الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرهاب الفكري المستدام

محمد الحمّار

2015 / 4 / 10
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


"النبوغ يلامس الجنون". هذه المقولة قد تنطبق على الفكر التونسي – والعربي الإسلامي عموما- لِجهةِ أنّ النخب المثقفة وخاصة منها تلك التي تعنى بالبحث والتفكير في مسألة المزاوجة بين الإسلام ومتطلبات العصر، ربما "تفهم" القضية أكثر من اللزوم، ولِجهةِ أنّ هذا "الفهم" قد يكون معطِّلا لا فقط للفكر الذي تنتجه وإنما أيضا للقرار السياسي وللفعل الاجتماعي. كيف يحصل ذلك وهل من مَخرج من هذه الطريق المسدودة؟

حسب إطلاعي، تمارَس هذه الرياضة الفاشلة من طرف الكثير من الجمعيات الفكرية والثقافية وعددٍ لا يستهان به من الباحثين الجامعيين ومعظم الجرائد والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية. قد تستمع إلى مفكر أو باحث يشدد على ضرورة أن "يفهم" الجميع أنه لا بدّ من ردم الهوة بين الإسلام والحداثة وأنّ ذلك هو المخرج من مشكلة "كيف نتقدم". لكن ما أن يتطرق طرفٌ آخر إلى فكرة فيبسطها للتدارس معتقدا أنها قد تفضي إلى حلحلة المشكلة حتى يتوقف المفكر أو الباحث عن "الفهم".

أما عن سبب توقف "الفاهم" (للمشكلة/ للإشكالية) عن "فهم" الطرح المقترح للحلحلة فهو بديهي. لكنه بديهي فقط حين يتم تقصّيه بواسطة العقل الموصول، و يبدو غريبا للعقل المفصول. بكل بساطة، يبدو أنّ "الفاهم" للمشكلة الحضارية يرفض الحل من شدة تعلقه بـ"الفهم" من جهة أولى ومن قلة تعوده على تقبّلِ أفكار صالحة للحلحلة من جهة ثانية.

حسنا، لنضرب الآن مثلا حتى نفهم مليا وضع هذا المفكر "الفاهم" الذي لم يعد يفهم. فلنتصور مترجلا بصدد التوقف على قارعة طريقٍ بالمدينة مزدحمة جدا، يترقب مرور سيارة أجرة "تاكسي". لا يشك أحد في أنّ هذا الشخص "فاهم" لما يريد (استئجار "تاكسي") لغاية قضاء "شأن" ضروري، لذا تراه يلتفت يسرة لاقتناص اللون المميز (الأصفر، في تونس) من بين مختلف ألوان السيارات القادمة وللتأكد من علامة احمرار العَدّاد داخل كل سيارةٍ صفراء متجهةٍ نحو المكان الذي يتوقف فيه. وقد تمر سيارة أجرة فأخرى ثم ثالثة ورابعة وربما عاشرة أو أكثر دون أن تكون "التاكسي" شاغرة، لكن قد يتسبب تعوّد الشخص برؤية سيارات الأجرة غير الشاغرة إلى أن تفوته اللحظة الحاسمة، لحظة مرور السيارة الصفراء المحمرّة. وتكون النتيجة أن لا يراها. وإذا رآها قبل أن يقدر على التلويح إليها فلن يَطالها ولن ينالها. بل ربما من فرط أسفه على ضياعها سوف تفوته فرصة ثانية. وسيعود إلى مرحلة ترصّد "تاكسي" شاغرة. وربما أيضا سيقوده اليأس إلى المربع الأول فيعدل عن قضاء الشأن الذي كان يعتزم قضاءه. لكن لا مفرّ من أن يبقى مهووسا بهاجس الحاجة الضرورية التي لم يقضيها، ولا بدّ أنه سيكون مجبرا على برمجة تلبيتها في وقت لاحق مهما طال الزمن أو قصر.

على هذه الشاكلة يشتغل الفكر عند العرب – والمستعربين والمعرَّبين والمعرِّبين- وهكذا أضحى "فهمهم" لقضياهم نقمة لا نعمة. ثم لم نعد ننتظر من هذا الفكر سوى تكراره لنفسه أي لِجهة "فهم القضية" والمزيد من "فهمها" والتأكيد على "فهمها"، مع الصمم والعمى كلما طرق طارقٌ باب التجاوز و البناء والتواصل والارتقاء. وهذا بحد ذاته فقدان للفهم طالما أنّه إقصاء. وهو إقصاء لـ" آخرٍ" قد يكون بحقّ حمالا لحل أو في أسوأ الحالات لبذور الحل. هكذا وجد المفكر والباحث العربي ملاذه في اعتماد الاعتداد بالفهم وفي تعاطي جنون النبوغ وسيلة للتسلية وتبديد الوقت وإهدار الجهد. هكذا تمارس عدة جمعيات بواسطة الندوات والمحاضرات و الورشات ما قلّ من التثقيف وما كثر من الضحك على ذقون الجماهير العريضة. وهكذا تتفنن غالبية الصحف والمجلات العربية وكذلك الراديوات والتلفزيونات في الخلط بين "الحاجة العمومية" (على سبيل الحصر: التطرق إلى تأصيل الإسلام والحداثة كلاهما بالآخر) و"الخط التحريري" ( على سبيل الحصر: رفض التبشير بفكرة شخصية) وترفض الخطاب المبني على الفهم مكتفية بالخطاب الذي يجترّ المادة المفهومة.

مع هذا، ها أنّ العرب يكرّسون المفاهيم الكونية الحديثة الهادفة إلى المزيد من التقدم على غرار مفهوم "الاستدامة"، يكرّسونها في ما يخدم تكريس تخلفهم. ها أنهم "فاهمون" جيدا القضية الفلسطينية إلى حدّ قبولٍ مستدامٍ للاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية. ها أنهم "فاهمون" أنّ الإرهاب آفة ومع هذا لا يعيرون اهتماما للإرهاب الذاتي – إرهاب المثقف حين يمارسه على نفسه - ولا للإرهاب الفكري المستدام الذي يمارسه مثقف على مثقف آخر وعلى عموم الناس.

بالنهاية، سواء كانت زيارة مريضٍ بالمستشفى أم الاستشفاء الحضاري هي حاجة الإنسان العربي، وسواء كانت سيارة الأجرة أم المدونة الفكرية هي موضوع اهتمام عقل هذا الإنسان، فليس لديه من خيارٍ سوى التحرك إلى الأمام ولو بتحمل مشقة السير على الأقدام. وفي حال يتوفر الدافع (حاجة الزيارة/حاجة الاستشفاء) دون تحقيق الهدف (أداء الزيارة/بلوغ الشفاء)، وفي صورة أن لا يلبَّى شرط التوافق بينهما، فمَثَلُ ذلك مَثلُ الطائر الذي يحاول قسرا الطيران بجناح واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا


.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس




.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة