجانب من جوانب برنامجهم، عمل اﻠ-;-مارتنفييريستا في سبيل إصلاح سلمي للمؤسسات الثقافية بدلا من تبني نظرة راديكالية باعتبارهم مرفوضين refusés، على طريقة الطليعة الأوروپية.
وكان الخط المعتدل ﻟ-;- مارتن فييرو (وخاصة ﻟ-;- إيبار مينديث E-var-Méndez، رئيس تحريرها وكاتب هذه المقالات أو الروح المحرك وراءها)، قاصرا على شجب سياسة الندوات، والمطالبة بأن تتدخل الدولة لوضع حد للمحسوبية في منح الجوائز الرسمية. وباقتراح أن تتبع الجوائز الأدبية وزارة التعليم العام، أبدت مارتن فييرو موافقتها على خط في التفكير نلقاه بالفعل لدى كتاب أقدم كانت المجلة تحاول الإطاحة بهم: التزام الدولة بتقديم حماية اقتصادية لفنانين لم يكن بوسعهم أن يأملوا، في مجتمع كالمجتمع الأرجنتيني وفي سوق أدبية فضل فيها جمهور من الطبقة المتوسطة الرواية الواقعية على التجريب المجدِّد، في أن يعيشوا من إيرادات إنتاجهم. والحقيقة أن هذه الدعوة إلى رعاية الدولة، والتي نتجت إلى حد كبير عن الافتقار إلى التمايز في المجال الثقافي، تعايشت لدى مارتن فييرو، ولدى الطليعة بوجه عام، مع رفض نخبوي لتلك المنتجات التي قدمتها صناعة نشر سريعة التطور لجمهور أعرض وبالبداهة أقل ثقافة.
وبالإضافة إلى التشديد على الحاجة إلى الدعم المؤسسي لتطور الفن والأدب، أكدت مارتن فييرو أيضا أن على الدولة التزامات بعينها في مجال تنمية الثقافة، وبالأخص الالتزام باستعادة التوازن لصالح الكتاب الأحدث عمرا، في مواجهة الشخصيات الأدبية ذات المكانة الوطيدة مثل "الشاعر القومي" ليوپولدو لوجونيس.(5) ورغم أنها اتخذت موقفا توفيقيا بوجه عام تجاه سلطة الدولة إلا أن المجلة تختار أعداءً، مثل إنتندنتي intendente مدينة بوينوس آيرس (الممثلة غير الفعالة والمحافظة للدولة)، أو نوسوتروس، التي قدمت كثيرين من أعضاء هيئات التحكيم لجوائز البلديات. لقد تحول التوتر المعادي للبرجوازية للطليعة الأوروپية، في بوينوس آيرس، إلى معارضة أكثر اعتدالا للفظاظة الجمالية وللافتقار إلى الذوق لدى البرجوازي العادي أو البيروقراطي الحكومي العادي.
وهذا الخط المعتدل استمر به مجلس تحرير مارتن فييرو من أول عدد إلى آخر عدد. وقد وصف إيبار مينديث وظيفة المجلة بأنها تتمثل "في تكوين بيئة وفي إيقاظ الحياة الأدبية". وكان هذا يعني في الممارسة أن تساعد المجلة في تغيير المجال الثقافي، وإنتاج نوع جديد من الجمهور، وخلق مواقف جديدة في الحياة الأدبية، وتغيير الذوق. وكان هذا يمثل تغيرا عميقا ولكن ليس قطيعة عدمية أو مجابهة فوضوية مع النظام القائم.
ولهذا فإن مارتن فييرو، عندما قامت بتعريف وظيفتها، فعلت هذا في إطار "تأسيس" أنشطة أدبية بعينها. وكان النشاط البالغ الأهمية بين هذه الأنشطة تأسيس دور نشر مرتبطة ﺒ-;- مارتن فييرو و پروا، اللتين نشرتا إنتاج الكتاب الطليعيين وكان لهما برنامج صريح: إنهما ستكونان متحيزتين، وملتزمتين بالقضية، وهادفتين، وغير مهتمتين بالربح، ومراعيتين لحقوق المؤلفين وكل معايير التسويق الحديث للكتاب (الإعلان في الشوارع، والأسعار التشجيعية، وأنواع خاصة من الخصم لباعة الكتب وهكذا وهكذا...). وبكلمات أخرى كانت مارتن فييرو علامة على بداية النهاية للنظام الذي كان يعمل في عقود سابقة، والذي كان المؤلفون يدفعون في ظله من أجل نشر إنتاجهم.
وكان محررو المجلة أكثر اعتدالا بوضوح من بعض الأعضاء الأفراد في المجموعة من بينهم بورخيس و أوليبريو خيروندو،(6) اللذين اقترحا قطيعة جمالية أكثر راديكالية. وكان هذا الاعتدال لا يعود فقط إلى حدودهم الأيديولوجية بل أيضا إلى حدود المجال الثقافي والمجتمع الأوسع. وكان القمع الجنسي والمعنوي، واللاسياسية، والدعم المنضبط للأمة وحقوق وواجبات الدولة- كل ما يهم طليعة بالغة الارتباط بالأيديولوجيات التقليدية إلى حد أنها لم تستطع أن تسائل النظام الاجتماعي بأيّ طريقة عميقة. غير أنه إذا كانت مارتن فييرو لم تنتقد الأسرة، أو الأمة، أو السلطة، أو الدين، فقد غيرت التقاليد الأدبية بالفعل بصورة حاسمة. وقد أكد يوليسيس پيتيت دي مورات Ulyses Petit de Murat، أحد أعضاء المجموعة، أن "مارتن فييرو كانت تضم نساءً في مقرها الأدبي وفي مآدبها وفي محاضراتها. وفي ذلك الوقت كان الأدب يسوده الرجال. وكانت نورا لانخي ركنا من أركان هذه الاجتماعات. وكانت تلقي الأحاديث واقفة فوق منضدة". والحقيقة أن كل روايات كتاب الطليعة عن ذكريات هذه الأعوام تجمع على الإشارة إلى هذه العلاقات الجديدة بين الكتاب. لقد بدا حقا أن مثل هذه الصلات الجديدة تحتاج إلى طاقة أكثر من الكتابة ذاتها. ويسجل ليوپولدو ماريتشال Leopoldo Marechal،(7) أحد أبرز أعضاء المجموعة، أنه: "كرست باقي وقتي وكل ما كانت تقتضيه، وليس للإبداع الأدبي ... وكانت حركة مارتن فييرو عميقة الجذور في الحياة ذاتها".
وكان ﻟ-;- مارتن فييرو أصدقاؤها وحلفاؤها- واثنان على وجه الخصوص: ماثيدونيو فيرنانديث Macedonio Ferná-;-ndez(8) (الذي كان بورخيس يبجله باعتباره عجوزا كبيرا grand vieux) و ريكاردو جويرالديس.(9) ولكي يتم إبراز هؤلاء الكتاب كان من الضروري ﻠ-;-ﻠ-;-مارتنفييريستا القيام بإصلاح النسق الأدبي الأرجنتيني. والحقيقة أن تغييرا فقط في المجلة حول مسألة ماذا يجب أن يكون الأدب سمح بإنقاذ جويرالديس من عزلته وباكتشاف ماثيدونيو فيرنانديث. ويمثل نشر نصوصهم بادرة من أوضح البوادر الطليعية في تاريخ هذه الدورية.
الأدب كسلعة
أصلحت الطليعة النسق الأدبي، وأنكرت التقاليد، وجينيالوجيا المجال الثقافي (عن طريق بناء جينيالوجيات بديلة)، فأحدثت انقساما في الجمهور. واكتشفت أسلافا كان قد جرى تركهم خارج القاعدة المعيارية السائدة. وجعلت هامشيا، مثل ماثيدونيو فيرنانديث، في مركز نسقها. وأكدت أن من لم يقرأوا الأدب بهذه الطريقة رجعيون جماليا، غير قادرين على فهم ظاهرة "الجديد". وكما قام أپولينير Apollinaire بنشر مركيز دو ساد Marquis de Sade قام اﻠ-;-مارتنفييريستا بنشر ماثيدونيو فيرنانديث: إنهما هامشيان كبيران خارج المؤسسات ومجهولان من السوق ومن الجمهور. وكان هذان الهامشيان يتقاسمان وجهة نظر مشتركة: كانا يعارضان منطق وأخلاق السوق (كان منطق السوق، مبرر وجودها raison d’être الوحيد، يتمثل في الربح؛ من وجهة نظر الطليعة).
نظرت الطليعة إلى نفسها على أنها تجسد "حقيقة" جمالية كشفت، في معارضتها ﻟ-;- "حقيقة" التجارة، عن الشروط الفعلية للإنتاج للسوق. غير أن معارضتهم كانت حادة جدا على وجه التحديد لأن الطليعة نفسها كانت أيضا، بطريقة ما، أحد منتجات السوق. والحقيقة أن نظاما لإنتاج سلع رمزية يتصور الجمهور على أن له مستويات مختلفة، ويربط نفسه بأحد هذه المستويات، يمكنه وحده أن يسمح بالتداول، في تعارض مع نفسه، لنصوص يمكن تعريفها مهما كان هذا بأسلوب وهمي بأنها خارج السوق ومتحررة من قيودها. غير أن هذا "الكون خارج" [السوق]، وهو تعريف للحظة من لحظات الطليعة، إنما هو فضاء للصراع. فالطليعة لا تفهم نفسها على أنها فضاء بديل في المجال الثقافي، بل بالأحرى على أنها الفضاء الوحيد الأخلاقي والصحيح جماليا. وصراعها مع "صناعة الثقافة" ومع ثقافة "متوسطي الثقافة" و"ضئيلي الثقافة" هو صراع جمالي وأخلاقي في آن معا. غير أن لها أيضا مغزى اجتماعيا أوسع. فالطليعة ممكنة فقط عندما يكون كل من المجال الثقافي والسوق قد وصلا إلى مرحلة معممة وواسعة النطاق نسبيا من التطور. وبعبارة أخرى فإن الكاتب، عندما يحس في آن معا بسحر ومنافسة السوق، يرفضها كفضاء معياري سائد، غير أنه يتلهف سرا على الحكم الذي سوف تصدره السوق. ذلك أن المنافسة في السوق وعلى الجمهور هي شكل حديث من المنافسة الجمالية. ويمكن أن يكون التوتر كبيرا جدا، أو يمكن أن تحس الطليعة بأنها ضعيفة جدا، إلى حد أن الانسحاب من السوق يمثل خيارا ممكنا للتنافس في هذا العالم. وعندما تنكر الطليعة السوق فإنها تقسم الجمهور في حين أنها في الوقت نفسه تطالب لنصوصها بنوع من القراءة يمارسه، في المحل الأول، الكتاب أنفسهم: قراءة بين أنداد.
وقد عاشت الطليعة الأرجنتينية هذا التوتر مع السوق ومع الجمهور: رفضت السوق وأعلنت الحاجة إلى تكوين نوع جديد من القارئ. ولهذه الغاية، سعت إلى إعادة تربية الذوق وإلى إيجاد طرق بديلة في سوق الأدب. ويتقاطع محوران- محور ربح/ فن ومحور أرجنتيني/ مهاجر- في موقف اﻠ-;-مارتنفييريستا تجاه الأدب كتجارة. وعلى هذا فإن جمع المال من الأدب إنما هو طموح مرتبط صراحة بالأصل الطبقي للكاتب. ولم تكن هناك أية استثناءات على هذه القاعدة من وجهة نظر مارتن فييرو.
والحقيقة أن صراع الطليعة الأرجنتينية مع "صناعة الثقافة" لم يكن ببساطة انعكاسا لأيديولوجيات أوروپية. فمنذ 1915 تقريبا، شهدت بوينوس آيرس نمو وازدهار أدب جرى إنتاجه من أجل قطاعات اجتماعية متوسطة ودنيا وكانت له أرقام توزيع أسبوعية مرتفعة نسبيا وكان يتم طبعه بأسعار في المتناول. وفي بداية عشرينات القرن العشرين، وبالإضافة إلى هذه المطبوعات الأسبوعية، التي شملت مسلسلات وروايات مغامرات، ظهرت هناك مجموعات من الكتب الرخيصة كانت تقدم ترجمات للقصة الأوروپية والمسرح. وشهد عام 1922 طبع ما لعلها تكون أنجح مجموعة منها جميعا، وهي المسماة بصورة ذات مغزى "المفكرون" Los Pensadores.(10) وطابقت الطليعة هذه المجموعة مع الأدب "الاجتماعي"، واقعية المذهب الطبيعي والعاطفية السنتيمنتالية الرثة lumpen التي غرسها كتاب مجموعة أدبية معروفة باسم بويدو Buedo وقد سميت المجموعة على اسم منطقة عمالية في بوينوس آيرس كان قد عاش فيها بعض الكتاب، وكانت لدار النشر كلاريداد Claridad، التي نشرتها مكاتب فيها.
وفي رفضها للسوق، أدانت مارتن فييرو حافز الربح (وهذا لوم يمكن أن يوجَّه إلى ناشري المسلسلات العاطفية وقصص المغامرات) وانتقدت "إضفاء طابع الحض على الفضيلة" على الأدب، وهو ما ربطته جماليا بالواقعية الاجتماعية التي كان جمهور قرائها ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدنيا والفئات الاجتماعية الأفقر. وإذا كان تطور سوق للأعمال الأدبية يرجع إلى زيادة في جمهور القراء، فإن مارتن فييرو كانت تواجه إذن مشكلة الطريقة التي يتم بها تقسيم هذا الجمهور. وكانت توجد مجالات مهمة لإنتاج الأدب الأرجنتيني في العشرينات آثرت هذه الدورية تجاهلها، لأنها كانت مرتبطة بصراحة زائدة عن الحد بالسوق، وبالتوسع، بجمهور دحضت الطليعة ذوقه زاعمة أنه غير مستنير. وإذا كان الهدف هو خلق جمهور جديد (وكان هذا هو البرنامج الصريح ﻠ-;- مارتن فييرو)، فإنه كان ينبغي تدمير الذوق الراسخ للسوق. وقد بدا للمجلة أن الأدب المنشور بآلاف النسخ، في طبعات رخيصة، وفي كثير من الأحيان رديئة، شكل فاسد من المنافسة. ومن هنا النقد النخبوي لكتاب مجموعة بويدو، على أساس أنهم، بغض النظر عن انجذابهم للأدب الاجتماعي، كانوا يجعلون السوق همهم الأول.
وعلى هذا النحو، كان لهذا التناقض الصارخ بين الربح والفن في المجال الثقافي مغزى سياسي أوسع. والحقيقة أن النغمة الأخلاقية التي تتبناها مارتن فييرو عندما تتحدث عن النجاح في السوق، وهي نغمة لا يمكن النظر إليها على أنها غير أمينة بصورة خالصة، كمجرد تمثيل أيديولوجي، أو كإنكار رمزي، تغذيها الطبقة: تقول افتتاحية ﻠ-;- مارتن فييرو: "نحن نعرف وجود تيار أدبي فرعي يغذي الشراهة العديمة الضمير لدى الشركات التجارية التي أنشئت لإشباع الذوق الهابط لجمهور شبه أمي". كما أن الربط بين الطبيعة التجارية للنشر الشعبي والحساسية "المتدنية" لقرائه تعليق واضح على أصول الكاتب وعلى المال الذي يمكن أن يدره الأدب. وفي هذه الظروف أعلن اﻠ-;-مارتنفييريستا حقيقة الطليعة التي أدانت إضفاء الطابع التجاري على الفن.
ولهذا فإن إبداعيات poetics الأدب "الاجتماعي" لم تكن تتحدد بأيديولوجيته "اليسارية" أو "الإنسانية النزعة". وفيما يتعلق بالكتاب أنفسهم فإن مارتن فييرو كانت في أقصى حالات تصلبها. وكان من المفترض أن يكون هذا الأدب مكتوبا بصورة مميزة من "تشويه النطق" مما كشف عن أصوله التي ترجع إلى المهاجرين. ومرة أخرى تناولت المجلة موضوع النقاء اللغوي باعتباره السمة المميزة للأرجنتينيين من ذوي الأصل الإيسپانو- كريولي القديم. وقد شغل مفهوم "النقاء اللغوي" بعض كتاب الثينتيناريو، الذين اعتبرتهم مارتن فييرو أعداءً. غير أن المجلة شاركتهم آراءهم في سخرياتها اللاذعة من "الرطانة الفظة المغزوة بالخصائص اللغوية الإيطالية" التي خلقها أدب يفيض "بقصص أحياء الفقراء" التي ألفها كتاب "إيطالو- كريوليون". ولهذا كان هناك نمطان من الكتاب وجمهوران: أولئك الذين كانوا "أرجنتينيين دون مشقة"، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى تمويه نبرة أجنبية، وأولئك الذين لم يكن بوسعهم بحكم أصلهم ولغتهم ادعاء أنهم جزء من أيّ تراث قومي طويل.
والواقع أن العنف الغاضب لهذا الهجوم (الذي لم يكن نموذجيا لنغمة المجلة التي كانت بصورة عامة پارودية وفكاهية) قد أوضح بجلاء حقيقة أن ما كان يجري الجدال حوله يمثل مسألة أساسية من وجهتيْ نظر أيديولوجية وجمالية على السواء. وكان الجدال بين الربح والفن يتغذى على التناقض الاجتماعي بين الأرجنتينيين القدامى والمهاجرين. ويمكن أن نرى هذا في التحية الذي توجهها مارتن فييرو للطبعة الأولى من پروا، المجلة العظيمة الأخرى للطليعة: كان يمكن توقع الكثير من أعضاء هذه المجموعة، كما أكدت مارتن فييرو، حيث أنهم كانوا "راسخي الجذور في التراث، وتبين ألقابهم أنهم من عائلات هي أرجنتينية منذ عهد بعيد".
الأصول الطبقية، العلاقة بالتراث القومي، نقاء أو فساد اللغة، الموقف إزاء السوق الأدبية: كل هذه العناصر كانت تؤلف "بنية شعور" كانت تتقاسمها الطليعة الأرجنتينية التي كان ينتمي إليها بورخيس. وليس لكل عناصر هذه البنية، أو الأشكال الأدبية التي عبرت عنها، نفس الوزن. وفي بعض الأحيان أدت طبيعة الطليعة ذاتها إلى تآكل الأهمية التي كان يجري إضفاؤها على التراث الثقافي والأمة. غير أنه يجري التشديد باستمرار على السيطرة على اللغة والعلاقة بجمهور "الطبقات الدنيا". وهذا الجمهور المحروم من الثقافة الرفيعة، الذي احتفظت الطليعة بمسافة منه، لوَّث اللغة، وفرض نطقا "مشوها"، وساعد في تعزيز استعمال "غير مشروع" لمساكن الأحياء الفقيرة أو الكونبينتييّو conventillos في الأدب الواقعي. (وسوف نرى بعد قليل كيف أن الكونبينتييّو، كان يمكن أن يكون لها استعمال "مشروع" في الأدب). وكان الجمهور الذي تقرّه الطليعة هم أولئك الذين أداروا ظهرهم للسوق. وكان هذا الجمهور، الذي كان يجري تحديده بحساسيته نحو "الجديد"، يوضع بأكثر من طريقة في مقابلة مع الجمهور الذي يقرأ الأعمال الواقعية لمجموعة بويدو. ومن الناحية الاجتماعية، كان جمهور بويدو من أحياء الضواحي ولم يكونوا من وسط المدينة. وكان هؤلاء قراءً لم يكونوا على ثقة من لغتهم الأرجنتينية. ومن الناحية الجمالية، كانت أذواقهم تتجه بصورة رئيسية نحو القصص القصيرة والروايات، في حين كان جمهور مارتن فييرو يقرأون الشعر والمقالات. ولدينا هنا جمهوران ونسقان أدبيان، نسقان من ترجمة الأدب الأجنبي ومجموعتان اتهمت كل منهما الأخرى بالنزعة الكوزموپوليتانية.
الطليعة والكريولية
ويحتاج الاسم الذي اتخذته أهم مجلة طليعية، مارتن فييرو إلى نظرة. والسؤال مهم لأن الاسم ذاته يشير إلى ثيمة رئيسية، هي ثيمة القومية.
فلماذا كان سؤال النزعة القومية الثقافية ملحا إلى هذا الحد في الأرجنتين؟ وفي حوالي عام ، 1910 ، قام كتاب في مثل مكانة ريكاردو روخاس Ricardo Rojas وليوپولدو لوجونيس بإعادة تفسير القصيدة الجاوتشية مارتن فييرو، التي كتبها خوسيه إيرنانديث في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، كتتويج وتركيب للقيم القومية. وتمثلت خلفية هذا الإلحاح في وجود، أولا، مثقفين من خارج الطبقات العليا التقليدية يشكلون جزءًا من عملية عامة من نمو القطاعات الوسطى، ثانيا، قطاعات شعبية حضرية ذات أصول من المهاجرين. ولأول مرة يجري طرح مسألة الهوية القومية بطريقة منهجية ودرامية، وكان السبب في هذا هو وجود آلاف من المهاجرين في بلد كان يحتاج إليهم كقوة عمل غير أنه كان يخشاهم كقوة سياسية وثقافية. وقدم الكتاب ذوو النزعة القومية حلين مختلفين: اقترح بعضهم، مثل ريكاردو روخاس، انصهارًا للسكان الوطنيين، سواء أكانوا إسپانيين، أم كريوليين، أم محليين، مع المهاجرين والمنحدرين منهم؛ ورأى آخرون، مثل ليوپولدو لوجونيس، تهديدا للثقافة الأرجنتينية في الضغوط اللغوية والعرقية والأيديولوجية التي مارسها القادمون الجدد.
ومن هذه النواحي، على الأقل، لم يتم حل الجدال في العشرينات. وزعم محرر إينيثيال، وهي إحدى المجلات التحديثية لتلك الفترة، أنه في العشرينات فقط بدأ المثقفون يناقشون مسألة الأمة. وهذه الملاحظة، وهي زائفة تاريخيا، حيث أن من الجلي أن كتاب الثينتيناريو أجروا مجادلات مماثلة قبل العشرينات، تكشف مع هذا عن حقيقة أيديولوجية. وبالنسبة للطليعة صارت المجادلات غير الحاسمة عن الثقافة القومية مسألة أساسية أخرى ينبغي حلها كجزء من حركة واسعة من التجديد الثقافي. وأعلن العدد الأول من مارتن فييرو ظهورها تحت شعار، "عودة مارتن فييرو". وقد حملت هذه العبارة شحنة رمزية ثقيلة، تقوم في الواقع على بطل جاوتشو كان يُنظر إليه على أنه "جوهر قومي"، كان بوسع الطليعة أن تجسده مرة أخرى. ومن الجلي أن هذا الإلحاح على "جوهر الأرجنتين" Argentinidad [=الأرجنتينية أو الطابع الأرجنتيني] كان شرطا مسبقا ضروريا لقيام المجلة بتنفيذ التزامها بالتغيير. ويمثل قرار تأييد برنامج للإحياء الثقافي القومي تناقضا آخر من التناقضات التي تتخلل تاريخ المجلة. وفي البيان الذي نُشر في العدد 4، يُوصف التراث الثقافي بأنه "ألبوم عائلي" لا يمكن إنكاره، ولكنْ لا يمكن في الوقت نفسه اتخاذه موضوعا للتبجيل الفيتيشي. غير أنه، في "البيان" نفسه، يجري إبراز هذه المسألة القومية باعتبارها إحدى السمات الجديدة للطليعة: النزعة القومية اللغوية، كما جرى التعبير عنها في عبارة "مارتن فييرو يثق بصوتياتنا phonetics".
وفي سجالها مع الأدب الاجتماعي- الواقعي لكتاب بويدو، تمثلت إحدى الثيمات الرئيسية لمجلة مارتن فييرو في الاختلاف، من الناحية الأدبية، بين "الأرجنتينيين دون مشقة" (أعضاء التراث الإيسپانو- كيريولي) وأبناء المهاجرين. ويكمن مفتاح فهم هذا الاختلاف في العلاقة التي تربط كل مجموعة باللغة، وبصورة خاصة باللغة المنطوقة وتنويعاتها الصوتية. وتصف مارتن فييرو أدب بويدو بأنه من إنتاج أولئك الذين لهم علاقة خارجية باللغة الإسپانية ولهذا يحتاجون إلى إخفاء نطقهم الأجنبي. وكان يجري النظر إلى القرب من اللغة الشفاهية واكتسابها "الطبيعي" على أنهما شرط مسبق وضمانة للكتابة الأرجنتينية. وكان من شأن أيّ علاقة باللغة تقوم على قمع لغة أجنبية (جلبها المهاجرون معهم إلى البلاد) أن تنتج أدبا مطبوعا بطابع الأصول الزائفة للكاتب. وكان من المفترض، بطبيعة الحال، أن اللغات الأجنبية "الرديئة" هي تلك التي يتكلمها المهاجرون، ذلك أنه كانت هناك أيضا لغات أجنبية "جيدة"- اللغات التي تعلَّمها الأرجنتينيون الإيسپانو- كريوليون عبر الثقافة والأدب.
وفي خطاب مارتن فييرو، يجري النظر إلى القومية على أنها معطى. ولكنْ كيف يمكن أن يكون هذا "الجوهر القومي" مادة الأدب؟ وفي عرضه لديوان شعر بورخيس القمر المقابل Luna de enfrente،(11) يشير ليوپولدو ماريتشال إلى البلاغة على أنها عقبة أمام اللغة كما تُنْطَق وتُسْمَع: يكتب بورخيس شعره "بلغة محببة إلينا، لأنها اللغة التي نتكلمها حقا، غير مثقلة بزخارف البلاغة". كما يعتبر أوليبيريو خيروندو أن الهوية اللغوية معطى وأنها نتيجة لمباشرتها لا يمكن اكتسابها عبر "الجهد الذهني" أو أيّ عمل آخر يشترطه الاكتساب اللغوي بصورة مسبقة. وتعتبر مسألة الأصول الاجتماعية (التي كان يجري النظر إليها على أنها مرتبطة بصورة وثيقة جدا بحافز الربح أو بالافتقار إلى الاهتمام بالفن) حاسمة فيما يتعلق باللغة. ومرة أخرى ضاعفت هذه الصراعات الأدبية وشوهت صراعات نسق آخر: أعيد طرح الاختلاف بين الأرجنتينيين القدامى (أيْ أبناء الأسر التقليدية، الذين كانوا يحملون ألقابا كريولية أو أوروپية راسخة في الأرجنتين على مدى عقود) و الجرينجو gringos (الذين كانت ألقابهم غير معروفة) في مجادلات الطليعة.
ويمكن النظر إلى هذا الإلحاح على الفروق الدقيقة والتنويعات في اللغة الشفاهية على أنه جزء من جدال طويل حول اللغة في الأرجنتين: السمات الخاصة للغة الإسپانية المنطوقة في إقليم نهر پلاتي. ومن الجيل الرومانسي الأول من الكتاب فصاعدا، نجد دفاعا متواصلا عن حق المثقفين الأرجنتينيين في تجديد اللغة ومكافحة أية دعاوى هيمنة من جانب اللغة الإسپانية كما تنطق في إسپانيا. وتضاعفت هذه الثيمة للاستقلال اللغوي في مارتن فييرو، وكذلك في رومانتيكس Romantics [رومانسيات]، مع إعلان للحق في "تلويث" اللغة الأدبية باللغات الأجنبية ذات النفوذ اجتماعيا وثقافيا. كما أن المثل الأعلى للغة ذات الطابع الغاليسي باعتبارها اللغة الوحيدة الممكنة للأرجنتينيين، وهو المثل الأعلى الذي دافع عنه سارميينتو، المثل الأعلى للتعدد اللغوي polyglot في القرن التاسع عشر، عاود الظهور في ردّ لاذع من مارتن فييرو على لاجاثيتا ليتيراريا [الجريدة الأدبية] La Gaceta Literaria في مدريد. وكانت لاجاثيتا قد اقترحت أن تصير مدريد، لكي تجري مكافحة الخطر المفترض للتفتت اللغوي في الإيسپانو- أمريكا، "خط السمت الثقافي" Intellectual meridian للمنطقة. وقد ازدرى بورخيس هذا الادعاء للنقاء اللغوي موضحا بصورة تهكمية أن "مدريد مدينة يتمثل اختراعها الوحيد في الغاليسية Galicism- على الأقل، ليس هناك أيّ مكان يجري فيه الحديث عنها كثيرا إلى هذا الحد". وكان قصد بورخيس هو أنه رغم أن الإسپان Spaniards اتهموا الأرجنتينيين بأنهم يتكلمون لغة غاليسية Galicized مشوهة، إلا أن نقاءهم اللغوي كان علامة على البلادة: كانوا يتحدثون كثيرا جدا عن الخصائص الغاليسية Galicisms، غير أنه لم يكن لديهم ما يكفي من الفطنة أو الذكاء لاستخدام الغاليسية بصورة منتجة.
ويجيب خطاب مارتن فييرو عن السؤال المتعلق بمن هم الناس الذين يمكن، بحكم علاقتهم "الطبيعية" باللغة" أن يكونوا متعددي اللغات polygot. والأرجنتيني المتعدد اللغات شخص تمثل إسپانية نهر پلاتي لغته الأم: فقط على الأساس المتين لهذه الأصول يمكن بناء تعددية لغوية polyglotism مشروعة. ويمكن أن يقرأ المرء، وأن يترجم، وحتى أن يكتب، بالفرنسية أو الإنجليزية، غير أن نطقه للإسپانية يحسم كل شيء. فقط عبر الصوتيات، التي ينبغي بكلمات أوليبيريو أن تكون طبيعية تماما مثل "ربط أحذيتنا"، يمكن أن يقامر المرء مع اللغة وأن يفوز بالسيطرة عليها.
وتمثل مسألة اللغة فصلا واحدا في جدال ضخم- واستحواذي، بالنسبة للمثقفين الأرجنتينيين- حول التراث الثقافي. وفي أول استبيان أدبي نظمته مارتن فييرو، كان التعريف الذي أعْطِيَ "للقومى" هو أنه مَنْ كانت له "حساسية وعقلية أرجنتينية". كما أن مسألة النزعة القومية الثقافية، وتوسيعا: مسألة الكوزموپوليتانية، قسمت المجال الثقافي على أسس طبقية متميزة. ونادرا ما طرح الكتاب الاجتماعيون لمجموعة بويدو المسألة؛ وعندما كانوا يفعلون فقد كان ذلك ليتهموا الطليعة بأنهم حقا extranjerizamente (متبعون للنماذج الأجنبية بلا أدنى اعتراض). كذلك فقد قام أعضاء مارتن فييرو، معلنين أنهم ورثة هذه الهوية الثقافية "الطبيعية"، بردّ الحجة إلى بويدو، متهمين إياهم بأنهم أجانب لغويا وثقافيا.
والحقيقة أنه يجب قراءة مسألة الكوزموپوليتانية لتعريف لمختلف المواقع في مجال ثقافي متنازع عليه: الكوزموپوليتاني هو دائما الآخر. وفي حالة طليعة العشرينات، كان الكوزموپوليتانيون هم أولئك الذين يترجمون كتبا مختلفة عن الكتب التي يترجمها ويقرأها كتاب مارتن فييرو.
تراث الطليعة
في العدد 22 من مارتن فييرو ظهرت مذكرة بتوقيع أوليبيريو خيروندو مطالبة بأن تلقى حملة لإقامة تمثال تذكاري لخوسيه إيرنانديث "دعم كل فنان دون تمييز". وقد تبنى محررو المجلة هذا الاقتراح بحماس وقاموا بتوسيع الحجة عن طريق طرح الأسس الرئيسية لتراث كتاب "لديهم أعمق الجذور القومية وسوف يبحث أرجنتينيو المستقبل في إنتاجهم، ويكتشفون روحهم وأصلهم". وقد جرت مناقشة الأسماء التي تؤلف هذا التراث في مناسبات عديدة. (اقترح بورخيس، على سبيل المثال، إدواردو ويلدي Eduardo Wilde، وهو كاتب قصة قصيرة وسياسي من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر).
غير أن حلقة مهمة في هذا التراث، الكريولية Creolismo، تبدو مركزه الأيديولوجي والجمالي. وهناك كريولية مشروعة وكريولية زائفة، وكريولية ضرورية وكريولية "مبالغ فيها"، زائدة عن الحاجة من وجهة نظر اللغة الأدبية أو الحبكة. ويتمثل تراث أرجنتيني قومي تقريبا في أن تصير الكريولية مركز نزاع وفي أن يتم دعم شكل من الكريولية دعما صريحا ضد شكل آخر. ويوجز سيرخيو پينييرو، في عرض ببليوجرافي لكتاب بورخيس استقصاءات Inquisiciones،(12) المسألة بألفاظ أشبه بالألفاظ التي استخدمها بورخيس ذاته بعد ذلك بأعوام: "أعتقد أن من الضروري الرجوع إلى اللاسو [حبل بأنشوطة] lasso، أو إلى الروديو [رعي الماشية] rodeo، أو إلى فحول الخيل stallions، وكأنما تتجلى فيها روح الجاوتشو". والسؤال الذي يسأله اﻠ-;-مارتنفييريستا هو: ماذا يمكن أن يضمن "طابعا محليا حقيقيا"، وتوسيعا: مَنْ الذي يمكن أن يكتب أدبا لا يجري فيه النظر ببساطة إلى الكريولية على أنها مسرفة في الوصف الحي picturesque أو حافلة باللون المحلي.
واعتقدت الطليعة أن بوسعها أن "تنقي" الكريولية من هذه التجاوزات و، مقتفية أثر بورخيس، تخترع فضاءً جديدا: كريولية حضرية وليست ريفية، كريولية موقعها في الحواف، وفي ضواحي المدينة، في الأحياء البعيدة عن وسط المدينة، بمنازلها وباحاتها الرحبة، ومحلاتها التجارية، وبالوجود الخاطف ﻠ-;-ﻠ-;- كومپادريتو عند باب المنزل. وقد أوجز بورخيس هذا البرنامج الجمالي في دواوينه الشعرية الثلاثة(13) وفي القصة القصيرة "الرجال حاربوا" Hombres pelaron، التي نشرتها مارتن فييرو في 1927.
مبادئ مارتن فييرو الجمالية
على مدى أربعين سنة بعد نهاية لحظة اﻠ-;-مارتنفييريستا، وافق بعض أعضاء المجموعة على أن المجلة قدمت فضاءً لطليعة انتقائية. "كانت مارتن فييرو نوعا من كوكتيل الجيل الجديد. ولم يكن هناك مجال واسع للاختيار. وكانت كل الاتجاهات ممثلة، غير أن المزاج السائد كان مزاج التهجم السطحي". كان هذا رأي براندان كارافا Brandá-;-n Caraffa، الذي كان يحرر أيضا مجلة إينيثيال. ويضيف مشارك آخر، هو إرنستو پالاثيو Ernesto Palacio المؤرخ القومي ومترجم ڤ-;-يرجينيا وولف Virginia Woolf: "كان الأمر على هذا النحو إلى أن انضم ريكاردو جويرالديس و أوليبيريو خيروندو: كان شيئا ملتبسا، بدون أهداف عديدة. وكان هذان الكاتبان هما اللذان جلبا معهما خميرة التجديد الأدبي وجعلا البحث أكثر منهجية". وقد تذكر ليوپولدو ماريتشال أنه لم يكن هناك أيّ مبدأ جمالي موحد بل بالأحرى "رغبة في التجديد، حاجة إلى تحديث أدبنا وفننا".
غير أن مختلف اتجاهات الثقافة الأرجنتينية كان لها عدو مشترك: كان لوجونيس وأذناب الحداثة مرفوضين بالإجماع. والحقيقة أن نظريات الإبداع الأدبيpoetics ﻠ-;-ﻠ-;-حداثة كان قد تم في الواقع إقصاؤها إلى قاع الآداب الأرجنتينية من جانب اﻠ-;-مارتنفييريستا. وفي بيان مجلة پريسما، الذي كتبه بورخيس في 1921، كان العدو الأدبي موصوفا بأنه "الوشم الأزرق لروبين داريو"، بأنه "قمامة زخرفية" و بأنه "نزعة حكائية ثرثارة". كل هذا ضد أدب كان ثوريا عندما قام روبن داريو بتدشين الحركة في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.
ويفسر الفقر النظري للمجلة السبب في أن النقد في مارتن فييرو كان دائما أكثر بدائية من النصوص الأدبية. لقد كانت مجلة شعراء، وفقا للمشاركين فيها أنفسهم، وقد أثبت بورخيس وماثيدونيو فيرنانديث وحدهما دون غيرهما أنه كان بوسع الطليعة أن تعبر عن نفسها نثرا. وقد ردد نقد الكتب المبادئ الجوهرية للطليعة- أن الجمهور يجب أخيرا أن يفهم ويقبل الفن الحديث، وأن عليه أن يطور ذوقه، وأن يقر بالقيم الصحيحة، وأن يتبنى "حساسية جديدة"- كل هذا في أسلوب ودى حماسي مميز للمجلات التي وجهت مارتن فييرو إليها السباب والشتائم.
غير أن المجلة نسبت ادعاء عنيدا واحدا وحيدا لنفسها: أنها وحدها كانت تمثل اليسار الجمالي في المجال الثقافي، القطاع الأكثر ثورية في الأدب الأرجنتيني. والحقيقة أن هذه المكانة كان ينازع عليها كتاب اجتماعيون أعلنوا أنهم على يسار كل ألوان الموشور السياسي، غير أن مارتن فييرو رفضتهم معتبرة إياهم رجعيين أدبيين، مرتبطين بجماعات أوروپية مثل مجلة كلارتيه Clartè، التي كان يديرها هنري باربوس Henri Barbusse، تلك الجماعات التي كانت توصف بأنها تقدم "أسوأ التجليات الأدبية للرجعية".
وكانت بويدو توضع بحزم على اليمين الجمالي منذ اعتمادها برنامجا يتبنى المذهب الطبيعي naturalism، الذي كان قد صار إلى ما فوق المذهب الطبيعي ultranaturalism "في أكثر مظاهره فجاجة وانحطاطا، محاولا أن يثير لدى القارئ ليس مجرد الانفعال، بل الرعب والاشمئزاز". وقد استخدمت مارتن فييرو الحجة القائلة بأن مثل هذه الكتابة تنتمي إلى "مبدأ جمالي لإدارة محفوظات": صار المذهب الطبيعي، نتيجة لموضوعيته، فاقد الإحساس بصورة كلية. وعلى النقيض فإن الأدب الجديد "كان عليه أن يُخرج أحشاء دُمى المذهب الطبيعي، وأن يفتش في مصارين كل تلك الشخصيات التي يقدمها لنا كتاب المذهب الطبيعي بمثل هذه السطحية". ويقابل الأدب الجديد "نسْخا جماليا" ﺒ-;- "جمالية الحساسية". غير أن المجلة لم تقدم أي نقد أو برنامج نصي يمكن حقا اعتباره بديلا راديكاليا. وفي مواجهة أدب المذهب ما فوق الطبيعي قدمت مارتن فييرو نصا استثنائيا واحدا فقط، "قصة بوليسية" Lyenda policial لخورخي لويس بورخيس، وهو نص- أصلي proto- text لقصته "رجل الناصية الوردية" Hombre de la esquina rosada.
أبطال معتدلون
كان بطل الطليعة الأرجنتينية إسپانيا Spaniard: الكاتب اﻠ-;- أولترائيستا رامون جوميث دي لا سيرنا Rá-;-mon Gό-;-mez de la Serna. وكان الجريجيريا greguerí-;-a، وهو نوع من الأقوال المأثورة أو جوامع الكلم يقوم على الاستعارة، وكان من ابتكاره، يجري استعماله بصورة منتجة من جانب اﻠ-;-مارتنفييريستا، وقد لقي جوميث دي لا سيرنا التشجيع من جانب الشاعرين الرئيسيين للمجلة، بورخيس وأولبيريو خيروندو. وفي العدد 14، نشر بورخيس مقالا بعنوان "رامون و پومبو"(xx) قارن فيه جوميث دي لا سيرنا بنصوص مختلفة ومؤلفين مختلفين. أولا، بوالت ويتمان: "عند ويتمان، كما عند جوميث دي لا سيرنا، نرى كل الحياة. لقد عبر ويتمان أيضا عن عرفان هائل للحجم، والطبيعة الملموسة، والألوان المتباينة للأشياء. غير أن عرفان والت كان يقنع بتعداده للأشياء التي تؤلف العالم، في حين أن عرفان الإسپاني يجري التعبير عنه في مجموعة من التعليقات المرحة والحماسية على الطابع الفريد لكل شيء". ومما له دلالته أن بورخيس هو الذي عقد هذه المقارنة: إنه في الحقيقة يقترح طريقته الخاصة في القراءة. وفي رأي بورخيس فإن جوميث دي لا سيرنا غير كاف، وإنْ كان جديرا بالإعجاب ككاتب، إلى أن يؤخذ إلى خارج سياقه ويوضع في شبكة عمل جديدة من القراءات التي تشمل ويتمان ولكن أيضا لا ثيليستينا La Celestina، و[فرانسوا] رابليه [François] Rabelais، و تشريح الكآبة Anatomy of Melancholy ﻠ-;- [روبرت] بيرتون [Robert] Burton. كما قدم بورخيس القراءات الأكثر تعقيدا لكتاب أوروپيين، في مجلة نشرت كما هو متوقع في الحقيقة [جيُّوم] أپولينير [Guillaume] Apollinaire، و[پول] ڤ-;-اليري [Paul] Valéry، و[ڤ-;-اليري] لاربو [Valéry] Larbaud، و[جول] سيپيرڤ-;-ييل [Jules] Supervielle، و[جان] جيرودو [Jean] Giraudoux.
والحقيقة أن سمة مهمة لمجلة مارتن فييرو تمثلت في إهمالها لحركات الطليعة الأوروپية الأكثر راديكالية. وقد ترجموا پول إيلوار Paul Eluard للمرة الأولى عندما كانت المجلة توشك على الإغلاق، في 1928. أما السوريالية، التي صدر بيانها الأول في نفس العام الذي تأسست فيه مارتن فييرو، فلم تلق سوى إشارة موجزة في ملاحظات قليلة وفي مقال مكثف جدا حول [فيليب] سوپو [Philippe] Soupault. وجنبا إلى جنب مع اﻠ-;- أولترائيسمو وجوميث دي لا سيرنا، كان القائد الحقيقي للطليعة، إذا حكمنا بالمساحة الممنوحة له في المجلة، هو [فيليپو توماسو] مارينيتي [Filippo Tomaso] Marinetti، الذي كان يُحْتفى به باعتباره "رجل عمل وفكر عظيما". ولم يشارك بورخيس مطلقا في هذا الرأي.
كما أن الطبيعة المعتدلة للطليعة الأرجنتينية مسئولة عن هذه المواقف. ذلك أن حواجز أيديولوجية قد منعتها من اكتساب طابع راديكالي وفرضت العديد من الأفكار الثابتة idées fixes التي كانت معتدلة بصورة مماثلة. ففي المقام الأول، رفضت هذه الطليعة أيّ شكل من أشكال العدمية nihilism. وقد جرى تقديم معارضة العدمية بطرق مختلفة في نصوص أساسية عديدة. غير أنه "كان لا معنى للانضمام إلى صفوف دعاة تحطيم المؤسسات التقليدية". وعلى هذا النحو، كان على الأدباء الشباب، فيما كانوا يؤكدون، أن يسعوا إلى إزاحة الأجيال السابقة غير أنه كان عليهم واجب أن يضعوا "المثل العليا الجديدة" مكانها. ثانيا، كانت هذه الطليعة مهتمة بإرساء أسس جينيالوجيا قومية في مجال الثقافة، وهي أجندة سمحت لهم بأن يهاجموا بشراسة بعض الحداثيين، غير أنها أجبرتهم على قبول فكرة الاستمرارية الثقافية. وأخيرا، قاد هذا الموقف المعتدل إلى أن يعبر نقدهم للنفور الفظ وغير المستنير من الثقافة الرفيعة لدى البرجوازية عن نواح جمالية على وجه الحصر: إنهم لم يمسوا الجلافة الأخلاقية، والنفاق الاجتماعي، والقمع الجنسي والأخلاقي والأيديولوجي لمجتمعهم. كما كان من الواضح أن هذا الموقف الممتثل bien- pensant مرتبط بالحدود الأيديولوجية للمجتمع الأرجنتيني ومكانة النخبة الثقافية داخل ذلك المجتمع. وكانت مارتن فييرو طليعة متواضعة الراديكالية لأنها لم تتبن موقفا راديكاليا فيما يتعلق بالمؤسسات الاجتماعية والعادات والأعراف. والحقيقة أن برنامجها- الذي كان يتمثل في خلق بيئة أدبية وتطوير الحساسية- لم يؤثر في شروط وجود المثقف ذاتها.
ونرى هذا الاعتدال في قراءاتهم للطليعات الأوروپية وفي النسق الذي أنشأوه من هذه القراءات. وهناك إغراء بأن نقارن هذه القراءة بالقراءة التي قام بها في نفس الأعوام الماركسي الپيروڤ-;-ي خوسيه كارلوس مارياتيجي José Carlos Mariá-;-tegui. وإذا كان مارينيتي وجوميث دي لا سيرنا هما بطلا الطليعة الأرجنتينية، فقد اعتقد مارياتيجي أن المستقبلية هي "الطليعة المزعومة التي كانت مشبعة بعناصر محافظة وأقاليمية". أما السوريالية، التي تجاهلتها مارتن فييرو عمليا، كما رأينا منذ قليل، فقد نظر إليها مارياتيجي على أنها الطليعة الحقيقية بلا منازع par excellence، المأساوية واليائسة في آن معا. وعلى هذا فإن الأرجنتينيين شاركوا اﻠ-;- أولترائيسمو الإسپانية عدم ثقتها بالحركات الطليعية التاريخية وابتعادها عنها.
التركيب والتوترات
غير أنه إنما في مارتن فييرو جرى تطوير صيغة أدبية، جمعت بطريقتها الخاصة بين العناصر، وكانت متميزة من اﻠ-;- أولترائيسمو حتى وإن كانت قد عكست بعض مظاهر تلك الحركة. وقد جرى التعبير عن هذه الصيغة في نصوص بورخيس، غير أننا يمكن أن نقرأها عند خيروندو، ويمكن أن نجد بعض آثارها في بعض المقالات الرئيسية التي نشرت بدون توقيع. وهنا جري انصهار بين ميراثين: ميراث جوميث دي لا سيرنا وميراث إيباريستو كارييجو (الشاعر الشعبي، المحلي، المغمور، الذي سوف يخصص بورخيس له كتابا في وقت لاحق). ويمكن أن نجد هذا الانصهار حتى في التقريظات التي كانت توجهها مارتن فييرو لبعض الكتاب. ويقدم العدد 17 تقريظا لكارييجو، والعدد 19 تقريظا لجوميث دي لا سيرنا. وفي مقاله "حول وصول رامون" Concerning Ramό-;-n’s Arrival، يصور بورخيس هذا التركيب.
اكتشف كارييجو الكونبينتييّو conventillos. وبارتولوميه جالينديثBartolomé Galindez الروسدادel Rosedad ، واكتشفت أنا نواصي شوارع پاليرمو عند الغروب. و لانوثا، كل الطيور... غير أن أمريكا كلها ما يزال ينبغي اكتشافها، والمكتشف الآن هو رامون.... وسوف نعرف كل شيء من خلاله. من خلاله سوف نعرف أن الصليب الجنوبي Southern Cross العظيم ليس أكثر من يقظة فقيرة للباريو [الضواحي] barrios (سوف يخبرك بالمعجزة التي ستكون قد رأتها حبيبتك لأن لها مثل هاتين العينين الجميلتين) .... ومن خلاله سوف نعرف أن إيپوليتو يريجوين Hipό-;-lito Yrigoyen سوف يصير رئيسا للجمهورية مرة أخرى لأنه منشغل ليس فقط بناس بوينوس آيرس بل أيضا بأشيائها. كل هذا وأكثر منه سوف يكشفه لنا رامون؛ رامون ذو العينين المشعتين والمستبدتين اللتين لا يمكن مقارنتهما إلا بعينيْ ذلك الفاتح الآخر لأمريكا هذه: دون خوان مانويل دي روساس don Juan Manuel de Rosas.
وبصورة مماثلة نجد، في عرض كتبه بورخيس ﻠ-;- كالكومانياس Calcomaní-;-as(xxi) لأوليبيريو خيروندو، هذين المؤثرين يأتيان معا مرة أخرى، واليوم يمكن أن نرى أن هذا كان يمثل الإسهام الحقيقي للطليعة في الأدب الأرجنتيني. ويرجع واقع أن بورخيس طرح هذه المقدمة بصورة أكثر منهجية من الباقين إلى كثافة نظام قراءاته. اﻠ-;- أولترائيسمو ووالت ويتمان، ولكنْ أيضا الأب جورج بيركلي و ألف ليلة وليلة: هذه هي النقاط المرجعية التي تبتعد به جزئيا، ولكنْ ليس تماما، عن النسق المألوف للطليعة. وتتمثل نقاط أخرى في اكتشافه ماثيدونيو فيرنانديث وإبداعه الأدبي المبكر لأساطير أرجنتينية.
غير أن التعايش في مارتن فييرو بين عناصر من مختلف الأصول يكشف أيضا عن توتر يشوه الكثير من نصوصها. ويمكن أيضا أن نرى هذا التوتر بين المساهمين في المجلة: على جانب كان المحررون، وبصورة خاصة إيبار مينديث، في حين كان على الجانب الآخر بورخيس، و أوليبيريو خيروندو، و ماثيدونيو فيرنانديث. وكان خطاب اﻠ-;-مارتنفييريستا غير متجانس، وكان يقوم على مجموعة من التعارضات والتذبذبات التي لم يتم حلها مطلقا. ويربط أحد التوترات اسم المجلة، بطل في الشعر الجاوتشي التقليدي، ببرنامج للتجديد الجمالي: النزعة القومية الثقافية والطليعة. ويمكن أن تكون الاقتراحات غير المتجانسة التي تؤلف هذا البرنامج قد أعطت المجلة أصالتها، غير أن هذه الاقتراحات أوجدت أيضا سلسلة من التناقضات غير القابلة للحل. ومن جهة كان هناك الموضوع القومي، مارتن فييرو الجاوتشى، ومن جهة أخرى المبادئ والأسس الجوهرية الأوروپية والكوزموپوليتانية للتجديد الثقافي. ومن الصحيح دون شك أن جزءًا من عمل بورخيس كان ينصبّ على حل هذه التناقضات. وفي نهاية المطاف تغلب بورخيس على هذه التوترات الماثلة في مارتن فييرو عن طريق إنتاج مجموع من الإنتاج الذي يمكن تعريفه بأنه "الكريولية الحضرية الطليعية".
تأكيد "للجديد" بالاقتران مع انتماء إلى تراث ثقافي قائم؛ حملة من أجل ما هو "أرجنتيني كسمة مميزة"، بالاقتران مع وجهة نظر كوزموپوليتانية: هذان هما العنصران اللذان يؤلفان المزيج الأيديولوجي- الجمالي للطليعة في عشرينات القرن العشرين. ويمكن تقريبا النظر إلى التوتر بين الكريولية والحداثة أو بين النزعة القومية والكوزموپوليتانية على أنه أحد الثوابت في الثقافة الأرجنتينية في القرن العشرين. وكانت كل المجادلات الكبرى منظمة حول هذه التوترات ومايزال من الممكن أن نجد هذه التناقضات في النصوص الرئيسية للأدب المعاصر.
إشارات

1: نشرت مجلة پريسما عددين، في ديسمبر 1921، ومارس 1922. وقد اتخذت المجلة شكل ملصق "پوستر" كان يُعْرَض على جدران بوينوس آيرس. وكانت تشتمل على قصائد لبورخيس. وظهرت مجلة پروا، التي كان من بين محرريها بورخيس وريكاردو جويرالديس بين 1924و 1926 (الأعداد من 1إلى 15. ونشرت مجلة مارتن فييرو، أكثر مجلات الطليعة نجاحا وأيضا أكثرها عدم ثبات، خمسة وأربعين عددا بين فبراير 1924 و نوڤ-;-مبر 1927.)
2: كان "جيل الثينتيناريو Centenario [المئوية]" جماعة من الكتاب الذين جاءوا إلى الصدارة نحو 1910، مئوية استقلال الأرجنتين عن التاج الإسپاني. ومن بين هؤلاء كان كاتب المقالات ريكاردو روخاس، الذي كتب أول تاريخ للأدب الأرجنتيني، وأعضاء مجلة نوسوتروس، الذين ساعدوا في تحديث المجال الثقافي.
3: وصفت مجلة نوسوتروس، التي أسسها في 1907 روبرتو خيوستي وألفريدو بيانتشي، نفسها بأنها "مطبوعة شهرية للأدب والفنون والتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية". وقد نشرت ثلاثمائة عدد، ظهر العدد الأخير منها في ديسمبر 1934.
4: قاد الحركة اﻠ-;- أولترائيستا في إسپانيا، منذ عشرينات القرن العشرين، رامون جوميث دي لا سيرنا. وقد أكد برنامجها الصورة image باعتبارها العنصر الأساسي في الشعر، وإلغاء الصلات المنطقية والنحوية، وإيجاز القصيدة كبرهان شكلي على تكثيف المعنى. وقد نظم رامون جوميث دي لا سيرنا نوعا خاصا من جوامع الكلم أو الأقوال المأثورة الفكاهية، يسمَّى جريجيريا greguerí-;-a، نقل هذه المبادئ إلى النثر.
5: ليوپولدو لوجونيس (1874- 1938) أعظم شاعر حداثي أرجنتيني. وقد أحس بورخيس وكتاب الطليعة بأنهم مجبرون على الجدال مع لوجونيس حول الأمور الشعرية والجمالية وطرحوا للنقاش تأثيره المسيطر في تلك الفترة. ومن المهم أن نتذكر أن الحداثة، في أمريكا اللاتينية، حركة جرت في أواخر القرن التاسع عشر، مستلهمة الپارناسية Pasnassianism والرمزية الفرنسية. حول ليوپولدو لوجونيس والحداثة في الأرجنتين، انظر الفصل الثالث.
6: قدم أوليبيريو خيروندو (1891- 1967) إسهاماته إلى كل مجلات الطليعة الأرجنتينية. وقد تناول شعره، الذي كان مختلفا جدا عن شعر بورخيس، بصورة مباشرة، ثيمات مستمدة من المدينة الحديثة والتغيرات في العادات والحياة اليومية. وفي 1925، نشر ديوانيْ شعر: عشرون قصيدة للقراءة في الترام Veinte poemas para ser leí-;-dos en el tranví-;-a و كالكومانياس Calcomaní-;-as اللذين لقيا نجاحا كبيرا، مختلطا بفضيحة.
7: كان ليوپولدو ماريتشال (1900- 1970) شاعرا وروائيا. وفي روايتهAdá-;-n Buenosayres، المنشورة في 1948، سخر ماريتشال من كتاب العشرينات والثلاثينات بما فيهم بورخيس.
8: كان ماثيدونيو فيرنانديث (1874- 1952) هو العجوز الكبير grand vieux للطليعة للأرجنتينية. وحتى العشرينات، كان ماثيدونيو، كما كان معروفا، كاتبا هامشيا ومغمورا، غير أن كتبه الأصيلة للغاية بدأ يجري نشرها بعد ذلك جنبا إلى جنب مع كتب الكتاب الأكبر سنا. ويمزج إنتاجه، المفكك الشكل والغريب حقا، القصة والمقالات والشعر دون أي مراعاة للحدود التقليدية بين الأنواع الأدبية. وولاء بورخيس لماثيدونيو معروف جدا.
9: شارك ريكاردو جويرالديس (1886- 1926) مع بورخيس في تأسيس مجلة پروا وكان في صدارة التحديث الجمالي منذ ما قبل 1920. وفي كتبه المبكرة حاول التغلب على جماليات الحداثة ولوجونيس. ويمثل عمله الأشهر، دون سيجوندو سومبرا، رواية تكوين شخصية Bildungsroman كريولية مكتوبة من وجهة نظر الحركات الأدبية الجديدة. وقد عوضه نجاحها الفوري عن سنوات النبذ الثقافي.
10: ضمت هذه المجموعة أعمالا ﻠ-;- [ماكسيم] جوركي [Maxim] Gorky، و [ليونيد نيكولايڤ-;-يتش] أندرييڤ-;- [Leonid Nikolayevich] Andreyev، وتولستوي، و [ڤ-;-. إ.] لينين V. I. Lenin، و [نيكولاي إيڤ-;-انوڤ-;-يتش] بوخارين [Nikolai Ivanovich] Bukharin.
11: منشور في بوينوس آيرس في 1925.
12: كتاب يضم مقالات منشورة في بوينوس آيرس في 1925.
13: Fervor de Buenos Aires (1925), Cuaderno San Martí-;-n (1929).

إشارات أسفل الصفحات

* الفصل السابع
xx: كان پومبو Pombo من أسماء تدليل جوميث دي لا سيرنا.
xxi: = Decalcomania بالإنجليزية: فن نقل الرسوم إلى الزجاج والخشب،إلخ.- المترجم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما