الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلاشي (قصة قصيرة)

احمد الباسوسي

2015 / 4 / 14
الادب والفن


التصقت صورة ذلك الشاب القصير المتباهي الأرعن في تلافيف أعصابي التي فارت بفعل طلقات الرصاص الطائشة التي بثها لسانه المنفلت تجاهيٌ قبل أن يقلب وجهه الاسمر النحيل المختبئ خلف نظارة طبية سميكة ويختفي بسرعة، كأنه تقمص دور أُولئك الارهابيين الذين اعتادوا تفجير قنابلهم عن بعد هذه الأيام والاختباء بسرعة. لأول مرة أشعر فعليا بدوران الأرض، أو دوراني على الأرض، كان كل شيء يهتز حولي وداخلي. أيقنت أن الكون لم يعد يتسع سوى لهؤلاء الحمقى والارهابيين. دارت رأسي المتورمة مع عجلات السيارة العتيقة كأنها تستجير بها لكي تسرع بالولوج داخل فضاء متمدد يتسع لشجني المهول الذي يتكاثر مع مرور الدقائق. كأني أبحث عن رحم أمي لاختبأ داخله في تلك اللحظة الفريدة من الزمن. صعدت السيارة الكوبري وهبطت. كان سور القاهرة القديم، والسيارات والناس يصخبون، ويتعاركون بالأيدي واللسان. مالت السيارة يسارا، توقفت أمام المبنى التركوازي لعلاج سرطان الطفال. التقطت أنفاسي، دلفت مهموما الى الداخل. مهمة شاقة يجب أن أنفذها حتى لو تشققت رأسي، أو انسحقت تحت أقدام أحد أجلاف هذه الأيام، حيث اكتفى والديه بالنفخ في بالون ذاته فتورم، وصعد للسماء، وأصبح طبيبا لا يرى سوى ذاته ومصالحه ولا شيء آخر. عند الزاوية كان صديقي يقف مشدودا، متوترا بالقرب من الباب، وكانت طفلته الشقية تحاول التملص من قبضته لتفر في الفضاء مع عشرات الاطفال الذي كانوا يصخبون، ويملؤون المكان مرحا وشقاوة وحيوية بأرديتهم النظيفة الجميلة. التقطتها، رفعتها الى أعلا لأقبلها، ضحكت بقوة، كأن السماء هي التي ضحكت، احتوتني ابتسامتها وعينيها بدرجة أشعرتني أن الدنيا كلها معي. دلفت مع والدها للداخل، المكان يغص بالأطفال والامهات الشابات، ودوران متواصل لا يتوقف في مختلف الجوانب والزوايا لأطباء شباب وممرضات، وفنيين وموظفين وعمال. كانت حركة الأطفال وهم يمرحون، ويجرون خلف بعضهم على الارضية الملساء الناعمة النظيفة مثل ملائكة السماء تشعرني بانقباضه متوترة، موجعة بشدة، ترى كيف يفعلها هؤلاء العفاريت على الرغم من تلك الكرات النارية التي تعشش بعناد وصلف داخل رؤوسهم وأحشائهم، والمستعدة للانقضاض على هؤلاء الملائكة في جزء من الثانية، وفي أي لحظة فيذوي بسرعة، ويموت بسرعة أيضا؟. سارعت مع صديقي الى احدى الغرف لترتيب أمر ما بخصوص العلاج، استقبلتنا الطبيبة الشابة الجميلة بحميمة وود، أخبرتنا بالترتيبات العلاجية في المراحل القادمة، أخيرا انزاح العبوس الذي تملك صديقي منذ أن التقاني، مددت يدي لفتاتي الصغيرة اقبلها ثانية وأسعد بابتسامتها، وكانت تحاول التملص من كلانا لكي تنطلق حرة من دون قيود، نصحته أن يحررها من قبضته، غادرنا المكان الى الفضاء الخارجي الواسع خلف الباب الرئيسي، كانت تجري وتمرح أمامنا، ترمقنا أحيانا بنظرة للخلف ثم تعدو للأمام. وبينما كنت منشغلا مع صديقي في احاديث السياسة والناس، ونحن في طريقنا للسيارة اكتشفت ان صورة ذلك الشاب الأرعن المتباهي لم تعد موجودة في وعيي ولا في ذاكرتي، كأنها تلاشت أو تضاءل حجمها مثل صاحبها الذي سوف يعيش وحده ويموت وحده ولن يستلفت اهتمام أحد أبدا.
احمد الباسوسي
13/4/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى