الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصعيدي الذي قهر الفصام

احمد الباسوسي

2015 / 4 / 11
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


عندما أصٌدِرُ هذا المقال تحت عنوان الصعيدي الذي قهر الفصام فمؤكد أنني لست أمزح، كما أنني لست منحازا لجماعة الصعايدة الذين أحترمهم وأحبهم. بل أقرر واقعا حدث بالفعل، وأتقدم بشهادة ربما ستكون مثار انتقاد وشماتة من بعض الزملاء الذين يؤمنون بيقين أن مرض الفصام من الأمراض التي لا سبيل الى التعافي النهائي منها. لكني في السطور القادمة سوف أقدم نموذج لحالة حقيقية ناضلت وكافحت بشراسة من أجل السيطرة على أعراض الفصام، واستعادة ايقاع الحياة الطبيعية، وقد تحقق لها ذلك على الأقل خلال فترة تواصلي معها. وهذا هدفي النهائي مع كل المرضى الذين التقيهم بمختلف صنوفهم، وأيضا بمختلف شراسة وإزمانيه المرض المعوق لمسيرتهم مع الواقع والتعامل مع الآخرين. وكانت البداية على الطريقة الصعيدية أيضا مغالاة في المجاملة والاهتمام، حيث فوجئت بأربعة اشخاص، ثلاثة في عمر الشباب، وآخر يبدو ستيني يقفون قبالتي ويقف بينهم شخص لم أخطئه، ملامحه، ملابسه، وجدانه كل ذلك يشي بوضوح أنه المريض المطلوب فحصه وعلاجه. طلبت منهم الانصراف عدا الشخص المقرب جدا من المريض يظل معه أثناء الفحص المبدئي. وبالفعل بقى شاب نحيف، ثلاثيني، أخبرني أنه درس الخدمة الاجتماعية بالجامعة، وقريبه وصديقه المقرب منذ طفولتهما، ومهتم بحالته بشكل شخصي منذ قدم هنا للعمل. تفحصت المريض جيدا وكان يتابع حديثي مع قريبه الجامعي باهتمام، عينيه كانتا تراقب الأرض معظم الوقت، الوجه مستدير، البشرة خمرية، ضربتها الشمس بضراوة، وسحقها المرض والاضطراب. العينان غائرتان، باهتتان، كأنهما ميتتان، شعر الذقن غير حليق، والجلباب ومن تحته الصديري المصري المعروف غير مهندمين. أيقنت عندها أنني أمام تحدي غير مأمون العواقب مثل العادة عندما تتعامل مع المرض النفسي والمرضى النفسيين البؤساء. سجلت البيانات الاساسية على النحو التالي: صعيدي قح من أعماق سوهاج ، العمر 35 عاما، تزوج منذ سبعة أعوام خلت ولم ينجب، بل في انتظار مولود عن قريب. لم يفلح في التعليم الأساسي، مر على الصف الأول الابتدائي، ثم فر هاربا مثل الآف غيره يتسربون من التعليم بسبب الفقر المدقع، أو مجرد نسيانهم في زحام الأبناء، وبالتالي عدم الاهتمام. يعمل هنا منذ تسعة أعوام بوظيفة عامل يبيع مفروشات. جاء بصحبة والده ذلك الشخص الستيني الذي ظهر مع الآخرين، وأبناء عمومته للعلاج من زملة معقدة من الاضطرابات. وعن طبيعة الشكوى الحالية يقول "اشك في كل حاجة، في مرآتي، في البيت، في الناس، كنت نايم ومرآتي نزلت تجيب حاجة قمت هايج عليها لقيتها قاعدة بتاخد البرشام بتاعها، أبق متردد جدا، أبق عايز أقص أظافري لكن أتردد. في بعض الأحيان أتكلم مع مرآتي وأمي واضحك معاهم وبعدين الوسواس يقول لي مرآتك كذا وكذا. يؤكد قريبه وصديقه المرافق أن شخصية المريض لم تتغير كثيرا عما كان عليه قبل المرض، كان قليل الكلام، كثير الشك. والبحث عن البداية (وفقا لرواية المريض ) يقول " من وأنا عمري (15) سنة كنت أكرر الوضوء، وأعيد الصلاة، وأخذ وقت طويل في الحمام، أخاف من النجاسة كثير أحسن المس مصحف أو أي شيء وأدخل النار، وأنا صغير ابن عمي قال قدامي مرة إن علاقات الناس موش مضبوطة، من يومها وأنا اشك في أمي ليه دخلت هنا ؟ وليه فلان دخل هنا ؟.
وهكذا انتهت الشكوى وبقى أن نحدد ملامحها كالتالي
أولا: " ظهور واجهة بارانوية للشكوى وقد تمثلت في ضلالات الشك والغيرة والخيانة، يقول " اشك في كل حاجة. أشك في مراتي، أشك في أمي، ليه دخلت هنا وليه فلان دخل هنا، اشك في الناس"، اضافة الى مشاعر الخوف، والتهيج والغضب المفاجئ و تبلد الوجدان نسبيا حيث تميز وجهه في جزء كبير من المقابلة بالتسطح والتشكك قبل ان ينفرج وجه عن ابتسامة مريحة في الربع الأخير من اللقاء. وأيضا عدم اتساق المزاج، أو السلوك أحيانا Incongruity. يقول " في بعض الأحيان أتكلم مع مرآتي وأمي، واضحك معاهم وبعدين الوسواس يقول لي مرآتك كذا وكذا أقوم متهيج عليهم ". وجد المريض صعوبة واضحة في تحديد ما هو الوسواس الذي يكلمه، هل مجرد فكرة، أو صوت في أذنه، لكنه استقر في آخر المقابلة على انها مجرد فكرة وسواسية مثل الصوت تأمره وتحدثه. وهنا يعلل المريض هذا العدم اتساق في الوجدان بوجود أفكارا وسواسيه محرضة. الأمر الذي ربما يكشف لنا لاحقا عن أعراضا فصامية من النوع البارانودي .
ثانيا: البداية المبكرة بالأعراض الوسواسية القهرية في عمر (15) عاما وذلك امر طبيعي ، وتمثلت صور السلوك القهري في تكرار الصلوات، إعادة الوضوء خشية النجاسة، والمكوث كثيرا داخل الحمام امعانا في التأكد من الاغتسال جيدا. هذه الصورة التقليدية للوسواس القهري والتي اتخذت شكل البداية كانت متعلقة ايضا بمظاهر أو صعوبات اخرى مثل ضلال الاضطهاد يقول " زمان كنت اشك في الوكل، اشك ان حد يتجسس عليا ". لكن هذه الأعراض الوسواسية تضاءل تأثيرها مع مرور الوقت لكنها لم تختفي تماما. ماتزال الافكار الوسواسية تلاحقه بدرجة أخف حاليا، والافعال القهرية فيما يخص الوضوء والصلاة والاستغراق فترة اضافية في الحمام اصبحت أقل تأثيرا ولا تتطلب فترات زمنية مرهقة
ثالثا: على الرغم من هذا الزخم من الأعراض الذهانية، مازالت الشخصية متكاملة، فالمريض عمل في مصر، وما يزال يعمل في الكويت بدرجة معقولة من التكيف، وتزوج مثل الآخرين، على الرغم من الصعوبات الشخصية التي يعاني منها خاصة ما يتعلق بعلاقاته الشخصية مع الآخرين، يقول " أكون ساكت أغلب الوقت وأنا جالس مع الناس". وكذلك الضلالات التي تلازمه بالنسبة لزوجته ووالدته وشكوكه المستمرة فيهما لدرجة التهيج عليهما حسبما يصف. والحالة على هذا النحو يمكن ان تنضوي مبدئيا تحت لافتة تشخيص الفصام من النوع البارانودي. وهو أكثر أنواع الفصام شهرة وانتشارا. ومرض الفصام بصفة عامة يُعرٌف باعتباره من الامراض العقلية المزمنة، حيث يفقد الشخص اتصاله بالواقع فيما يعرف بالذهان، ويتطلب تشخيصه وفقا للدليل الاحصائي التشخيصي الامريكي الرابع وجود أعراض لفترة معينة من الزمن حتى يتم التشخيص بنجاح، هذه الأعراض تتمثل في وجود عرضين مركزيين أو أكثر لمدة شهر واحد على الأقل مثل: الضلالات، الهلاوس، الكلام غير المترابط، التفسخ الجسيم في الشخصية، أو السلوك الكتاتوني أو الأعراض السلبية. كذلك يجب ان يكون هناك تدهورا حادا في عمل الشخص، وأدائه الدراسي، وعلاقاته الشخصية بالآخرين، وفي قدرته على رعاية نفسه. هذه الأعراض يجب ان تستمر لمدة ستة أشهر متتالية على الأقل، مع استمرار الأعراض المحورية لمدة شهر واحد على الأقل. وينقسم الفصام الى عدة أنماط فرعية على أساس غلبة الأعراض وقت التقييم. والصورة الإكلينيكية العامة تتميز بالاستقرار النسبي، وغالبا تكون الهلاوس وخاصة الهلاوس السمعية مصحوبة بالضلالات والشكوك، مع الاضطرابات الادراكية. هذه الاعراض يكون لها تأثير جسيم على الناحية الوظيفية للشخص، وتؤثر سلبا على نوعية حياته. والفصام البارانودي يتمايز عن الفصام بوجود هلاوس وضلالات يتضمن محتواها ادراك بالاضطهاد ، أو ادراك بالعظمة في معتقدات المريض عن العالم. وعلى الرغم من أن مرض الفصام البارانودي مزمن ويستمر مع الشخص مدى الحياة فان العلاج المناسب يتيح للفرد الذي يعاني أن يحصل على أكبر قدر من التكيف، ويتأقلم مع الواقع بدرجة كبيرة. ونذكر في السياق أن الدليل الاحصائي التشخيصي الامريكي الخامس لتشخيص الامراض النفسية الأخير قام بإلغاء كافة الانماط الفرعية للفصام بسبب محدودية ثباتها التشخيصي، بالإضافة الى انخفاض درجتي ثبات وصدق كل فئة من هذه الفئات، كما أن الاعراض وكذلك نقص الأعراض المستخدمة في التصنيفات الفئوية للفئات الفرعية للفصام لم تكن قادرة بصورة ملموسة على التشخيص. أيضا اعتقدت الجمعية الامريكية للطب النفسي أن هذه الانماط الفرعية للفصام يجب ازالتها حيث أنها لم تبدى مساعدة في تحسين الهدف العلاجي من جانب، أو تتمكن من التنبؤ بالمسار والاستجابة للعلاج حيث يختلف مريض عن الآخر معتمدا على شدة أعراضه من جانب آخر. وبالتالي فانه من المفيد النظر الى حدة الأعراض عند النظر في خيارات العلاج. وأخيرا تم التوصل مع المريض وقريبه المهتم والمتشوق ايضا الى مجموعة من التعليمات والواجبات التي بمقتضاها نحاول بلوغ أهدافنا المرحلية الخاصة بتدعيم ثقته بنفسه، والإقدام شراء ملابس لأقاربه في الصعيد بنفسه، حيث أنه يعتمد تماما على اقاربه بالكويت في شراء هدايا السفر ، لأن التردد الرهيب، والخوف يمنعانه دائما من الاقتراب من محلات الملابس وشراء أي شيء، وذلك من أهم مشاكله. اضافة الى العمل على تعديل تلك الافكار الضلالية المتعلقة بالشك في زوجته ووالدته، وأيضا تلك الحالة الانعزالية التي تدهمه وسط الناس، لا يتفاعل، لا يتحدث، خوف من المبادرة، والظهور. استقبل المريض التعليمات برحابة صدر، ابتسم ، كأنه شعر بالاطمئنان والراحة، أخبرني وهو يمد لي يده بالسلام مع ابتسامة مريحة أنه سوف يلتزم بكل ما أقوله، وسوف يعمل على تغيير نفسه بكل السبل. حملت ابتسامته الأخيرة معنى عظيم عندي، أيقنت ان هذا الصعيدي الفقير المسكين وثرثرته المتحدية، وغربته عن زوجته ووالدته، على الرغم من احتمائه بأقاربه هنا معظم الوقت سوف يفعلها وينجح. اتفقنا على الموعد المقبل عقب اسبوعين وغادر مع قريبه الشاب الطيب غرفتي، ومباشرة فوجئت بالآخرين المنتظرين بالخارج يدخلون مكتبي، يعربون عن امتنانهم وشكرهم بمنهى الطيبة والعظمة. وسوف نعرض في السطور القادمة لبعض الجوانب من جلسات المتابعة محددة البناء، التي قمنا فيها بالتركيز على تحقيق الأهداف الاساسية للعلاج، وهي كما ذكرنا عدد محدد من الجلسات يختص بحل المشكلات الاساسية مبعث شكوى المريض، وكذلك نعرض لجوانب من الجلسات غير محددة البناء، بمعنى أنها جلسات من دون سقف، هدفها تدعيم التحسن الحاصل، ومساندة المريض في انجاز الحد الأقصى من الشفاء.


مساء الاحد 8 نوفمبر 2009
(متابعة)
حضر اليوم بصحبة ابن عمه المقرب مثل المعتاد، المظاهر الخارجية المتعلقة بشكل وجدانه، استجاباته مظهره الشخصي، اهتمامه بحضور الجلسة وادراكه لمدى اهميتها، كل ذلك شيء مشجع للغاية، وإيجابي جدا. انفردت بابن العم المقرب اولا، قال " هوه أحسن بكثير الحمدلله يتكلم معانا، يدخل في مواضيع، مبقاش يزعق ويتهيج زي الأول". أدركت أن المظهر الخارجي حيث يبدو الآن تعكسه حالة من الانسجام الداخلي والهدوء والتصالح مع الذات. أصبح أكثر ايجابية في التعامل مع واقعه. وأكثر سلبية في الاستجابة للأفكار السلبية في الانسحاب من الواقع والتصارع معه. أكد على هذه الافكار عندما ا لتقيته في جلسة العلاج النفسي لاحقا. يقول " حاسس اني أحسن، غير الأول، أكلم مراتي تقولي كلامك اتغير، كان عندي شك رهيب، لو رايح مشوار أبق عاوز أخدها معايا، هيه الآن تقولي عمرك ما عملت كده. امبارح بدأت أشك في موضوع الدكتور، وحسابات موضوع الدورة الشهرية(يقصد مرحلة الشك في نسب ابنه)، لكن الشك ده راح على طول. كنت فرحان أوي انها حامل أمال أنا كنت متضايق ليه؟. جه امبارح الفكر نفسه ليه الدكتور، يزود أيام الحمل ويحسب من ايام الدورة، لكن قلت لنفسي لا هوه (يقصد الدكتور) قالي حسابنا غير حسابكم. مرة الوالدة كانت جابية حٌقْ سمن قمت هيجت عليها وقلت لها ليه تجيبيه وموش ليه!. دلوقتي أنا احسن. أسلم على الناس عادي. واشرب ورا الناس من القزازة عادي. آخذ قراراتي، دلوقتي قصيت أظافري، أصلى الوقت مرة واحدة، الاول كنت أصلى كذا مرة.
كنت احب الفلاين، لكن مقدرشي البسها. دلوقتي أقدر البسها ولو عاوز أعمل حاجة أعملها. كنت آكل لوحدي موش مع الناس. دلوقتي عادي آكل مع الناس. لكن لسه فيه حاجات مثل أني ساعات افكر بالشك والحمل، لكن أقول الحمدلله. فيه كوابيس كثيرة". الجدير بالذكر أن هذه الجلسة كانت الخامسة من جلسات المتابعة محددة البناء. وكنت الحظ المدى الواسع الذي يبديه المريض سواء في تنفيذ تعليمات العلاج بدقة، أو رغبته المحمومة غير المحدودة في أن يتغير، وأن يغير من أفكاره، سلوكياته، واسلوب حياته بصفة عامة خاصة ما يتعلق بعلاقاته بالآخرين. أيضا لاحظت وجود دعم نفسي/اجتماعي واسع المدى من أقاربه سواء الذي يعيشون معه في نفس السكن أو الذين يعملون معه في نفس المكان أو أماكن مجاورة، وحرص هؤلاء جميعا على مساعدته في تنفيذ خطة العلاج، والالتزام بالتطبيق الحرفي للأساليب العلاجية التأهيلية التي تقررت له من أجل احداث التغيير الشامل المنشود حتى تتحقق الأهداف العلاجية. وكان لهذا المجتمع العائلي الناشط، المحب، الواعي رغم بساطة غالبية هؤلاء الاقارب ومحدودية تعليمهم غير انهم كانوا يعتقدون في اسلوب العلاج وأهميته، ويملكون الوعي الفطري الكامل في دعم قريبهم المريض المسكين في قهر الفصام وكأنهم نجحوا بامتياز. الأمر الذي يشير الى أهمية وجود آخرين يملكون الحب والوعي والاهتمام والقدرة الفطرية على مساعدة المريض في أن يقهر هذا المرض المزمن في داخله، ويتحرك بنجاح نحو التغيير. وأذكر انه كان يأتي مع المريض في كل جلسة متابعة الى جانب ابن عمه الجامعي اثنين أو ثلاثة آخرون، يظلون بالخارج حتى نهاية الجلسة ثم يدخلون لتحيتي قبل انصرافهم مع مريضهم وقد أدركوا كل المطلوب من المريض ومنهم شخصيا. وعودة الى التغيرات الدراماتيكية التي حدثت للمريض في اتجاه ما هو تطوري ايجابي في اتجاه قهر الفصام نلاحظ وعيا حقيقيا بالتغير نحو ما هو أفضل، وادراك حقيقي لهذا التغيير المريح مقارنة بالسابق، لدرجة ان زوجته شعرت بذلك من خلال الاتصالات الهاتفية واخبرته بذلك. نلاحظ تراجع الافكار الوسواسية الملحة بصورة دالة، وتراجع نسبي لضلال الغيرة والخيانة فيما يخص نسب ابنه، نلاحظ قدرة نافذة على ضبط نفسه وتحويل مسار الافكار الضلالية الى ما هو متسق ومنطقي مع واقعه الجديد المتغير. وهذا في حد ذاته انجاز كبير يحسب للمريض واقاربه الذين يحيطونه. نلاحظ قدرة متعاظمة على الاقتراب مع الواقع وملامسته بديلا عن تجنبه، والهروب خوفا أو رعبا يقول " دلوقتي أسلم على الناس عادي، أشرب من القزازة وراهم، آخذ قراراتي، قصيت أظافري، البس الفلاين، آكل مع الناس، أصلي مرة واحدة من دون تكرار". هذا التحول المدهش والدراماتيكي في هذا الزمن القصير من بداية العلاج يشي بقوة الى اننا بصدد حالة مكافحة، تحتمي في ظل آخرين يؤمنون بحتمية الخلاص والتغيير، وتوفير الغطاء المطلوب من الحب والتقبل والايمان بقوة الداخل سواء لديهم أو لدى المريض الذي يطلب التغيير. وفي نفس الوقت ربما نراجع اللافتة التشخيصية للمرض حيث يمكن أن تذهب بنا في اتجاه أخر.
صباح الخميس 3ديسمبر 2009 عقب اجازة عيد الاضحى
(متابعة)
هذه الجلسة كانت عقب عيد الأضحى مباشرة، وكانت أجازه طويلة نسبيا، وبدت آثارها سواء الاحتفالية ، أو المعنوية بادية عليهم حينما دخلوا العيادة، كانوا خمسة بما فيهم المريض، وكان موعد المريض اليوم مع الطبيب المعالج بغرض صرف الدواء الشهري، ثم قررا العروج الى غرفتي لتحيتي، دخل مصحوبا بابتسامة واسعة، يلبس جلبابا على الطريقة الصعيدية نظيفا جديدا، وكانت البشرة لامعة، نضرة. وبدا وجدانه ممتلئ بالحياة والحيوية على غير العادة. بادرني قبل أن أسأله قال " أنا كويس، الحمد لله، لكن لسه في بعض الفكر. ساعات أشكك. مازال فيه بعض التردد، أشتري دشداشة وإلا ما اشتري؟ أحلق وإلا ما أحلق؟. لكن على العموم أنا أحسن خالص. ولما تجيني الأفكار في راسي أفتكر كلامك. حسيت إني كويس لما اتصلت على زوجتي، كانت منتظرة موافقتي عشان تزور أمها المريضة ؟ قلت لها لا انتي تزوريها على طول من غير استئذان. ودي أول مرة أقول لها كلام من ده هيه تفاجأت، قلت لها روحي عند أمك في أي وقت ". ونُذٌكِر أن اليوم لم يكن موعد جلسة نفسية، بل موعد مع الطبيب المعالج بغرض صرف الدواء الشهري، كما أنه وأقاربه يعلمون جيدا أنني اكون متواجدا أيضا في نفس اليوم في العيادة وأهتموا بالمرور لتحيتي، وابلاغي بآخر التطورات، الأمر الذي يعكس تطورا ونضجا في العلاقة بالمعالج ايجابيين، وذلك بالتأكيد في صالح العملية العلاجية وتطورها. المهم أن ما شكى بع المريض لا يمكن اعتباره تدهورا او انتكاسة اذا ما قارناه بموقفه في الجلسة السابقة، بقدر ما يمكن اعتباره تعبيرا عن ميلاد رؤية استبصاريه جديدة لدى المريض الذي يعاني من فصام بارا نودي مزمن. فقد أصبح أكثر استبصارا بضلالاته، وهلا وسه. بنفس القدر الذي أصبح فيه أكثر استبصارا بقدرة التحكم فيهما. فهو يعلن تحرره من الشكوك والضلالات، ويعلن أيضا سعادته بذلك. كأن شيئا جسيما انزاح عن كاهله. لكن في نفس الوقت لا ينكر أن ثمة آثارا مزعجة تراود خياله ورأسه أحيانا. فما زالت هناك أفكارا تتعلق بالتردد، لكنه قادر على السيطرة عليها، أو هكذا يرى نفسه على الأقل. ومؤشرات تلك الرؤية الاستبصارية التي نوهنا عنها هي أن المريض منتظما تماما في عمله. مهتما تماما بهندامه ونظافته الشخصية وسلوكه الشخص. هو ألان اقرب للتصالح مع ذاته على حساب تلك الأفكار المتوترة من الشكوك والريبة وغيرها. كما أن لديه علاقة علاجية صحية مع معالجة تدفعه دفعا لتحيته اذا ما ضبط نفسه قريبا منه مكانيا.
مساء الثلاثاء 8ديسمبر 2009
(متابعة)
كان في حالة مزاجية تبدو طيبة. يصحبه كالمعتاد ابن عمه. قال بسرعة قبل أن أسأله تقريرا عن الفترة الماضية " الفكرة أصبحت خمسين في المية، أضغط عليها واتحكم فيها. الأول كانت الفكرة هيه اللي تضغط عليا لحين لا. أنا اللي أضغط على الفكرة "، أعمل الحاجة على طول تروح الفكرة. وآخذ العلاج ". ادهشني تعبيره البسيط ، ودلالته ومغزاه. الان أصبح قادرا ولو بخمسين في المائة في أن يتحكم في افكاره الضلالية. وما كان في السابق من خنوع وضعف واستسلام أصبح الآن قوة وسيطرة وزهوا. تركته يسترسل ويعبر عن زهوه وسعادته. يقول " انا اتغيرت شوية كثار، كنت أقعد في المجلس ممكن أكون أحكي الحكاية تاني ما اهتمش. كنت الاول أكون متخوف من أني أقول كلمة. أو أسمع أي حاجة من أي حد. دلوقتي أي واحد يحكي جنبي أقدر اسيطر. أسمع، ومتأثرشي زي الأول. لما كنت في مصر أقعد في الشقة أقول لمراتي ما تسيبيني خايف !. لما أدخل الحمام كنت أرد الباب نصف فتحة من الخوف. دلوقتي أرد الباب ورايا. كلمت زوجتي ووالدتي. والدتي قالت لي صوتك معانا غير الأول ".
اذا اصبح يدرك عمليات التغيير التي حدثت له في الفترة الأخيرة. ويدرك أيضا تأثيراتها على الآخرين . أصبح اقل احتياجا للضلال. فهو الآن يعيش واقعه وذاق حلاوة هذا الواقع . أصبح اكثر قدرة وسيطرة على افكاره الوسواسية. يعلن بلا مبالغة قدرته على التحكم فيها بدرجة خمسين في المية، وهي نسبة كبيرة بالمعايير العلاجية وبقصر الفترة الزمنية التي قضاها منتظما ضمن اطار برنامج علاجي تكاملي صارم (دوائي نفسي اجتماعي). فالمريض مكافح بالمعنى الحرفي للكلمة. استطاع ببساطة وتلقائية وجدعنه الذين من حوله من اقاربه واصدقائه ان يتجاوز محنة التفكك الى الاحتفاظ بشخصيته متكاملة، ويسعى بدأب لافت لان يظل مستمرا في تكامله. محافظا ومحتفظا لنفسه بإرادة التغيير وقوة الخروج من ازمة فصام البارا نويا .
مساء الخميس 7يناير 2010
(متابعة)
حضر اليوم برفقة اين عمه، الذي اعتاد اصطحابه بسيارته في جلسات المتابعة النفسية، بادرني بمجرد استلقائه على المقعد وبدا سعيدا للغاية " النهارده قعدت أضحك من كثر الكلام ". كنت مبسوط ، آكل كثير اليومين دولم، وزني زاد شوية، اغرق من العرق، ساعات الافكار بتاعة الحمل تروح وتيجي، لكن موش قوي". أخبرته بوجود أعراضا جانبية يسببها العلاج الدوائي من ضمنها التعرق الزائد وزيادة الشهية والتناول المفرط للطعام، طلبت منه الحرص على ضبط مسألة الطعام والحرص على انقاص الوزن للعودة لمعدله الطبيعي، استرسل "أني مرتاح الآن، لدرجة أني أنام كثير لحد ما أشبع وربما هذا سبب زيادة الوزن ". أخبرته بضرورة ضبط كميات الطعام، والعودة لوزنه الطبيعي في المرحلة المقبلة، استدعيت قريبه، أبلغني ان كل شيء تمام جدا، وان المريض في حالة انفعالية ومزاجية عادية جدا، ويكاد لا يلحظ شيء غير طبيعي. كما ان سلوكه تحسن كثيرا ولا يلحظ مظاهرا غير عادية بالنسبة لسلوكه ، أفكاره أو مزاجه، أفهمته بضروريات المرحلة المقبلة من محاولة تلافي الأعراض السلبية للدواء، والسيطرة على سلوك الطعام، تفهم الموقف، وعدني ببذل الجهد في هذا السبيل، لكنه أخبرني عن رغبته في استشارتي في بعض الأمور التي تخصه وليست لها علاقة بالمريض. أخبرته دعنا نفعل ذلك الجلسة المقبلة حيث هناك مرضى بالخارج يتوقعون الدخول الآن، تفهم الموقف وخرج بصحبة قريبه المريض في حالة من الرضى تقريبا.
صباح الجمعة22يناير2010
(متابعة)
مثل المعتاد وفي كل مرة حضر في الموعد المضروب بدقة وبصحبته ابن عمه، وحسب الاتفاق السابق انفردت في البداية بأبن عم المريض والمرافق له، تبين أنه يعاني من بعض الصعوبات الشخصية سواء في حياته مع زوجته، أو مع الآخرين. استغرق هذا الأمر معظم وقت الجلسة، تنبه خلالها على بعض الأمور التي كانت غائبة عن وعيه، وعدني بالمحاولة، ومراعاة ما تم التنبه اليه. أبلغته أيضا بعدم حاجته الى برنامج للعلاج الدوائي، بقدر حاجته لطرق وأساليب جديدة مختلفة لمعالجة الضغوط النفسية، والتعامل مع الآخرين. أبدى اقتناعا، تهلل وجهه بالبشرى، وخرج بسرعة مستدعيا قريبه المريض. كان متهيبا بعض الشيء، مزاجه يميل الى والحزن في البداية نوعا ما ، كأنه مقصر في شيء ما. أبلغني بوجود تردد لكن أخف كثيرا مقارنة بالماضي. يقول " مراتي قالت لي عايزاك انت اللي تشتري لي الحاجة موش ابوك. وكل يوم أقول اروح النهارده. أروح بكرة. فيه شوية تردد مازالت موجوده. التفكير راح، الحديث الكثير بالفاضي والمليان راح ". وعلى الرغم من مزاج الحزن الذي دخل فيه في البداية غير ان ذلك تغير اثناء مسار الجلسة. على وجه العموم، حيث سارت الأمور في اتجاه ما هو ايجابي. وأن عدم رضاه عن الموقع الذي يتمركز فيه حاليا، يعكس نضجا ووعيا جديدا بقدرته وقوته الحالية، فهو الآن يطمع في تحقيق المزيد من المكاسب التي يستأهلها، لم يعد قانعا بحجم بالمكاسب التي تحققت، أصبح متحسفا على عدم قدرته الحالية على التقدم الذي يتمناه في العلاج. هذه الصورة تعكس وعيا حقيقيا بالواقع، ورغبة في اللحاق بركب الحياة الطبيعية الكاملة مثل الآخرين، فهو يعترف بوضوح ومن دون ميكانزمات دفاعية معوقة عن عجزه حتى الآن في بلوغ الطبيعية أو السواء الكامل، لكنه يتوقع ان يحقق هدفه في أن يصبح شخصا سويا كاملا. ثم لا ينسى التباهي بما تم انجازه وخاصة ما يتعلق بقدرته على السيطرة على النوبات الهوسية (كثرة الكلام، وتطاير الافكار وتقافزها). والصورة الإكلينيكية العامة التي انتهى عليها المريض في آخر الجلسة تشير بوضوح الى روقان ا لمزاج. وتحسن الوجدان حيث أصبح تفاعليا أكثر منه باردا او سطحيا أو متبلد. علاقاته بالآخرين حققت قدرا كبيرا من الحرارة والانضباط والحيوية وذلك يعني ابتعادا نسبيا عن الذهان واقترابا أكثر من الواقع .
مساء الخميس 18مارس 2010
(متابعة)
دخل بصحبة ابن العم المتبرم اليوم على غير العادة، لم يستطيع اخفاء هذا التبرم، أخبرني أنه مرهق، لم ينم جيدا ليلة أمس. أخبرني أيضا قبل أن يذهب أن المريض في أحسن حالاته الصحية والنفسية، ولا يصدر عنه أي شيء غير طبيعي والحمد لله. بمجرد أن دخل غرفتي واستلقى على المقعد قال "أنا الحمدلله، أنا أحسن، لكن مازال فيه حاجات بسيطة أشعر أنها عايزة تردني للقديم ؟. مازال التردد موجود شوية، مراتي وضعت وجابت عبدالله كنت قلقان عليها ولدت قيصري، كنت أتكلم كل دقيقة أطمئن عليها، سموه عبدالله، الوسوسة جات لي بخصوص الحساب بتاع المولود، لكن راحت بسرعة، التردد في اللبس أصبح أقل كثير عن الاول ، كنت الاول أروح أي مطرح لا اشرب عندهم شيء، لكن دلوقتي أشرب أي حاجة، الاول كان الكلام يتكرر عندي دلوقتي خلاص راح، كنت أتكلم مع الواحد وحاسس أن فيه حد يبص عليا، دلوقتي خلاص الحمدلله. هنا نلحظ ذلك المدى الواسع من الاستبصار بالحالة، وطريقته المبدعة في القياس، أصبح أكثر وعيا بتقييم حالته وقياسها أو معايرتها بمستويات حالاته السابقة في مراحل العلاج المختلفة، يتحدث عن تطور وتحسن على مستوى العرض الضلالي، مشكلته الأساسية، حيث كان يؤرقه بشدة شكوكا متعلقة بنسب الابن المرتقب والذي وضعته زوجته بالفعل أثناء مسيرة العلاج. أصبح أكثر تقبلا وتصالحا وانسجاما مع الزوجة والمولود، بل يشعر بالزهو والفرح الآن، على الرغم من هبوب بعض رياح أفكار الماضي البارانودية، أصبح أكثر وعيا بالأفكار الوسواسية وقدرة فريدة على ضبطها والسيطرة عليها، بل وتقييم حالة التحسن الخاصة به. لم يعد هناك ضلالات اشارة مثل السابق "كنت اتكلم مع واحد وحاسس ان فيه حد يبص عليا". نستطيع ان نقول أن المريض أصبح أكثر انسجاما مع واقعه، على الرغم من الهنات التي تلح على رأسه، لكن الجديد أنه أصبح قادرا على التعامل معها، ضبطها، السيطرة عليها، والتغلب عليها أيضا. والأهم كذلك قدرته الفريدة على معايرة حالته بمستويات الحالة في السابق سواء أثناء نشاك المرض، او اثناء جلسات العلاج النفسي طويل الأمد. واظنه نجح في ذلك رغم بساطته وعفويته. لكنه يملك من الوعي الفطري والارادة ما مكنه من الوقوف في وجه الفصام بكل قوته وجبروته. شجعته على الاستمرار في النهج الذي نسير عليه، هنأته بمولوده الجديد، وبقرب تعافيه. انتدبت فجأة للعمل في مكان آخر، وظل هاتفي النقال يحمل لي أخبار تطوره وتحسن أحواله وانخراطه في الحياة السوية بقوة سواء من خلاله مباشرة، أو من خلال قريبه ذلك الشخص الطيب الذي أشهد بمساهمته بدور فعال مع بقية اقاربه في هذا الفضل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد بين إيران وإسرائيل .. ما هي الارتدادات في غزة؟ |#غرف


.. وزراء خارجية دول مجموعة الـ7 يدعون إلى خفض التصعيد في الشرق




.. كاميرا مراقبة توثق لحظة استشهاد طفل برصاص الاحتلال في طولكرم


.. شهداء بينهم قائد بسرايا القدس إثر اقتحام قوات الاحتلال شرق ط




.. دكتور أردني يبكي خلال حديثه عن واقع المصابين في قطاع غزة