الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل إدواردو غاليانو دون التعرف إلى شهرزاد ولا الدراسة في قصور بغداد

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2015 / 4 / 15
الادب والفن


"لكنها تدور"
"لكنها تدور"

رحيل إدواردو غاليانو دون التعرف إلى شهرزاد ولا الدراسة في قصور بغداد
د. خالد سالم
في صمت وتواضع جم، بعيدًا عن الجدل البيزنطي، والحديث بأقل الكلمات، عاش ثم رحل واحد من كتاب ومفكري أميركا اللاتينية الذين أمسكوا بحرفية بمبضع الجراح ليضع يده على أصول أمراض القارة الأميركية منذ تدنيسها بخيل وبارود الغرب الذي سلبها ثرواتها الطبيعية وقتّل ثرواتها البشرية بأسلحته وأمراضه الجديدة عليهم، محولاً إياها إلى أقليات فلكلورية منزوية في بقاع محدودة، يتسلى بالفرجة عليها بملابسها المزركشة وامتطاء قادتها لصهوات جيادهم بينما الريش الملون على رؤس الفرسان يزيد المتفرج الغربي بهجة واستمتاعًا بإجازته.
هكذا آثر الرحيل إدواردو غاليانو (194-2015) الكاتب والمفكر الأوروغوائي ليمتطي جواد رحلة العدم في اليوم نفسه مع كاتب غربي آخر، الألماني غونتر غراس، حائز جائزة نوبل للآداب الذي لم يتردد عن القاء حجر الحق في وجه الغرب ونفاقه إزاء القضية العربية المئوية، قضية شعب ذاق الأمرين منذ أن دشن هيرتزل دعوته لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين في مؤتمر بازل في نهاية القرن التاسع عشر. وهناك من جمع بين الكاتبين، الأوروغوائي والألماني، في صفات مشتركة، لعل أبرزها النظرة الخصبة أو الفصيحة واليد المخلصة والضمير الحي الذي كان ملهم إبداعاتهما.
رحل هذا المفكر والأديب الأوروغوائي بينما كان المصريون يشمون النسيم في عيدهم الفرعوني وعرب المشرق يتونسون ويلهون عن متابعة نتائج وتبعات الحرب الأهلية في سورية وعاصفة الحزم على اليمن السعيد الذي لم يعد سعيدًا منذ قرون وقد يمتد به الحزن جراء واقع غير محسوب لعقود أخرى يلعق خلالها جراحه ويواصل أنينه بينما يتناول أهله القات، وصولاً إلى آفة التخزين، والتباهي بالجنبية خير دليل على استمراء البقاء في العصور الوسطى.
أذكر هذا وفي ذاكرتي مقولة لإدواردو غاليانو في العاصمة الإسبانية مفادها أنه لم ينعم بالتعرف إلى شهرزاد ولم يتعلم فن القص في قصور بغداد، بل في جامعات مقاهي مونيفيدو في أحيائها القديمة التي كان يتردد عليها حتى وفاته حيث تعلم من حكائيها ما يعرفه من فن القص. وهو بهذه الكلمات المقتضبة المستبطنة للثقافة العربية يشير إلى ألف ليلة وليلة وحكاياتها التي كانت إحدى الروافد التي نهل منها كُتاب الواقعية السحرية و"البووم"، الطفرة،، في أميركا اللاتينية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
لم يقتصر اقتراب كتاب عظام آخرين مثل الكوبي خوسيه مارتي ومواطنته دولثي ماريا لويناث أو المكسيكي كتابيو باث أو الأرجنتيني خوسيه لويس بورخيس من الثقافة العربية بل كانت هناك محاولات من تلك القارة، اقتربت من بعضها، لمد جسور بين هذين العالمين، ولاقامة تحالف عربي أميركي لاتيني، لعل أبرزها مشروع "أسبا" الذي يكاد يلفظ أنفاسه نظرًا لأن الحكام العرب، بتعليمات من واشنطن، لم يولوا المشروع اهتمامًا كبيرًا. هذا بينما إسرائيل وإيران "تبرطعان" في تلك القارة القريبة البعيدة عننا. لا يزال اقترابنا من أميركا اللاتينية واقترابنا من شعوبها ومثقفيها رومانسيًا دون ولوج جديّ في تلك القارة التي ينتشر فيها المهاجرون العرب من أبناء الجيل الثاني والثالث.
هذا المفكر والأديب الأوروغوائي كان نشطًا يساريًا، رغم أصوله الأرستقراطية والكاثوليكية، لهذا لم يكن دربه سهلاً إذ جلب له مشكلات اجتماعية وعائلية، إضافة إلى أبرزها وهي السياسية فتعرض للملاحقة والسجن والنفي. لكنه تمسك بدربه وقارع السلطة المستبدة، الممثلة في الانقلاب العسكري، ومعها كشف عورات المستعمر القديم والحديث بالولوج في أحشاء القارة والكشف عن نهب ثرواتها على يد المستعمر الإسباني.
كان يذكرني بإدواردو غاليانو البارع نادر فرجاني كلما خرج علينا بتقريره السنوي عن التمية البشرية العربية، بتكليف من الأمم المتحدة، فيجدد وضع أيدينا على الأمراض المستعصية في عهد طويل العمر حسني مبارك ومعه رفاق دربه من معتليي سدة الحكم في العواصم العربية. كطبيب كان وقتئذ يمسك بمبضعه في محاولة لاستئصال أورامنا الخبيثة إلا أنها تستعصي في كل محاولة بسبب أشاوسنا ومجتمعاتنا التي تتبارى في التسبيح والتكبير باسم الحاكم، وتسير خلفه في وفاء منقطع النظير في دول العالم.
أذكر أنني تعرفت على كتاب الأوروغوائي "أوردة أميركا اللاتينية المفتوحة" في بداية دراستي في إسبانيا حيث درست حلقة في فقه اللغة وثقافتها في جامعة مينينديث بلايو الدولية، في مدينة سنتاندير شمالي إسبانيا، وهناك كانت أولى صدماتي حول أميركا اللاتينية إذا خصص أستاذ إسباني يساري جزءًا من محاضرته عن هذا الكتاب الذي كان قد صدر في مطلع السبعينات وما تسبب فيه الغرب من كوارث للقارة الأميركية، هذا بينما وضعت عليّ علامات استفهام من مجموعة أخرى من الأساتذة لأن إحداهن سألتني عمن يجب أن تؤول إليه مدينتا سبتة ومليلة، شمالي المغرب: لإسبانيا أم للمغرب؟ فكانت اجابتي طبيعية ومباشرة مما أشعل الحلقة الدراسية، ,أصبحتُ موضع همز ولمز من غالبية الأساتذة، إذ كيف يجرؤ طالب مصري على التفوه بمغربية هاتين المدينتين اللتين تعودان إلى إسبانيا منذ أكثر من خمسمائة عام!
في تلك الأجواء استفدت أيما استفادة وعرفت ما لم أكن أعرفه عن إدواردو غاليانو وآخرين من أميركا اللاتينية القارة التي كنت لا أعرف عنها سوى القشور حتى تلك اللحظة، فكان كتابه سالف الذكر مدخلي للقراءة عنها والاطلاع على ما حدث لها على يد الاستمار الأوروبي وبعده الانقلابات العسكرية المخطط له في واشنطن والممولة منها والمنفذة بمشورة أعضاء وكالة المخابرات المركزية على أرض الواقع. لكنها بفضل مثقفيها وطبقة جديدة من الحكام آخذت في التخلص من براثن الاستعمار والسير على طريق الحرية والديمقراطية بدءًا بازاحة العسكر عن سدة الحكم في الأرجنتين في منتصف الثمانينات ومحاكمة بينوتشيت في تشيلي القائد العسكري المنقلب على الرئيس المنتخب سلفادور أللندي، وصولاً إلى هوغو تشابيث في فنزويلا ولولا دا سيلفا في البرازيل.
لم تبخل أميركا اللاتنية على شعوبها بمثقفين من أمثال إدوردو غاليانو حملوا الأدب والثقافة اللاتينية إلى العالم من أوسع أبوابه، وولوجوا بها دون تردد أو استلاب أمام استعلاء أحفاد الغزاة السابقين، فصنعوا لأنفسهم ولبلدانهم مكانًا يليق بها في السياق العالمي، ورسموا دروب الحرية والديمقراطية أمام شعوب القارة لتتراجع الانقلابات العسكرية والأنظمة المستبدة أمام شعوب قادها مثقفوها بعد تنكيل تعرضوا له في الستينات والسبعينات ومنافٍ متفرقة على وجه البسيطة، وكان غاليانو ممن سُجنوا وكابدوا وجع المنفى بعد الانقلاب الذي طال بلاده في عام 1973.
برحيل إدواردو غاليانو فإن كتاباته تمثل روحًا جماعية وإدانة للكثير لما فعله المحتل بالتراث الحضاري للسكان الأصليين في أي بقعة من العالم، إدانة تنسحب على ما تفعله العولمة بمحاولة محو الذاكرة الجماعية لشعوب منحت الإنسانية الكثير بارثها البشري الجماعي، وكان تدمير آثار العراق ومتاحفه منذ احتلاله على يد الأمريكيين ليمتد إلى ما قامت به الدولة الإسلامية السنة الجارية. ستكسب كتاباته بعد رحيله قيمة مضافة رغم أنه لم يحصل على واحدة من أهم جائزتين، نوبل العالمية، وثيربانتيس المحلية، المقصورة على كتاب الإسبانية. فربما كان كتابه الأشهر "أوردة أميركا اللاتينية المفتوحة" سببًا أكبر في حجبهما عنه رغم استحقاقه لإحداهما على الأقل، بينما نجد آن آخرين ممن داروا في فلك الغرب ورقصوا في قصوره، مثل ماريو بارغاس يوسا، نالهما، وحظي بعضوية المجمع الملكي للغة الإسبانية، في مدريد، وبركم من اليمين الإسباني مُنح الجنسية الإسبانية وعُرض عليه رئاسة معهد ثيربانتيس. هذا بينما إدواردو غاليانو لم يُكرم رسميًا وظل الاحتفاء به مقصورًا على المثقفين والقراء بعيدًا عن الدوائر الرسمية.
سهام اليمين الإسباني لم ترحمه رغم رحيله، إذ هاجمه في اليوم نفسه الصحفي والكاتب فدريكو خيمينيث لوسانتوس، المحسوب على الحزب الشعبي، اليميني، وبنى هجومه عليه لاختلافهما فكريًا وسياسيًا، وكان ذلك بكلمات تنضح كراهية سياسية، وسبق له أن اتبع الخطى نفسها عند وفاة غارثيا ماركيث، فكلاهما كان يساريين، إلا أن ابداعهما العالمي لم يغفر لهما ويعفيهما من نظرة اليمين الأحادية وكره المختلف. وكان محسوبون آخرون على اليمين الإسبان ومتعاونين معه مثل ألبارو بارغاس يوسا – ابن ماريو بارغاس يوسا- وآخرون، قد نكلوا بإدواردو غاليانو عندما أصدروا كتابًا بعنوان "الأميركي اللاتيني الأبله" ووصفوا غاليانو بأنه بشكل جزءًا من تلك الصفوة السياسية والفكرية اليسارية، وحاولوا في ذلك الكتاب تدحيض أفكار غاليانو التي ضمنها في كتابه "الأوردة المفتوحة لأميركا اللاتنية". صدر الكتاب في 1996 وكتب مقدمته ماريو بارغاس يوسا، بعد أن انسلخ من جلده اليساري والتحرري، ومن يومها أخذ النعم ترتمي في أحضانه، وهو ما ذكرته آنفًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع