الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعود جِدُّوكاب وصعود النوبة للروائى يحيى مختار

خليل كلفت

2015 / 3 / 18
الادب والفن


صعود جُدُّكاب وصعود النوبة
للروائى يحيى مختار

تدور هذه الرواية القصيرة، هذه "النوڤ-;---;--يلَّا"، حول چِدُّوكاب. و چِدُّوكاب اسم صبىٍّ من قرية أدندان وهى آخر قرية من الشرق فى جنوب النوبة القديمة، نوبة ما قبل السد العالى وما قبل تهجير النوبيين بزمن غير قصير (منذ عشرينات القرن العشرين على وجه التحديد). وكان الصبى ابن الستة أعوام تلميذا فى المدرسة الإلزامية عندما بدا عليه نبوغ مبكِّر ملحوظ. ويشحنه تركيز مَنْ حوله على نبوغه بطموح كبير يستحوذ عليه فيدفعه إلى طموحات وأحلام، وكانت المعجزة أنه حققها رغم شروط قاسية فى غربته القاهرية. وتسرد الرواية حياة الصبى من السادسة من عمره إلى ما فوق السبعين، حيث ظل يعانى صابرا مثابرا رغم العقبات والعراقيل فى سبيل تحقيق حلمه بالتعليم والتقدم.
والبطل الحقيقى هنا هو هذا الطموح الإيكارى الذى تغرسه فى الفتى نصيحة أستاذه فى المدرسة الإلزامية فى القرية، ووصية والده المتوفى، لما لاحظاه عليه من نبوغ لافت مبكر. ومن محاسن الصدف، وحياة البشر محصلة ضرورات ومصادفات، أن يتمتع الفتى بكثرة من المرشدين على رأسهم المعلم الذى لعب دورا أساسيا فى إبراز قدراته ووضْعها أمام عينيه، ولم يعرف إلا فى وقت لاحق أن والده كان المرشد الأول فقد أوصى بضرورة سفره إلى القاهرة ليتعلم، فيتفادى القَدَر النوبى فى ذلك الزمن. صحيح أن وصية أبيه لم تصل إليه بصورة مباشرة غير أنها كانت تؤثر فيه من خلال مَنْ تلقوا تلك الوصية، واقتنعوا بها، وقاموا بتنفيذها، دون أن يخبروا بها الفتى إلا عند سفره إلى القاهرة، وكان أولهم "عوض نصر"، جده لوالدته.
استحوذ عليه ذلك الطموح الذى غرسه فيه تشجيع غير عادى ممن حوله عندما لاحظوا تفوقه ونبوغه. وهكذا غرق الفتى غَرَقا فى بحث دائم عن التعليم والعلم والمعرفة والفهم، ومنحه ذلك الطموح العزيمة والصلابة وقوة الإرادة التى جعلته يتحمل ما فوق الطاقة من معاناة فى القاهرة، التى وضعت قدميه بصورة مليئة بالمنعرجات على طريق تحقيق مطامحه، وبفضل تلك المعاناة وتلك الفُرَص التى خلقتها المصادفة فاستثمرها بنبوغه وإصراره على تحقيق طموحه، لم يبقَ رهين محبسه النوبى مزارعا فى النوبة أو خادما فى القاهرة أو الإسكندرية.
وكان ذلك القَدَر النوبى مصيره ومصير كل فرد نوبى ومصير الجماعة النوبية كلها، وقد تصارع كل فرد نوبى وكل النوبيين مع ذلك المصير، فصار ذلك الصراع المظفر للنوبيين ضد قَدَرهم الموضوع الجوهرى لهذه النوڤ-;---;--يلَّا، والبؤرة التى تتجمع عندها كل أحداثها وأحلامها. ومن معاناة الفرد والجماعة خرجت قاطرة كبرى للتقدم حتى من ذلك الواقع الذى جثم على حياة النوبيين التى لم يكن مكتوبا لها أن يحدث فيها ذلك الانقلاب التاريخى الذى لن يفاجئنا حدوثه إذا أدركنا حقائق ما جعله ممكنا رغم تلك الشروط السلبية بكل وضوح.
وتمرّ على الفتى، بطبيعة الحال، أحداث كبرى بنتائجها وتداعياتها، تمرّ عليه حينا وعلى النوبة أو مصر أو العالم أحيانا: التعلية الثانية لخزان أسوان، والسد العالى، والحربان العالميتان الأولى والثانية، والانتقال إلى حياة جديدة تماما فى القاهرة ومعاناة هذه الحياة الجديدة فى الغربة، وخسارة كثيرين من أقاربه وأصدقائه الذين كانوا سند حياته، وانتقالاته، بعد الحرمان من الدراسة بسبب عودة أخته إلى القرية لوفاة زوجها، من مهنة بسيطة إلى مهنة أخرى بسيطة، وزواجه وتكوين أسرته، ومساعدته لوالدته فى البلد عندما استطاع ذلك بعد حرمان طويل وسفره إلى خارج مصر للعمل.
وكان الحدث الكبير أيضا بفضل نبوغه حيث كان تطوره مدفوعا بقدرته على الاستيعاب السريع وبعزيمته وإرادته الفولاذية وبنفوره من العمل خادما وعامل نظافة وتخلص من مثل هذا العمل بتعلُّم وإتقان مجموعة من المهن.
كان ذلك الحدث هو تعليمه الذاتى، لنفسه بنفسه، وبصورة أفضل من المدارس التى حرمته منها ظروفه القاسية. لم يتعلم بنفسه فقط مسلحا بالذكاء والعزيمة ذلك التعليم المعتاد، بل تعلَّم ما لم يكن فى الحسبان، وهو إجادة عدد من اللغات. علمته المدرسة الإلزامية فى النوبة اللغة العربية الفصحى فأضافها إلى لغته النوبية، لغة الفاديجا، وعلمته المدرسة فى القاهرة المزيد من الفصحى وشيئا من الإنجليزية، كما علمته القاهرة نفسها لغتها العامية فأجادها بلكنة نوبية لا مفر منها، وبحكم ذكائه وإرادته وأقداره التى وضعت له فى طريقه مُرشدا عند كل ناصية، تعلم اللغة اليونانية وأجادها كأهلها عندما بدأ عمله فى المستشفى اليونانى "كعامل نظافة"، وتقدَّم بعد ذلك، فى اللغة والعمل والملبس، وتعلَّم الفرنسية وأجادها كأهلها عندما لا حظ فرنسى جاء إلى المستشفى بمريض فصاحة يونانيته، ونصحه بتعلُّم الفرنسية ما دام قد أجاد اليونانية إلى هذا الحد، ثم استأنف تعلُّمه الذاتى للإنجليزية أيضا.
وإذا كانت الرواية تركِّز على تعلُّمه الذاتى، فإنها تضفر هذا مع التقدُّم الذى حققه النوبيون بأنفسهم لأنفسهم، وذلك رغم قسوة ظروفهم قبل السد العالى وبعده، قبل التهجير وبعده. وكما تطوَّر ذلك الطفل القروى النوبى الذى نشأ فى قريته النائية التى تعانى التهميش فصار المثقف والفنان الذى له وزنه وشأنه وبدأ خدماته للنوبيين ولفنهم ولغتهم بالذات من خلال التعليم المستقل، تطوَّر النوبيون ككل وتقدَّموا بصورة جذرية عن طريق أشياء كثيرة ولكنْ قبل كل شيء بالتعليم أيضا.
وكنا نسمع عندما جئنا إلى القاهرة التندُّر بأن النوبيين نصفهم بوابون ونصفهم الآخر شعراء، وكان هذا صحيحا من الناحية الجوهرية فقد عرفتُ الطباخ الذى يكتب الشعر بالفرنسية، ورأيتُ معجم لاروس الفرنسى لأول مرة قبل هجرتى إلى القاهرة عند مدبرِّ منزل نوبى يجيد الفرنسية على كل المستويات، كما اتضح فيما بعد. وقفز النوبيون قفزة كبرى من مجتمع قروىّ بسيط إلى مجتمع متطور انتشر فيه التعليم والتعليم العالى على أوسع نطاق فى كل فروع العلم والمعرفة، واختفت تماما الصورة القديمة للنوبى وحلت محلها صورة مجتمع يتقدم ولا ينى يتقدم بالمقاييس المصرية، على كل حال.
ونرى هنا شيئا جوهريا هو أن ذلك التقدم الاستثنائى لشخص نوبى بعيدا عن مجتمعه الأصلى جاء مضفورا مع تحول جذرى للنوبيين الذين انتقلوا من حال إلى حال، من مجتمع المزارعين والبوابين والطباخين والسفرجية إلى مجتمع المستقبل. ولا عجب فهذا الشخص يحمل بداخله نفس ذلك الطموح الذى دفع مجتمع النوبيين إلى التطور بخطًى واسعة خلال الفترة السابقة التى لا تتجاوز عقودا قليلة، وقد تفجَّر ذلك الطموح نابعا من معاناتهم القاسية والمهينة من ناحية، ومن ناحية أخرى من حقيقة أننا إزاء شعب ورث تاريخا مجيدا وثقافة رفيعة منذ آلاف السنين، ولم تكن حياتهم فيها على نفس أراضى النوبة المصرية المعاصرة، بل كانوا قد قَدِموا إليها فى القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، من حضاراتهم المتعاقبة فى شمال السودان.
ويدهشنا بالطبع أن ذلك الفتى النوبى ابن المجتمع الفقير المهمَّش صار هذا الرجل المتطور بعلمه ونضجه ونبله وكرمه وعطائه، كما يدهشنا كيف تحوَّل ذلك المجتمع النوبى القروى الذى عاش حياته الفقيرة المهمَّشة على ضفتى النيل النوبى مزارعين أو صيادى سمك أو مراكبية كبداية ثم بوابين وطباخين وسفرجية فى القاهرة والإسكندرية، وأميين فى كل الأحوال، إلى مجتمع نوبى مختلف تماما حقق على الأقل المساواة مع المجتمع المصرى ككل. يدهشنا ذلك رغم إدراكنا أن الاستعداد لهذا التطور كامن فى فردهم وفى جماعتهم. ويذكِّرنا هذا بقولة لشخصية فى رواية لدوستويڤ-;---;--سكى مفادها أن ذلك العربجى الأمى الجاهل الذى هناك ينطوى بداخله على شيكسپير، بل يذكِّرنى بدهشتى الدائمة إزاء قفزة المجتمع المصرى القليل السكان والذى كان أغلب أفراده من الفلاحين القراريين فى القرن التاسع عشر إلى مجتمع الثقافة الرفيعة فى الأدب والموسيقى والنحت والتصوير وغير ذلك فى أواخر ذلك القرن وفى النصف الأول، أىْ النصف الحلو، من القرن العشرين، رغم تواضع الحداثة التى اكتسبها تحت الاحتلال البريطانى. إنه أشبه بخروج طه حسين الذى رأى كل شيء وقاد شعبه نحو الحداثة من ذلك المجتمع المصرى التقليدى فى المنيا.
هذا التحول العميق لهذا الفرد الذى أفلت من أقدار مجتمعه، وأحيانا من خلال أقدار مجتمعه لفترة غير قصيرة، وهذا التحول للمجتمع النوبى كله من معاناة الفقر والحرمان والمهانة إلى المجتمع النوبى الجديد رافضا أقداره، تضفر بينهما رواية چِدُّوكاب، حيث نرى تحول مجتمع مضفورا بتحول أحد أفراده، لأنه منه ويحمل بداخله معاناة كل الشروط القاسية لحياة شعبه، ويتطلعان مدفوعيْن بكرامة الإنسان إلى أن يخلقا حياتهما الجديدة على أسس جديدة أولها التعليم. وكان هذا الضفر أو التضفير بين القَدَر الأصلى، وقصة خروجهما منه رحلة عنيدة شجاعة صنعها النوبى والنوبة فى الواقع وسجلتها الرواية باقتدار.
ونحن هنا إزاء نوڤ-;---;--يلَّا novella. وحسب بعض التقديرات الكمية يتراوح طول النوڤ-;---;--يلَّاnovella بين عشرين وأربعين ألف كلمة، وهى أقصر من الرواية novel التى يقدَّر طولها بما فوق أربعين ألف كلمة، وأطول من القصة الطويلة novelette التى يقدَّر طولها بما بين 7500 كلمة و 20 ألف كلمة، ومن القصة القصيرة short story التى يقدَّر طولها بما بين ألف و7500 كلمة. ويصل طول "چِدُّوكاب" إلى أقل من 25 ألف كلمة.
والنوڤ-;---;--يلَّا نوع أدبى يرجع إلى عصر النهضة وبوكاتشيو (1313- 1375) والديكاميرون المنشور فى 1353، ومن أمثلة هذا النوع، بين قوائم طويلة، "طبيب الأمراض العقلية" (1882) لماشادو ده أسيس، و"التحول أو المسخ" (1915) لفرانتس كافكا، وبيتنا فى شارع المانجو (1984) لساندرا سيسنيروس، ومزرعة الحيوانات (1945) لچورچ أورويل، و"العجوز والبحر" (1952) لهيمنجواى، و"پيدرو پارامو" لخوان رولفو، و"الأمير الصغير" (1943) لأنطوان دو سانت إكزيپيرى، و"الجناح رقم 6" (1892) لأنطون تشيخوڤ-;---;--. وهى جميعا تتميز بالتركيز على شخص أو شيء واحد يمثل محورها، وبالخلوِّ من تفريعات الرواية، وغالبا ببساطة البناء. وتقع هذه النوڤ-;---;--يلا (حوالى 120 صفحة) فى فصلين.
وتنطبق كل هذه المواصفات على رواية "چدوكاب" فهى تركز طول الوقت على هذه الشخصية، ويمكن تصنيفها أيضا على أنها رواية تكوين Bildungsroman بالألمانية، novel of formation بالإنجليزية لشخصية تنتقل من الصبا إلى النضج والشيخوخة. كما أنها رواية سيرة لم يكتبها بطلها بل كتبها روائىّ عن صديقه، كما أن تماهى الروائى مع البطل، واعتماده على مدونات البطل نفسه الذى ظل يدوِّن الأحداث والخواطر منذ صغره، يقتربان بها أحيانا من السيرة الذاتية.
ولأن هذه النوڤ-;---;--يلا تضفر رحلة بطلين انتقلا من حال إلى حال وأنجزا ما أرادا، هما فرد نوبى هو محمد سليمان چدُّوكاب والنوبيون ككل جماعى، سأتحدث بإيجاز عن قصة البطل الفرد قبل الحديث بإيجاز أيضا عن قصة البطل المتمثل فى المجتمع النوبى.
نشأ الفتى يتيما، ولكنْ فى أسرة حاضنة وحامية ومشجِّعة، فقد توفى أبوه فى 1925، وكان چِدُّوكاب فى السادسة من عمره، وبعد وفاته بسنتين دخل المدرسة الإلزامية التى تعلم فيها من 1930 إلى 1935. ويخبرنا السرد أنه كان عند سفره إلى القاهرة فى 1935 فى الحادية عشرة من عمره. وهنا تناقض لم ينتبه إليه السارد، فإذا كان قد دخل المدرسة بعد وفاة أبيه بسنتين أىْ فى 1927، فكيف كانت دراسته من 1930 إلى 1935؟ وإذا كان چِدُّوكاب فى السادسة من عمره عند وفاة أبيه فكيف صار عند سفره فى 1935 فى الحادية عشرة من عمره، على حين أن عمره المفترض كان ستة عشر عاما (ستة أعوام عند وفاة والده فى عام 1925 + عشرة أعوام بين عامىْ 1925 و 1935)؟ وسنجد أن هذه الغلطة تُحْدِث ارتباكا عند تتبُّع القصة، على سبيل المثال عندما يدهشنا بحدود وعيه فى مواقف عديدة بما يتناسب مع عمر أصغر وهو فى عمر أكبر، وعندما تدهشنا سذاجة تساؤلاته وخواطره المحيِّرة التى قد تتناسب مع سن 11 ولكنها لا تتناسب قطعا مع سن 16، خاصة مع مراهق نابغة!
إذن سافر الفتى چِدُّوكاب، كما يناديه أقرانه، ليكمل دراسته فى القاهرة، بعد أن أنهى دراسته الإلزامية بتفوق. ونعلم من السرد أن هجرته كانت "حتمية"، ذلك أن أستاذه أحمد جيل (تعنى الصفة جيل فى اللغة النوبية أحمر اللون فهو أحمر لأنه على الأقل أفتح لونا من النوبيين) مدفوعا بتفوقه ونبوغه المبكريْن، نصحه بالسفر لإكمال تعليمه فى الشمال حيث ينتظره مستقبل مشرق، وكذلك تنفيذا للوصية المشددة من أبيه.
ونشعر عند هجرته بأنها تختلف عن الهجرة النوبية المعتادة، وبحكم طبيعة اختلافها كانت هجرة "حتمية"، ولهذا تملأ القارئ النوبى أو المتماهى مع النوبى بكبرياء الكرامة المقبلة التى تضفى جوٍّا مليئا سحريا أو أسطوريا يذكرنا، ولله المثل الأعلى، بپروميثيوس سارق النار من الآلهة ليعطيه للبشر، أو إيكاروس الذى طار مع أبيه ديدالوس ذلك الصَّنَاع الماهر العظيم بالطيران بأجنحة صنعها من الريش والشمع للهرب من اللابيرينث الذى كان من اختراعه حيث حبسه الملك مينوس. وكانت هجرة النوبيين للعمل بوابين أو طباخين أو سفرجية "حتمية" طلبا للرزق من طريق تلك المهن المهينة لا لشيء إلَّا لأنها صارت رمزا للنوبى، أما الهجرة الجديدة فكانت طلبا للتعليم والعلم والمعرفة والتقدم والمكانة الاجتماعية، أىْ طلبا للخروج من القَدَر النوبى الذى بدا أشبه بقانون طبيعى لا فكاك منه.
ويبدو لنا الفتى مسحورا بعالم العلم والمعرفة ورحلة البحث، وهكذا نعيش معه انبهاره بسحر تحوُّل الحروف المتفرقة التى كان عليهم أن يحفظوها متفرقة فى البداية، عندما تتجمع فتولد منها أصوات لمعانٍ قابلة للفهم. دفعه هذا إلى الشغف بالدراسة ليعرف مزيدا من الأشياء وأسمائها ومعانيها ووقر فى نفسه أنه سوف يتعلم الكتابة ويعرف ما لا يعرفه جده فيقرأ ويكتب له الخطابات. وكان الفتى يواظب منذ طفولته على تدوين مذكراته، تقليدا لأستاذه. ولا شك فى أن التواريخ المتناقضة لعمر الفتى تربكنا بين نبوغ الطفل وسذاجة المراهق أو الشاب الصغير، خاصة أن السرد يخبرنا بتفاصيل واقع وخيال هذا المنجذب أو المجذوب الذى كان يودِّع كل شيء يعرف كم سيشتاق إليه، ولا يعرف متى سيراه من جديد، وكأن يحيى مختار عاد إلى أسلوب مجموعته القصصية الأولى "عروس النيل" التى نُشرت طبعتها الأولى فى 1991.
وتكتسب معرفة اللغات أهمية قصوى عند الفتى. كان يعرف بالطبع لغته الفاديجا. وتمتد نصيحة أستاذه إلى اللغة فعليه أن يتعلم العامية القاهرية خارج المدرسة وأن يستكمل إتقانه للفصحى فى المدرسة. ويقلقه بشدة أنه لا يعرف شيئا من العامية فكيف سيتفاهم مع الناس، ذلك أنه لم يعرف أن الفصحى والعامية لغة واحدة لا يتمايزان إلا بالإعراب فى الفصحى وبديل الإعراب فى العامية.
وعندما يذهب إلى إمام الجامع الشيخ محمد دخيل الله ليعيره بعض كتبه الصوفية يوضح له أن عليه أن يتعلم الكثير قبل أن يطلع على ما لديه من كتب. وهنا تظهر سمة من السمات التى لن تفارقه حيث أخذ ينجذب إلى التصوف، ويتردد على الموالد، وعرف طريق كتب الميرغنية الشاذلية، وسمع "السفين" فى مدح الرسول فانبهر بالتصوف وانصهر فيه.
وفى القاهرة يذهب إلى المدرسة أىْ إلى التعليم الذى ذهب باحثا عنه وهنا يتعلم العامية والمزيد من الفصحى وشيئا من الإنجليزية ويهرب من محبسه فى اللغة النوبية السائدة فى جنوب النوبة المصرية، لغة الفاديجا، وينتقل من اللغة كحاجز إلى اللغة كجسر للتفاهم، وسيكون هذا الانجذاب إلى اللغات دافعه إلى معرفة لغات أخرى.
غير أنه سرعان ما يفقد فرصة التعليم الذى سافر للإفلات بفضله من قَدَر المهن النوبية عندما يموت زوج أخته فتعود إلى القرية. وهنا ينتقل إلى منزل خاله فى حى آخر، وتضطره زوجته إلى معاناة رهيبة فى بيت خاله وزوجته حيث يحلم حتى بأكل الطعمية، وإلى الخروج إلى العمل المتواضع فى زمن تفشت فيه البطالة بسبب الحرب العالمية. ويصير مهددا بالعودة إلى القرية إن لم يجد عملا. وأخذه خاله الذى لم يشأ أن يعمل ابن أخته خادما إلى الأسطى شكرى الترزى القبطى. ونجح فى عمله الجديد وأتقنه ونال رضى الأسطى، وأخذ يتنقل من ترزى إلى آخر، وقضى خمس سنوات ترزيا بلديا، وساعده أحد أقاربه فى العمل بائعا فى تجارة شخص من قريته، وانتقل من بيت خاله وتخلَّص من اضطهاد زوجته. وقضى فى عمله الجديد ثلاثة أعوام، وبسبب الحالة الاقتصادية ترك عمله، وساعده أحد أقاربه فى العمل كخادم نظافة فى المستشفى اليونانى وهو فى العشرين من عمره. وكان العمل فى المستشفى نقلة هائلة فى معيشته، فالإقامة مجانية ووجبات الطعام الجيد مجانية، وأتقن أعمالا متنوعة فى المستشفى. وكان قد انفتح له باب للمعرفة بقراءة جرائد أحد الترزية ومتابعة تطورات الحرب العالمية وتأثيرها على مصر. غير أن العمل خادما فى المستشفى أعاده إلى الاهتمام باللغات، عندما عمل فى عنبر الطيارين اليونانيين، فواجهته مشكلة اللغة، وساعدته عاملة السويتش اليونانية فى تعلُّم اللغة اليونانية، بل إتقانها كأحد أبنائها. وعمل معاونا للمستشفى ليلا. وقادته مشكلة اللغة كلما التقى بأشخاص لا يعرف لغتهم، وعلى هذا النحو أتقن الفرنسية أيضا، إلى جانب ما أخذ يضيفه لما كان قد تعلَّمه من الإنجليزية. وتعلَّم چِدُّوكاب أشياء لا حصر لها. وكان التعلم عنده كالغريزة التى ينبغى إشباعها دوما، كما قالت له الموظفة اليونانية، التى نقلته نقلة أخرى، فانتقل بإشارة منها من الجلباب والطاقية إلى الملابس الحديثة. ترك المستشفى بعد ثمانى سنوات وعمل فى إدارة البنك الشرقى فرَّاشا، وخلال عمله فراشا أتقن الكتابة على الآلة الكاتبة فعمل كاتبا عليها وموظفا لبريد البنك، ولكن مدير شئون العاملين أراد أن يقوم أيضا بأعمال النظافة. والتقطه من ذلك البنك شخص ليعمل موظفا فى بنك فرنسى، ثم صار موظفا فى قسم التوريدات إضافة إلى الحسابات الجارية وحسابات الشيكات. وقرر استئناف تعليمه وحصل على الإعدادية فى 1955 وعمره 31 سنة، وعلى الثانوية العامة فى 1958، والتحق بكلية الحقوق ثم انصرف عن الدراسة لعدم جدواها فى حالته. وعندما مات جده فى سن 125، اعتبر چِدُّوكاب أنه مات ليس بحكم عمره بل لأنه سمع عن بناء السد العالى. وعاد من القرية وكانت القوانين الاشتراكية قد صدرت وصار موظفا فى إدارة شئون العاملين ببنك مصر. وكانت تلك فترة اقتلاع النوبيين من الجذور، كما يقول السرد، بتهجيرهم إلى شمال أسوان، ذلك التهجير على ظهر صنادل البهائم الذى أجاد يحيى مختار تصويره فى روايته "جبال الكحل". وفيما بعد أسس مع مثقفين آخرين "جمعية التراث النوبى"، وصار يخدم النوبيين بفنه ونشاطه وبالأخص بتعليمهم كتابة لغتهم بالحروف اليونانية المعدَّلة التى كانت تُكتب بها فى العصر البطلمى، مستعينا بكتاب للدكتور مختار خليل أستاذ الآثار بجامعة القاهرة، الذى درس النوبية التى يتقنها فهى لغته فى جامعة فى ألمانيا الغربية على يد پرفيسورات ألمان، وكان نوبيا من قرية أبو سمبل بالغ الاهتمام بالتراث النوبى كله وبالأخص باللغة النوبية.
ويمكن القول إن قصة صعود چِدُّوكاب كانت، على أهميتها، مجرد تفصيلة من تفاصيل صعود النوبيين جميعا من حال إلى حال؛ وكان التعليم فى نوبة ما قبل السد العالى متفوقا على التعليم فى أرياف مصر.
وكانت الديستوپيا النوبية قد بدأت منذ بناء خزان أسوان وتعليتيه وأخيرا السد العالى الذى أغرق النوبه كلها. وارتبط قَدَر النوبيين بهذه المشروعات المائية حيث بدأت الهجرة النوبية الواسعة عندما ضاقت عليهم سبل الرزق حيث كان كل ارتفاع لمنسوب مياه النيل يقلِّص أراضيهم الزراعية ويُغرق نجوعهم فينتقلون إلى أعلى ويبنون قرى جديدة. ومع التعلية الثانية لخزان أسوان غرقت قرية "قته" وهو الحدث الكبير الذى صوره أهم أديب نوبى وهو محمد خليل قاسم فى روايته الديستوپية الشهيرة "الشمندوة"، وهى المثل الأعلى للأدب النوبى، وكان غرق "قته" فى 1933 بمثابة پروڤ-;---;--ا چينيرال لغرق النوبة بكاملها مع بناء السد العالى. ويؤكد السرد أن الهجرة النوبية كانت واسعة للغاية قبل خزان أسوان. والحقيقة أنها كانت هجرة مثل هجرة أبناء أرياف مصر جميعا إلى العاصمتين، القاهرة والإسكندرية. على أن الهجرة الكبرى للنوبيين إلى الشمال كانت نتيجة مباشرة للمشروعات المائية التى قلبت أقدار النوبيين رأسا على عقب. وتصادف بناء خزان أسوان مع الاحتلال البريطانى والحضرنة الواسعة للعاصمتين وبالتالى ظهور المناطق الجاذبة للعمالة المهاجرة مع ما رأينا من نشأة المنطقة الطاردة للسكان التى أطلقت الهجرة الواسعة من كل أنحاء مصر، وبالأخص من النوبة.
وتزامنت الهجرة النوبية مع الحضرنة المصرية الواسعة النطاق فتحدَّد بذلك قَدَر النوبيين الذين كانوا يهاجرون فلا يجدون مهنا تستقبلهم غير مهن البواب والطباخ والسفرجى وكان هذا رجوعا بالمجتمع النوبى إلى الوراء. وكانت الهجرة النوبية خيرا لمصر كلها وخطوة كبرى إلى الوراء للنوبيين الذين تحدد بذلك وضعهم كخدم وبرابرة. غير أن تلك الخطوة الكبرى إلى الوراء كانت حافزا على إصرار النوبيين بصورة لا تُصدَّق على شق طريقهم الخاص نحو التقدم. وبقوة رفضهم لواقعهم الجديد الذى حوَّلهم إلى مجتمع الخدم والبرابرة، اندفع النوبيون فى اتجاه آخر، حيث رفضوا أن تكون ذريتهم خدما مثلهم وكان البواب أو الطباخ أو السفرجى يعلِّم أولاده وبناتِه أحسن تعليم. وبالتالى نشأ من ذريتهم مجتمع جديد من المتعلمين والمبدعين على أوسع نطاق. ويبدو أن الكاتب الذى يرفض فكرة رفض الجنوب النوبى للشمال "المصرى"، كما يظهر عند البعض، اتجه إلى التأكيد على الوحدة الكاملة بين الشمال والجنوب، وفى روايات الكاتب النوبى الراحل أنور جعفر نجد تصويرا بالغ الحيوية والجمال لدور الشمال فى تقدم الجنوب فى فترة أسبق من خزان أسوان وهى فترة أسبق حتى من زمن رواية "الشمندورة" ومن زمن روايات يحيى مختار، الذى كان قد أهدانى بعض كتبه. ويسير السرد هنا على نفس الطريق غير أن احتضانه لتراچيديا النوبة والنوبيين فرض نفسه عليه بعيدا عن إملاءات أيديولوجيا الوحدة التى يذوب فيها جميع المصريين. وفى نهاية النص يذكر لنا السرد قائمة للنوبيين الذين نبغوا وتقدموا وكان بوسعه أن يُطيل تلك القائمة إلى أضعافها. وربما كان هذا السرد لرموز للمجتمع النوبى الجديد بهذه الطريقة المباشرة أضعف ما فى الرواية.
والحقيقة أن يحيى مختار عاشق لكل ما هو نوبى، ولم يكتب إلا عن النوبة والنوبيين فأنتج روايات وقصصا قصيرة فى غاية الجمال، لا مجال هنا للإشارة إليها حتى بإيجاز، وصار مع باقى الكتاب النوبيين، وفى مقدمتهم إدريس على وحجاج أدول وياسر عبد اللطيف، رموزا لظهور المجتمع النوبى الجديد.
ويقول لنا بعض أصدقائنا الكتاب غير النوبيين إن معاناتهم تُماثل معاناة كل المصريين، خاصة فى الأرياف. وأعتقد أن تجاهل الخصوصية هنا حُبًّا فى النوبيين انحياز غير مقصود بصورة لاواعية لشوڤ-;---;--ينية الأغلبية التى تنكر خصوصيات الأقليات وأبسط حقوقها كما تفعل الدولة المصرية مع النوبة والنوبيين. ويمتد هذا إلى رفضٍ لفكرة الأدب النوبى، ولكنْ لماذا ننكر وجود أقلية من منطقة جغرافية، ناطقة بلغات تختلف تماما عن اللغة العربية، فهى لغات أفرو-آسيوية لكل النوبيين عبر الحدود، هى اللغات النوبية النهرية، إلى جانب اللغات النوبية الجبلية. ويمثل إنكار كل هذا بحجة الوحدة، وهى وحدة مصرية حقيقية لنا جميعا، نوعا من الشوڤ-;---;--ينية اللاواعية. وأنا أممى متطرف، ولست قوميا نوبيا بحال من الأحوال، غير أن الحقيقة هى أن الهويات المتراكبة لكل إنسان لا تمنع التنوع.
عن دار النشر الكتب خان 2015 بالقاهرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با