الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر السيسي: بذخ الرؤية ومخاطر الواقع

فرانسوا باسيلي

2015 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


هل تكفي أموال قارون المتدفقة علي مصر لتحقيق أحلامها الشاهقة وحمايتها من الأخطار المحدقة؟

عندما تستمع إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يتكلم عن مصر ورؤيته لها بأسلوبه الهادىء الباسم والقوي المحكم في نفس الوقت، وتحلق معه في الآفاق العالية والعريضة لملامح مصر الجديدة التي يرسمها حديثه سواء في خطبه العامة أمام الآلاف أو في لقاءاته التلفزية مع إعلاميين، وترى في لمعان عينيه بريق الحلم الذي يحلمه لمصر، وفي نبرة صوته قوة إيمانه بإمكانية تحقيق هذا الحلم، لا تملك إلاّ أن تعجب بقدرة الرجل وإيمانه بما يقول، وتنتشي بمدى روعة وبذخ الحلم الذي يرسمه لمصر الجديدة، في نفس الوقت الذي تشفق وترتعب فيه، من إمكانية أن يهوي هذا الحلم ويتحطّم على أرض الواقع المصري الأليم، كما هوت أحلام كبيرة وهائلة من قبله، وتستدعي من تاريخ مصر القريب أمثلة تعزز هذه الشفقة وهذا الرعب.

محاولات عبدالناصر النهضوية

ألم تكن أحلام عبدالناصر عظيمة ولا تقلّ علوا وسعة عن أحلام السيسي اليوم؟ ألم تصبح مصر معه وبعد وصوله إلى السلطة بسنوات قليلة، في منتصف الخمسينات من القرن الماضي زعيمة العالم الثالث الملهمة والمساندة لكافة ثوراته التحررية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية؟

ألم يخلب ناصر خيال الشعوب العربية وآمالها برؤيته النهضوية العصرية وخطابه القومي العربي الوحدوي وتحدّيه البطولي لقوى الاستعمار العالمي، ثم تحقيقه لوحدة مصرية سورية استمرت لثلاث سنوات، حتى أصبح عبدالناصر عدو الاستعمار الأول في العالم، تُدبّر له مؤامرات الاغتيال كل بضعة أشهر فتفشل كلها بسبب ذلك الالتفاف الشعبي الأسطوري حول “الزعيم” الذي أحبه المصريون بشكل غير مسبوق، فكان يخرج وسطهم في سيارة مكشوفة يحيط به الملايين فلا يناله منهم سوى الحب الغامر، فيما عدا رصاصة غادرة أطلقها رجل من الإخوان عليه، وهو يلقي خطابا بالإسكندرية فيحفظه الله منها. وكشفت تلك الحادثة كيف وقفت تلك الجماعة البدائية دائما ضد كل مبادرات النهضة العصرية في مصر والعالم العربي منذ ذلك الوقت وإلى اليوم.

وداخليا، ألم يرسل عبدالناصر وزير صناعته، عزيز صدقي، لكي يفتتح مصنعا كل يومين منذ تعيينه في عام 1956، وعلى امتداد فترة الستينات حتى بدأت مصر تصنع السيارات والثلاجات و”البوتاجغاز”، وكان يحلم بأن تشمل تلك الصناعة كل المنتوجات من “الإبرة إلى الصاروخ”، ويحقق معدل تنمية عالية يصل الفقراء قبل الأغنياء، فكان يبني لهم المساكن الشعبية اللائقة، ويفتتح لهم المدارس الجديدة، كمدرسة رمسيس الإعدادية، التي درست بها شخصيا وأنا طفل في الخمسينات في شبرا بالقاهرة.

ألم يضع عبدالناصر بنفسه حجر الأساس لكاتدرائية الأقباط الكبرى، ليؤكد عمليا رؤيته العصرية للدولة المدنية التي أقامها، ويعزّز من خلالها الوحدة الوطنية بين أطياف الشعب المصري، مع اهتمامه وتقديره البالغ للعلوم والفنون، فأعلى بذلك من قوة مصر الناعمة وأوصلها إلى أقاصي البلاد العربية وما بعدها، حتى وصلت الثقافة والفنون المصرية في الستينات إلى أزهى عصورها في تاريخ مصر منذ انهيار الحضارة المصرية القديمة، فكيف انتهي هذا كلّه؟ ألم يتهاوى كصرح من خيال مع هزيمة 1967، ثم مع انقضاض الإخوان بعدها على الإرث الناصري، بأفكارهم وممارساتهم البدائية الهمجية، فإذا بمصر تعود إلى الوراء قرنين أو يزيد، ليس فقط إلى ما قبل ناصر، بل إلى ما قبل محمد علي والدولة المصرية نفسها.

أمام هذا التاريخ القريب والمعاصر لمسلسل الأحلام المصرية الهائلة التي تبرق لسنوات قليلة ثمّ تنهار بشكل مفاجئ ومفجع، كيف لا نشفق على السيسي وأحلامه، وعلى أنفسنا وأحلامنا معه، ونحن نرى مدى سمو وعلو هذه الأحلام المدغدغة للمشاعر، ونرى في نفس الوقت حجم وهول الأخطار الحقيقية المحدقة بمصر، والمحيطة بها من الخارج والداخل. كيف لا نشفق ونحن نعرف طبيعة الشعب المصري، القديم، الحليم، الصبور، صعب المراس وصعب القيادة، قوي الإرادة ولكن العنيد والعصي على التغيير الذي يأتيه من فوق. شعب يمكن أن يحب قائده المخلص بشدة ويتبعه حتى إلى الهاوية ما دام يثق في إخلاصه، لكنه في نفس الوقت يترك قائده هذا يعمل وحده، لا ينضمّ إليه بجدية إلاّ إذا أحدق بمصر خطر عظيم، مثلما لبّى نداء السيسي، فخرج بالملايين إلى الشوارع في أنحاء المدن المصرية مطالبا بإسقاط الرئيس مرسي، الذي اكتشف أنّه يتصرف كرئيس لجماعته وليس رئيسا لمصر، وكما فعل من قبل مع عبدالناصر حين انخرط في حرب الاستنزاف.

هذه الجماهير نفسها في غير أوقات الأخطار المحدقة، تعود إلى حياتها التي تميل إلى الطيبة والاستسهال والاستمرار على ما تعوّدت من حب للمرح والفرح والعشرة الطيبة والتمتع بالأحباب والأصحاب على حساب العمل الجاد والإنتاجية العالية، وهي فلسفة حياة اختارها المصريون منذ قديم الأزل. وقد تلومهم أو تحسدهم عليها حسب تقييمك لما هو أهم في الحياة، فالعمل لديهم ليس له أولوية كما هو حال الأميركيين مثلا، فالمصريون يرون العمل كضرورة استثنائية لابد من التخلص منها بأقصى سرعة للعودة إلى ما هو أهم في حياتهم، وهو التمتع بمحبة وصحبة الأقارب والأصحاب.

إنّ دفء العلاقة الإنسانية ومرح الصحبة الهنية، وليس العمل والإنتاج، هما أساس القيمة العليا في حياة المصريين، وليس من السهل إقناعهم بالتضحية بهذا الهدف لصالح الكثرة والجودة الإنتاجية.

أمام التحديات والأخطار المحدقة بمصر من الداخل والخارج، وأمام فهمنا لطبيعة المصريين؛ ما هو التقدير السليم لاحتمال تحول أحلام السيسي إلى واقع مصري جديد؟

لقد أثبت السيسي بما لا يدع مجالا للشّك قدرته الهائلة على التأثير الإيجابي في قادة العالمين العربي والغربي حتى أنه استطاع أن يجذب حوالي ثلاثين ملكا ورئيسا وقائدا لدول عربية وغربية لحضور مؤتمر اقتصادي، لا يحضره عادة هذا الحشد الهائل من القادة والزعماء، بعد أن استطاع خلال ثمانية أشهر فقط إقناع العالم أنّ في مصر اليوم قيادة حقيقية حازمة وقادرة وذات رؤية، وقد عقدت العزم على التعاون السريع مع الراغب والقادر من دول العالم لبناء دولة مصرية حديثة، هي الأكبر في الشرق الأوسط، سواء كسوق اقتصادي هائل، أو كقيادة سياسية وثقافية مؤثرة بالمنطقة. وبالتالي شعرت هذه الدول أنها ستخسر كثيرا إذا لم تسارع باللّحاق بركب الدول المتعاونة مع مصر- السيسي. وكانت أكبر مظاهر التحول في مواقف الدول، هي تلك التي رأيناها من الولايات المتحدة، حيث حضر وزير خارجيتها، جون كيري، لكي يلقي خطابا كأنّ من كتبه له هو السيسي نفسه. فقد قال الرجل كل ما تريده مصر بالضبط، وكانت حصيلة المؤتمر؛ ما يقارب من 200 مليار من الدولارات، وهو مبلغ ضخم بكل المقاييس، وما كان يمكن أن يأتي لمصر تحت أي قيادة أخرى في الوقت الحالي.

القدرة على الحلم إذن لا شك فيها، وكذلك القدرة على إقناع العالم، وتبقى في النهاية القدرة على إقناع المصريين بضرورة التغيير في أساليب فكرهم وحياتهم، ولو بقدر محدود، لكي يمكن لهم أن يعملوا على تحقيق المشروعات العملاقة التي تم التعاقد بخصوصها، والتي ستتكفل العمالة المصرية أساسا بإنشائها. فالخطر الأساس الذي يواجه مصر اليوم هو أن يعمل السيسي، رفقة رئيس حكومته إبراهيم محلب، بأسلوب جديد وحماسة فائقة بينما يظل الأشخاص في دهاليز الدولة المصرية العميقة والعتيقة على حالهم، ينتظرون أن يجد السيسي حلولا لمشاكلهم، وكأنهم ليسوا هم أساس المشكلة وأساس الحل معا. وقد تصاعدت الانتقادات سريعا، تتهم الدولة بالتوجه الخاطئ نحو مشروعات تخدم الأثرياء المرفهين وليس الملايين المطحونين، فما جدوى عاصمة جديدة، بينما لدينا أحياء كاملة من العشوائيات ومدن بلا حصر في الدلتا والصعيد تعيش في فترات ما قبل العصر الصناعي، من دون مساكن ولا صرف صحي وبلا مستشفيات وبلا مدارس.

ويتساءل المشككون، وبعضهم أساتذة في الاقتصاد وعلم الاجتماع في جامعات مصر ومراكز أبحاثها، ورغم أنّ الاستماع للأصوات المعارضة ضروري جدا، وكذلك للأصوات المشكّكة، إلاّ أنّ الأمر في هذه الحالة يبدو أكبر من مجرد اختلاف حول التوجه الأساسي للدولة؛ هل يميل نحو المطحونين أم نحو الأثرياء؟ وهل يسعى إلى التأسيس للمستقبل أم لإصلاح الحاضر؟ الثابت أنّ السير في أحد الخيارين دون الآخر قد يكون في ظرف مصر الراهن غير متاح أصلا، فالظرف يفرض أن يكون التوجه للإثنين معا، كما يجب أن تعمل المشروعات العملاقة في المجالين معا، أي في الحاضر والمستقبل، ولجميع المواطنين وخاصة الأغلبية المطحونة.

كان المطلوب، بعد ثمانية أشهر من حكم السيسي، هو الضخ السريع لمبالغ ضخمة لإنعاش الاقتصاد المصري وجذب أموال الاستثمار السريع في كل المجالات التي يطلبها، وقد تحقق ذلك بشكل يفوق كل التوقعات. لكنّ ذلك لا يمنع أن تقوم الدولة بعد ذلك، أو بالتزامن معه، بحل مشاكل المئات من المصانع المعطلة حاليا لتعود إلى عملها. وقد شملت المشاريع العملاقة مجالات هامة مثل الطاقة من كهرباء وغاز ورياح ونووية وقطاعات النقل والمواصلات الحيوية السريعة، وغيرها الكثير من الأعمال الضخمة، وأضخمها هي العاصمة الجديدة (في شرق القاهرة)، والتي يمكن أن تضخ شيئا بالغ الأهمية في مصر، بالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية المعمارية والإدارية، وهو الجانب المعنوي الرمزي الذي لا يمكن الاستهانة بقدرته السحرية على شحذ الهمم وإشعال شرارة المواهب. ولا يمكن لمن يرى نموذج المشروع الضخم ويتعرف على جوانبه العملاقة، إلاّ أن يحفزه لأن يرتفع بمستوى أدائه الشخصي ليكون جديرا بمستوى هذه العاصمة العصرية المتحفزة للقفز إلى مستقبل مختلف واعد، فليس بالخبز وحده تحيا الشعوب، وكثيرا ما يأتي الخبز لمن يملك القدرة على الحلم بما هو أبعد وأجمل من خبز اليوم، فيمده الحلم بالطاقة اللازمة لتحقيقه. ولا شك أن العاصمة الجديدة هي التأكيد العملي الواضح لعزم المصريين الملتفين حول السيسي على بناء مصر الجديدة، فالبشر أهم من الحجر، ولكن منذ فجر التاريخ لجأ البشر إلى الحجر يكتبون به أجمل أحلامهم وأمجادهم وأساطيرهم لتبقى هي الشاهد الأساس على استحقاق وجودهم وعطاء حضاراتهم.

وما تزال أحلام السيسي تحتاج إلى المزيد من التحليل والتقييم، والأخطار المحدقة تحتاج إلى المزيد من الأفكار والأفعال الضرورية لتخطيها، لكن المؤكد والواعد أن الرؤية الأساسية للسيسي قد أصبحت هي الملهمة الأولى لكل ما يحدث في مصر اليوم. وهي رؤية خلاقة، دافعة ورافعة. رؤية هائلة عبّر عنها السيسي في بداية ظهوره على مسرح الأحداث في مصر والمنطقة العربية بكلمات بالغة البساطة والقوة في نفس الوقت؛ “مصر أم الدنيا، وحاتبقى قد الدنيا”.

كاتب مصري يقيم في نيويورك











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطائرات من دون طيار الفاعل الرئيسي الجديد في الحروب


.. سيول جارفة ضرب ولاية قريات في سلطنة عُمان




.. دمار مربع سكني بمخيم المغازي جراء القصف على غزة


.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: سنرد على إيران وقاعدة نيفاتيم




.. بايدن ينشغل بساعته الذكية أثناء حديث السوداني عن العلاقة بين