الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقب الابرة

صفوت فوزى

2015 / 3 / 14
الادب والفن


فيك عشرة كوتشينة ؟
وتبدأ سهرة كل ليلة ...
العتمة تسرح في جنبات الحارة
...
جدران حائلة انهارت محارتها فبان لحم الحيطان لدناً مشبعاً بالرطوبة ... نجوم شاحبة متقببة على بيوت ضمت في حناياها هجوع الخلق وسكن الأشياء ... عِرَس تمرق من تحت أعقاب بيبان ... نباح كلاب في صحن الليل ، يفزع العابرين في التواءات الطرق المظلمة ... خربشة فأر في صدع جدار قديم ، وقطط تموء قافزة من سطح لآخر .
بهاء ... الذي نام اليوم بطوله ... يصحو الآن ... محنياً ونحيفاً كفرع يابس ... يتحسس طريقه باحثاً بقدميه عن درجات تفصله عن الحارة ... يرفع بنطاله ... يمد رجلاً يضعها فوق نصف قالب في وسط بركة آسنة ... يسلمه نصف القالب إلى إطار كاوتش متهالك ... يقفز منه إلى المساحة اليابسة من الحارة ... تبتل قدمه ... يهدر صوته لاعناً أبو الدنيا والحارة ... ينتفض جسده دافعاً إلى الهواء ركلات متتابعة يوجهها لكائنات لا يراها سواه ، وبكلمات غير مترابطة ، ممرورة ... يسبها ... ثم يستدير فجأة ليوجه صفعة قوية مصحوبة بوابل من التهديد والشتائم لوجه كائن غير مرئي ...
معاك سيجارة ؟
بأطراف أنامله يخرج "جابر" سيجارتين من كم قميصه الذي تكدس الملح تحت إبطيه ، ففاحت منه رائحة جلد مدعوك ، منهك ، مخلوط برائحة متراكمة منذ عقود لسجائر " كليوباترا ".
أشعل السيجارتين وناوله إحداهما ...
بالتركيز الملائم للحظة خاصة ، سحب بهاء نفساً عميقاً من سيجارته ... دفعه عميقاً إلى قاع رئتيه ... باستمتاع راح ينفث الدخان ، ويراقب دوائره تتشكل في الفراغ كائنات شريرة تخرج له لسانها ، وتفر في الهواء .
استدار بعينين دامعتين يحدق في أعلى الدرب ... الجهات كلها ضنينة بالأمل ، مكبوسة بالصمت والعتمة ... مسدودة كل الأفاق بالمخاوف ، مسكونة بالرعب ... تعبره المواسم ، وليس من حصاد ... أجرانه فارغة ، والعمر تحول وعبر ... مترنحاً مضي ، يتعثر في مشيته ، فيما أنساب صوته أسياناً يدندن :
مخاصمني ليه يازمن والطعم أصبح مـر
كل الليــالي ألــم ولافيها شئ بيسـر
كان صوته المشدوخ يؤنس وحشة الليل ، يحفر مجرى عميقاً من شجنٍ نبيل ... ينسرب في فضاء الليل ... تحمله الريح ... يرتد صدى ملتاعاً .
يشف الصوت ... يصير نهنهة ... يتلاشي ... يبتلعه جوف الحارة ورائحة التراب العارى ... ويطبق الصمت .


* * * * * *

تحلق الرفاق أمام دكان جابر ... الخالي إلامن كفة ميزان قديم ، وكثير من تراب ... ركية نار مشتعلة ... في وسطها كوز الشاي الأسود ... فيما راح جابر يمارس هوايته الليلية في اللعب مع " هبة " إبنة الرابعة ... عينان جاحظتان ... جفناها العلويان مشدودان لأسفل ، وكأنما مابين الجفنين قد شق بموسي منثلم لم تفلح في فصل الجفنين عن بعضهما ... كانت ... إذ تمسح أنفها بكمها ... يترك ذلك مادة لزجة يابسة صفراء تمتد عبر وجهها حتي أذنها ... يظل يشاغلها ... يشدها ... يسبها ... حتي تبادله السباب ... فيستغرق في قهقهة مسحوبة لا تلبث أن تنطفئ ، ويعود الوجه واجماً منقوعاً في زيت صداً يحدق في الظلمة المتكاثفة .
الأكواب الصاج الصغيرة ارتصت أمامهم الأن ... يأتيني صوت تقليب السكر في قيعانها ... راحوا يشفطون الشاي بصوت عال فيما تتري أحاديثهم ... تتداخل الأصوات ... يعلو ضجيجهم ... صوت أجش يعلو آمراً :
- اقسم .
- قسمتك سودة بإذن واحد أحد .
- آخرك بنت .
- عز الطلب .
غشاشون ... كلكم غشاشين ... والدنيا كدابة ...
يتناهي إليهم صوت بهاء ... ينصتون ، يشرئبون متطاولين ، ويتلفتون بحثاً عن وقع خطي قادمة من جوف الحارة ... تعبر إمرأة ربعة مدكوكة القوام ... تنشط الحواس الذاهلة ... تزحف الألسنة من أمام الدكان فتشنكل المرأة ... تعتلي مؤخرتها الرجراجة الشهية ... تعريها وتحبلها وتولدها وتستغفر الله ثم تعود إلي حلوق أصحابها ... يتفجر شلال من الضحك والقهقهة حتي تدمع العيون ... يتمتم الجميع :
خير اللهم إجعله خيراً .

* * * * * *

من أغمق نقطة يجئ ... متردداً ... خجولاً ... يقدم رجلاً ويؤخر الأخري ... يمضي متلفتاً لصق الجدار كمن يستخفي ... يهذي مستريباً بكلمات خافتة لا تبين ... تحيط به هالة من الدخان المتصاعد من حريق القمامة ... يخترقها ويتقدم ، دافساً رقبته في ياقة معطفه المتهرئ ... متلفعاً بكوفية بهتت ألوانها فاستحالت إلي شئ لا لون له ... يمد يداً متأففة ... وفي حرص بالغ يفرز أكياس الفضلات ... تقع عيناه علي صدر دجاجة تبقي بها بعض اللحم المهترئ ... أو ثمرة فاكهة لم يصبها العطن ... أو كسرة خبز لم يدب العفن فيها ... يمسحها علي ركبته ، وينتحي جانباً خلف جدار قديم ... وبشهية مفتوحة ... يأكل .

* * * * * *

السماء تبدو كخيمة من غبار لا يتحرك ... خرساء ... غير مبالية ... وما تبقي من نجوم ساهرة خبا ضوؤها حتي تكاد أن لا تبين ... أضواء الشارع المرصوف كبقع باهتة لا تبين ، وصراصير الليل هوت بعدما أرهقها التحويم حول مصابيح الشارع ... بتثاقل يمضي الرفاق واحداً في إثر الأخر ، بعد أن ملوا لعب الورق ... تبتلعهم الظلمة وصمت الليل منحدرين في الطريق الضيق ... لماذا لم يعد ساراً بالمرة ماكان سبباً للسرور ؟
همهمات خافتة ولكنها تملأ سكون الليل ، كأنها طنين أسراب من الذباب ... الحارس الليلي يدب بقدميه الغليظتين أسفلت الشارع ... هواء ترابي أجرد رازح يملأ الأفق ... ومن بعيد ... من عمق العتمة ... كان الليل ينشق عن ضوء خافت يرتعش .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81