الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجمال والوظيفة: تحليل مؤسسي

راقي نجم الدين

2015 / 3 / 15
الادب والفن


بحسب (كانط) ليس للجمال وظيفة عدا المتعة التي يولدها. وبقدر ما أثر هذا الرأي في الخطاب الفلسفي فإنه لم يكن ليرضي علماء الطبيعة والباحثين الاجتماعيين والثقافيين.
سعى (داروين) الى الاجابة عن السؤال الآتي: كيف يتم الحصول على الجمال الطبيعي وما الغرض منه؟ ان (داروين) يرفض فكرة ان الجمال في الطبيعة هو نتيجة تعسفية لقوى فيزيائية، ويرى ان الالوان الجميلة والانماط المتنوعة التي نراها في العث والفراشات والاسماك والطيور وغيرها من المخلوقات لابد ان يكون لها فائدة بطريقة ما. يقدم (داروين) في كتابه (علاقة أصل الإنسان والاختيار بالجنس) عام 1871 النظرية التي تقول ان الجمال هو نتيجة الانتقاء الجنسي المتراكم. وبدراسة طقوس التزاوج بين الانواع المختلفة اختتم (داروين) بأن الزينة الرائعة للحيوانات وأُبهتها واستعراضها لا يمكن ان تكون غير منطقية وانه من المستحيل الشك في ان الانثى معجبة بجمال شريكها الذكر. وهذا يتناقض مع وجهة النظر التقليدية التي اعرب عنها (بيرك) في ان الجمال مؤنث في حين ان السامي مذكر.
وبحسب (كانط) فإن الانسان هو الكائن الوحيد القادر على تقدير الجمال. بينما يصر (داروين) على ان اصل القدرة على ملاحظة الجمال متشابهة لدى البشر والحيوانات. ولكنه يتفق على ان تصور البشر للجمال اكثر تعقيداً منه للحيوانات، اذ ينطوي على قيم وتقاليد ثقافية. لقد درس عادات المغازلة في الثقافات المختلفة وأكد ان الجمال يلعب دوراً مركزياً متساوياً في اختيار الازواج على الرغم من الاختلافات الثقافية.
يتفق (سيغموند فرويد) مع (داروين) فيما يتعلق بأثر الجمال في الحياة الانسانية. يؤكد (فرويد) بأنه ليس هناك شك بأن الجمال ترجع اصوله الى المشاعر الجنسية وان جميع اشكال المتعة ترتبط بالحب الجنسي. ووفقاً لـ (داروين) و(فرويد) فإن وظيفة الجمال عالمية ولكن مظاهره المتنوعة تلتحم مع النسبية الثقافية. فالأوشام (التاتو) تعمل كوسائل تجميلية في ثقافة معينة لكنها مُدانة في ثقافات اخرى. اعتادت نساء (المكالالو) على ثقب شفاههم العليا ووضع حلقة فيها. وقد عُدّ التثقيب حتى وقت قريب مقصوراً على فئة معينة في الثقافة الغربية، لكنه شائع الآن في المجتمع الغربي. ويُعتقد ان شَعَر الوجه (اللحية او الشارب) يحسن الجمال المذكر في الثقافة الغربية. على الرغم من ان الهنود الحمر يعدّون شعر الوجه مبتذلاً، الا انهم يقدرون الشعر الطويل للرجال. مع ذلك، فإن شغف الجمال والاستعداد للمعاناة من اجل تحقيقه هو متماثل في جميع الثقافات.
(نعومي وولف) هي ناشطة نسوية تنكر صحة ذلك. وترفض فكرة ان الجمال يلبي احتياجات عالمية حقيقية. فالجمال وفقا لـ (وولف) هو اسطورة نشأت خلال الثورة الصناعية واستخدمت منذ ذلك الحين من قبل الرجال للتلاعب بالنساء بحسب مصالحهم الشخصية. وتستمر بالقول بأن الجمال ليس عالمياً وليس وظيفة للتطور. ان استعداد النساء للمعاناة من اجل تحقيق المثال الزائف للجمال يُشير الى هيمنة الرجال ويؤكد التلاعب الذكوري. وبالتالي، وفقا لـ (وولف)، فإن معاناة الاناث من اجل الجمال ليست نتاجاً حقيقياً للقِوى التطورية. تنتقد (كميل باليا) هذا النوع من النهج النسوي بسبب التركيز على صور الجمال في القرن الماضي والاخفاق في الاحاطة بوجهات نظر تاريخية واسعة. وتضع (باليا) اصل الجمال في مصر القديمة.
وعلى النقيض من موقف (وولف)، تقول (نانسي إيتكوف) ان الجمال هو عنصر قوي وحقيقي في الحياة اليومية. وتتفق مع (داروين) بأن الجمال يؤثر في الاختيار الجنسي، ولكنها تذهب الى القول بأنه يؤثر على جميع جوانب الحياة بدءاً من مرحلة الطفولة المبكرة. الجمال هو ليس نتيجة التلاعب السياسي او الاقتصادي بل على العكس من ذلك: نظرا لتأثيره القوي، يستخدم الجمال كوسيلة لتحقيق غايات سياسية واقتصادية. ان الجمال وفقا لـ (إيتكوف) ليس نتاج فترة معينة في التاريخ، انما يكمن اصله في الطبيعة البشرية نفسها.

الجمال والفن
لقد عُدّ الفن تقليدياً مصدرا للجمال، حتى ان بعضهم يقول ان الجمال الطبيعي يخضع للجمال الفني. مع ذلك، فإن (افلاطون) فصل الفن والجمال في مفهومين مستقلين، الجمال الواقعي يعكس الحقيقة، في حين ان الفن هو تقليد خدّاع للطبيعة. على النقيض من ذلك، رأى (ارسطو) ان الفن الجيد جميل ولذلك فهما لا ينفصلان: العمل الفني الجيد هو عمل جميل. ساد التقليد الارسطي الجمالي لقرون عدة، ولكن القرن الثامن عشر ادى الى فكرة مفادها ان خلق الجمال هو الغرض الاساس من الفن.
يرى (كانط) ان الفن الجيد جميل، على الرغم من انه يختلف كثيراً عن الجمال الطبيعي، ويقول: ان العمل الفني الجيد هو تمثيل جميل. يمكن ان يكون التمثيل جميلا حتى لو ان موضوعه ليس جميلاً. يقول (هيغل) ان الجمال هو سمة اساسية من سمات الفن، والجمال الطبيعي هو انعكاس للجمال الفني. في هذا الرأي يعكس الجمال الانشاء القصدي، وليس النتائج العرضية للقوى الطبيعية العمياء. ربط الشاعر (شيلر) الفن بالحرية والجمال، ويقول: وصلنا الى الحرية من خلال الجمال الفني لانه نتاج مقصود واختيار حر. ان المقارنة بين الجمال الفني والطبيعي قادت (اوسكار وايلد) الى ملاحظة ان الحياة والطبيعة تقلدان الفن اكثر بكثير من ان يكون الفن يقلد الحياة او الطبيعة. الفن هو خلق الجمال وتشكل الحياة والطبيعة مواده الخام. يذكر (بندتو كروتشه) بالطريقة نفسها ان الاحساس بالجمال الطبيعي مشتق من الجمال الفني. لا يمكن تفسير جمال الطبيعة الا اذا عددناه من عمل الاله الخالق. الجمال بحسب (كروتشه) هو مرادف للحدس والتعبير وهذان يحيلان الى الشكل الفني. ان مضمون العمل هو جميل فقط عندما يكون مصنوعاً في الشكل.
يعرف (روبين جي كولينجوود) الفن بأنه محاولة لتحقيق الجمال. ومع ذلك لم تكسب وجهة نظره تأثيراً في القرن العشرين. لقد فضل الاتجاه التحليلي السائد، على ما يبدو، المفاهيم الواضحة التي يمكن تحديدها ولم تكن مواتية لدراسة الطبيعة المتناقضة للجمال ووضعه المنطقي الغامض والخلافات التي لا تنتهي على مسائل الذوق. وهكذا رُفِضَ الجمال كمفهوم غامض وغير مهم وعُدّ غير ذي صلة بالفن. يلاحظ (لودفيج فيتجنشتاين) في هذا السياق التحليلي ان الجمال هو كلمة غريبة تستعمل نادراً. ويذكر (جون باسمور) ان هناك شيئاً مريباً حول مفهوم الجمال، ويبدو ان الفنانين يحققون نجاحاً جيداً بدونه. وقد ربط الجمال بالفن الهابط والفن البرجوازي.
ان ربط الجمال مع السطحية والحياة البرجوازية الهادئة وقف على النقيض من الروح الثورية للفن الحديث والجو العام بين الحربين العالميتين وبعدها. ان فصل الفن عن الجمال اصبح ممارسة شائعة. ووفقا لـ (كيرت دوكاس) ليس هناك اتصال جوهري بين الفن والجمال. فالفن هو محاولة للتعبير عن المشاعر وقد ينوي الفنانون التعبير عن القبح في عملهم. قال (نيلسون غودمان) ان العديد من افضل اللوحات قبيحة في اوضح معانيها. ووفقا لـ (غودمان) فالجمال هو مفهوم غامض ومضلل في حين ان الفن هو نوع من اللغة التي ليس لها رابط اساسي مع الجمال. ان التعريف المؤسسي المؤثر للفن الذي نُوقش كثيراً المقدم من قبل (جورج ديكي) يتجاوز بالطريقة نفسها مفهوم الجمال.
تنتقد (ماري موذرسل) بشدة الاهمال الواسع للجمال وانفصاله عن الفن. وترى أن فكرة الجمال لا غنى عنها ومفروغٌ منها في النقد الفني، فعلى الرغم من ان النقاد لا يشيرون صراحة الى الجمال لكن الفكرة ضمنية في انتقاداتهم. ويعكس تحليل (موذرسل) للجمال تغييراً في المنهاج. وبحلول مطلع القرن نشهد تجدد الاهتمام في مختلف جوانب الجمال، اذ نجد الكثير من الدراسات المعاصرة تؤكد ان الجمال امر اساس لتجربة الانسان على الرغم من الاهمال في خطاب القرن الماضي. ان الحيوية الحقيقية للجمال ستفتن العقل التأملي وتلهم المزيد من التحقيقات لطبيعتها.

اطيب التحيات
د. راقي نجم الدين (كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا