الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصالة الذات و تراث الأصالة

حميد لشهب

2015 / 3 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كثيرا ما يستعمل مفهوم "الأصالة" في لغتنا الأكاديمية اليومية، دون التمييز الإبستيمولوجي الدقيق بين المضامين السيميائية المختلفة لهذا المصطلح. بل هناك سياسات تقاد باسم "الأصالة" دون أن تكون لها هي ذاتها "أصالة" حقيقية في الواقع المُعاش. ومن المعلوم أن معنى الكلمة يتغير بتغير الميدان الذي يُستعمل فيه، حسب ظروف الإستعمال وملابساته وأهدافه القصوى. سوف لن نهتم هنا بتقصي وتعداد معاني المصطلح ولا ميادين استعماله، بقدر ما سنركز حديثنا على إثارته و لو بتلخيص على المستوى السيكولوجي والثقافي-الديني، لأنهما الميدانان اللذان نعثر فيهما على تعقيد سيميائي له.

تعتبر الذات أصيلة عندما تتوفر لها أو تتوفر فيها بعص الشروط الضرورية لذلك ومن بينها على الأخص بناء هذه الذات طبقا لمبدأ التوازن الوجودي. لا يعني هذا المبدأ إيجاد استراتيجيات حلول وسط أو تنازلات أو حتى تعويضات من أجل الإندماج في المجتمع، بل وعي كل تناقضات هذا الأخير، بما في ذلك مساوئه ومحاسنه والتحلي بروح النقد الذاتي والمجتمعي من أجل تبيان مواطن التغيير، ولا تنضج هذه الأخيرة إلا إذا وصل المرء إلى نضج عقلي وعقلاني يسمح له بالتمييز بين الأوضاع والأحوال انطلاقا من تحليل الواقع الموضوعي، بعيدا عن الذاتية النرجسية. لا يُعتبر النقد الذاتي تحقيرا لهذه الذات أو نقصا في قيمتها، بقدر ما يعني تمثلها في بعدها الحقيقي ووعي قدراتها وضعفها وكذا تجاذبها في الحياة. تعني أصالة الذات إذن وعي "الخروف" و"الذئب" في قرارة أنفسنا كوجهين لعملة واحدة والعمل على الدفع بالنفس إلى أقصى حد من الإنسانية وحب الخير والرغبة في تطوير النفس نحو الأحسن يوميا ومدى الحياة.

في حين يعني "تراث الأصالة" على المستوى الثقافي-الديني من بين ما يعنيه الرجوع إلى ما خلفه السابقون. ويعتبر هذا الرجوع شيئا محمودا، بل مطلوبا، إذا لم يسقط في منطق راديكالي يعتبر التراث الحل السحري الوحيد لمشاكل العصر، في كل أبعاده (الدينية، الإجتماعية، السياسية، الإقتصادية إلخ). لا تعني الأصالة في التراث الحفاظ على هذا الأخير كأيقونة جامدة، تصبح مع الزمن صنما يُعبد؛ بل الإستعانة به كمصباح قد يضيئ بعض جوانب حياتنا أو استلهام بعض لحظاته المنيرة من أجل إتمام البناء أو بداية بناء جديد حتى. ولا يكون تراث الأصالة مجديا إلا إذا كان قابلا للنقد والتمحيص وألا يقدم نفسه كمنظومة كاملة غير قابلة للمراجعة، وإلا أصبح عائقا في وجه التطور، إذا ما طالب المرء بتطبيقه بحذافره ودون مراجعة أو تحيين في الظرف الزمني الذي يطبق فيه. لا يمكن لإنسان القرن الواحد والعشرين مثلا أن يعيش طبقا لأنماط حياة وتصورات وجودية كانت تمارس في القرون الوسطى أو ما سبقها، لأن كل حقبة تاريخية للإنسانية تتميز بأنماط عيش مختلفة. يسقط تراث الحداثة في الدوغمائية ويُستغل أيديولوجيا استغلالا غير مقبول عندما يُقدم أو يُفرض كأصالة للتراث، ذلك أنه إذا قدم هكذا، فمن الضروري أن يطبق عليه ما يُطبق على أصالة الذات، يعني أن يتوفر على قدر كبير من النقد الذاتي والتطور المستمر والتركيز على نزعة إنسانية، تحمل في طياتها فلسفة وجود قوامها فتح المجال للفرد والجمعات والشعوب لتعيش إنسانيتها أكثر، لتتخلص من "الذئب" الذي يقبع في قرارة نفسها أكثر فأكثر.

يساهم المرء لاشعوريا في هدم والقضاء على تراث الأصالة وأصالة التراث معا عندما يسجن هذا الأخير في قفص، ولو كان من ذهب، ويُقدمه للناس كرأسمال تاريخي لابد من الحفاظ عليه كما هو. وهنا بالضبط يحدث الصدام بين تراث الأصالة وأصالة الذات، لأن المنطق الطبيعي لهذه الأخيرة لا يسمح لها بقبول كل ما هو جاهز ومغلوق وكامل، لأن ذلك يعيق سيرها وتطورها نحو الأحسن. أكثر من هذا فإن تراث الأصالة يدفع بنفسه إلى التهلكة عندما يضع نفسه في قارورة زجاج ويغلق على نفسه، ضنا منه بأنه يخدمها ويحميها. ذلك أنه يتطور أوتوماتيكيا بتطور أصالة الذات. وتحدث شروخا في الأصالتين معا، عندما ينتجان معا ظروف صراع بينهما، لأن جر الحبل بينهما لا يقود إلا إلى أوضاع فتنة، قد تُستغل من طرف جهات معينة لإحلال الفتنة وعدم الإستقرار والصيد في مياه عكرة.

إذا لم يع المرء بأن هناك علاقة جدلية شبه أزلية بين تراث الأصالة وأصالة الذات، وبأنه إذا لم تُتَح الفرصة لهذه الأخيرة أن تتطور بمساعدة الأول؛ فإن علاقة الصراع بينهما لن تخدمهما معا. فطبيعة الحياة هي التغير والتجدد المستمر والرغبة في التطور الإيجابي، وهذا ما نلمسه على مستوى أصالة الذات. ومن المفروض على تراث الأصالة أن يحتكم لطبيعة الحياة هذه، لأن منطق التطور يخدمه أكثر مما يضره، بل يشفيه من الكثير من الأورام التي تلحق به وهو يحاول التشبث بوضعه في زجاج سميك لا يحميه من أشعة الحياة المتجددة باستمرار في كل مكان وفي كل زمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى