الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
طرف من سيرة جدتي دولت
هويدا صالح
2015 / 3 / 27الادب والفن
كانت جدتي " دولت " وهذا اسمها بطلة روايتي الأولى "عمرة الدار" ليس لأننا نعود لطفولنا ونكتب ذواتنا وخاصة في العمل الأول، ولكن لأنها كانت امرأة شديدة الباأس قوية، لها كلمة مسموعة بين العائلة، يعود إليها الرجال في كل تفصيلة، يأخذون برأيها الذي غالبا ما يكون صوابا وحكيما، وهي لا تدخر وسعا في أن تكون حياة العائلة مستقرة وسعيدة.
كانت الجدة "دولت " ابنة عائلة فقيرة لا تقل فقرا عن عائلة جدي. جدي الذي لم يكن يمتلك من الدنيا سوى ذراعه. انتقلت مع زوجها الشاب الفقير إلى بيت من الطين في غرب البلد، وقررت أن تسانده وتعيش حياته ، بل وتصنع معه حياة يتحدث بها رجال القرية ونسائها في ليالي الشتاء الطويلة . كانت جدتي بطلة لحواديت النساء لصغارهن. بدأت تساعد الشاب الفقير في بعض الصناعات الصغيرة من الليف وجريد وسعف النخل، وهو يذهب بها للسوق يوم الأربعاء ويبيعها، وفي نفس الوقت كانت تربي الدجاجات والطيور المختلفة، فيبيع الزوج مع الصناعات اليدوية التي تصنعها الزوجة البيض أيضا.أنجبت منه ثلاثة من الذكور وصبيتين، وربت أبناءها هي وزوجها الفقير على فكرة العدل، العدل في المطلق، وكانت دائما ترى أن القوة والشجاعة دون عدل تؤدي حتما للظلم ، فلا يكفي أن تكون قويا وشجاعا، بل يجب أن تكون عادلا أيضا، فلا يذكر أحد أن زوجها أو ابنها ظلم ضعيفا أو اعتدى عليه، بل دوما يساندون الفقراء والضعفاء، ولا يقفون إلا في وجه الأغنياء.
مرت السنون الطويلة وأربعة من الرجال يعملون في حقول الآخرين أجراء وامرأة توفر وتدبر وتسير الأمور كما يجب، وكان السؤال الذي كنت دوما أطرحه على والدتي وهي تحكي عنها بفخر شديد كيف لم يشتر جدي أرضا ويصير غنيا وجدتي كانت بهذه الحكمة، فتخبرني أمي عن بيت جدي الصغير الذي تحول إلى محطة لاستقبال رجال الله القادمين من الشمال في طريقهم إلى الشيخ عبد الرحيم القناوي في الجنوب، فلابد يستضيفهم جدي، ليستريحوا ويتزودوا بما يمكنهم من إكمال الرحلة إلى القطب الصالح، وكذلك القادمون من الجنوب وفي طريقهم للشمال، لزيارة آل البيت في القاهرة أو أقطاب الصوفية في طنطا وإسكندرية لابد أيضا يحلون ضيوفا على بيت جدي. صار بيت جدي محطة للاستراحة يقصدها رجال الله وشيوخ الصوفية. وصارت "الختمة " ويقصد بها ليلة للذكر وختم القرآن، صارت موعدا أسبوعيا ليلة الجمعة من كل أسبوع، يتجمع الضيوف القادمين من الجنوب والشمال ومشايخ الصوفية في البلدة في حضرة ذكر وبعدها يتناولون العشاء. ولم يأت يوم ضيف لجدي دون أن يجد طعاما وشرابا ومبيتا.
كبر الأبناء وزوجتهم جدتي وعاشوا جميعا في البيت الذي تطور وأعيد بناؤه وصار بيتا ينافس بيت الأغنياء في البلدة ، وصارت جدتي سيدة الدار ملجأ كل فقير ومحتاج في البلدة، وصارت كذلك مقصد نساء البلدة يستشرنها في كل أمر، وتتدخل دوما لتحل المشكلات التي تعاني منها النساء. وأحيانا كثيرة تجبر الرجال على تحقيق وعود قطعوها على أنفسهم حتى تقبل وساطتهم وتصلح ذات البين بينهم وبين زوجاتهم. الأبناء والبنات تزوجوا وتفرعت العائلة ، وصار في بيت جدي عشرات من الصبية والصبايا الصغيرات، وأصرت جدتي أن يتم إرسال كل هذه الذرية إلى المدارس، وحين أخبرها جدي أن البنات مصيرهن للزواج، فلا بجب أن يرسلوهم إلى المدارس أصرت على رأيها ، وقالت له نحن نصنع منهم ثروة لا تقل أهمية عن الفدادين والأرض. وكانت تقول للجميع أنهم صنعوا فدادين لكنها وجدي صنعت بني آدمين، وتقصد أعمامي وأبي وشباب العائلة.
عاشت جدتي تسعين عاما، ولم تمت إلا وفي العائلة الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والمدرسين والمحاسبين. عشرات من شباب وشابات العائلة أشرفت جدتي دولت على تعليمهم وتعليمهن. وساندت أبنائها زووجها في كل أمر. لم يكن جدي الفلاح الفقير يتصور أن يبني عائلة متسعة وقوية بهذا الشكل. ودائما كان يداعبها ويمزح معها أمامنا ويحدثنا عن جمالها وهي صبية وعن مساندتها له. هكذا تصنع النساء في الصعيد الرجال. النساء في الصعيد مصنع للرجال.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان عبد الرحمان معمري من فرقة Raïm ضيف مونت كارلو الدولية
.. تعرّفوا إلى قصة “الخلاف بين أصابع اليد الواحدة” المُعبرة مع
.. ما القيمة التاريخية والثقافية التي يتميز بها جبل أحد؟
.. فودكاست الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان
.. حلقت شعرها عالهوا وشبيهة خالتها الفنانة #إلهام شاهين تفاصي