الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية – أقفاص الرمل (3)

حمودي زيارة

2015 / 4 / 20
الادب والفن


في طريق العودة الى المدينة, احتضن الشارع السيارة بحنو ولهفة, لانها كانت السيارة الوحيدة التي تمتطي سواد اسفلته, السيارة كانت دميمة وقديمة تنفث من الدخان اكثر مما تقطعه من مسافة. كانت الشوارع مقفرة تماما, تتضوع برائحة الموت. واصلت السيارة دبيبها دون توقف حتى عبرت نهر القناة, النهر التي تغزو مساربه اعناق الاعشاب, المنفذ لدخول الثورة, المدينة التي شعرت باْلم الجرح منذ ولادتها من سياط الاقطاع. الهدوء المميت كان يطبق على المدينة, بالكاد لا تستطيع ان تسمع نأمة وكأن الكل تهافتوا الى داخل سفينة نوح ينتظرون لحظة الكارثة.
لم يتكلم عباس البتة, اختار ان يصيخ السمع الى انين الوجع المحتقن في هذه الوهاد التي يسكنها عبيد التاريخ كما قال له فلاح. فلاح من جانبه قد دخل بجدال مضني مع علي صديقهما الذي اتعبه التشرد والهروب من الجندية, كان جالس بجنبه, صوته يخنق فراغ السيارة. كان النقاش يدور حول دور الحكومة في مظاهر الحياة وهل الحكومة ضرورة بحيث تدفع الآف الضحايا الى الموت دون محاسبة, وهل الحكومة ذئب نهم من الافضل حجمه في اروقة القصر, استمر النقاش لفترة طويلة لحين مغادرة علي والذهاب الى البيت. اقتفى عباس اْثر خطوات فلاح حين النزول من السيارة, وعلى ترنحات خطواته همس عباس الى فلاح:
- بفكرة الهروب والضياع في مدن بعيدة والخلاص من معابث الحكومة, ونبذ رائحة الوطن, وخلعها من الذاكرة, لآن الحياة اصبحت بمنتهى السخرية والسطوة, فليس ثمة صبر من الممكن اْن يطيق هذا الجنون الذي يهيمن على الحياة.
دخل فلاح الى البيت, بعد ان ودع عباس... في الطريق الى البيت اعار عباس ذهنه الى التفكير بالخروج, والابتعاد عن الوطن دون رجعة, طالما استمر المجون يتاْمر ويدك بيوت نطف الجوع. وبينما كان عباس يرهف السمع الى دبيب ذهنه, انبرى له رجل امن الذي كان متواري في احد الزوايا المظلمة, يحتضن بيده بندقية, اعترض سبيل عباس وساْله عن هويته, اخرج عباس هويته باْرتباك, وعلى الفور ارجع رجل الامن الهوية الى عباس بعد اْن تفحصها بعناية, واشار على عباس اْن يذهب الى البيت في الحال.
غار عباس يعد الخطوات نحو البيت يخامره شعور بالغضب والقهر. وحالما دخل البيت, فمالبث اْن ذهب الى غرفته, طارحا جسده على الفراش, اخذ يتقلب بألم, لا يعبأ بنداءات امه او ابيه من اجل أن يتناول العشاء معهم. بقى عباس رهن الفراش تاركا فكره في لجة الشرود وكيف الهروب من هذه الاقبية التي أورثها الخوف, فقد حان الوقت اْن يعلن رفضه باْن لا يكون رهينة للسلطة, فالوطن كاْلهة الاجداد التي تنكأ حيز الاخبية من هريس التمر, لا تدرأ خطر الحكومة, دام السجال مع فكره حتى ظلمة أْول هزيع الليل, عندها خرج الى باحة البيت يتأمل السماء, ريثما تناهت الى سمعه صدى اصوات خطوات هاربة, ووجيب لكلمات متضرعة وباكية وذلك حينما اْستأنفت المناوبة الاخرى من القصف... السماء حينها كانت تغص بالغيوم الهائلة والقاتمة التي اجترحت تتدافع بأمعان الى جهة الشرق.
ودونما اقل اكتراث او شفقة لآكوام بيوت الفقراء واصلت الغيوم في تلك الليلة تمطر باْغداق مفرط وتسفح اعبائها الملوثة بدخان وافرازات الحرب بكيفية سادرة, هذا مما اضفى طبقة سوداء لامعة على جدران البيوت وكذلك مسحة حزينة على تعابير الحياة. أتكأ عباس على الحائط تحت ثقوب البيت, وراح يجالس بلاطات الفناء والخطرات التي انكفأت تهرش دماغه. حاول اْن يخاتل فكره, فشرع ينظر الى شْأبيب المطر التي ماتلبث اْن تتكسر على حافة عتبة الغرفة, ومربعات البلاط, وفي فترات متباينة يقض انهمار المطر المنسكب كالطوفان, عزيف الرعد وومضات البرق, التي تحز كذلك اطراف الغيم... وتختلط احيانا باْصوات بائسة تاْتي من كل اتجاه.
حشر عباس قوامه الضامر في فضاء الغرفة الباردة, بعد أن اشتد البرد في الخارج, يجرجر الخطى, يتأمل البؤس العالق في سقف الغرفة, والحرمان المتشبث في تتابع ايامه. اشياء كثيرة نشأت تجوب في ذهنه, المطر, البيت, اصوات غير متجانسة, رغبات مستحيلة, الشعور بعدم اللاجدوى... وبشئ من البلادة مال الى الصمت والوجوم, اْسند ظهره على حافة الباب, استمال ذهنه يحرضه على المحادثة, فطفق يتمتم بترنيمة شجية تغلب على ضجيج ثورة المطر السادرة:
- اْيما لغز تمتلك هذه الامطار, فيض يترع قرارة الحضيض, تتمتع بنشوة عارمة, وهي تعوم في نهير تاْبى اْن تغادره, ولكن على غفوة ناعمة على لهيب الشمس تحلق متسلقة انفاس البخار كيما تولد غيمة من جديد, وعند انقشاع الغيمة تعود الى نهرها, تهبط مسرعة نحو نشوتها الاولى, او ربما تحوز على اماكن جميلة اخرى.
وبصرخة مكتومة حانقة, اضاف عباس:
- ليتني اتحول الى قطرة مطر او شئ دون شعور. فهذه الحياة قاع جحيم لا تستطيع اْن تثمر فيها الا اْن تكون دكتاتور دون ضمير.
وما اْن شعر عباس باْن التعب دب في عظامه, جلس باْرتخاء ماسكا كلتا يديه منخرطا في هلوسة عابثة, حينما انتابه مزاج مقرف من هذا السخف الشره. دنا من المدفئة لشدة البرد القارس, عالج جسده حول المدفئة ليضمن وصول الدفئ الى جسمه. وفي غضون ذلك شنف سمعه كلمات ساخرة بنبرة صوت قبيحة تنبعث من المذياع, تعلن عن اندحار جنود العدو في مدن الجنوب. عباس يدرك تماما نوع تقيأت الحرب, جثث متفحمه, لافتات سوداء توصم عاليات الجدران, شعور بالقرف يدجن الاماكن, نزيف من الخوف يعاقر الشوارع, ونتانة بغيضة تتواصل بسخرية, تصدر من معاطن ماخور الحكومة, نطالب الجميع اْن يغسلوا تراب الوطن بالدماء, ويغرسوا الاقدام بثبات ليدفعوا بصدورهم العارية زحف العدو.
تأفف عباس بلوعة, احس بأن خاطر من الوجع قبض على قلبه, وقال بعد اْن انهال بقبضته على فقاعة جص ناتئة من الجدار:
- لماذا يسكبون دماؤنا لوديان الموت من اجل امجادهم الزائفة؟
وضمن هذه الصفاقة التي انتشرت في كل مكان, حيث الشوارع اكتظت بالخوف, والكلمات ضاعت على شفاه, والبيوت ضاقت باْلاسرار, تستمر مدينة الثورة تلطع جراح الجدران بوجل وحذر, حملت من الحزن اْكثر بكثير مما حملت من مباهج الفرح, حيث كانت عرضة سائغة لبطش الحكومة منذ خروجها واقصائها من ضفاف نهر دجلة, لذا اعلنت الحداد على نفسها في مستنقعات سافانا حزنها من دون اْن يدمل جراحها اْحد, ولكن رغم الخراب والحروب التي اهلكت العديد من ابنائها مازالت واقفة باْعتداد تروي لتباشير الصباح حكايات الوجع والدموع. بعض الاحيان كانت تطفح على دروب المدينة نزوات للفرح ولكنها خالية تماما من مراسيمه وكاْنها مدينة وجدت فقط للرعب واْن تكون ذخيرة بشرية لحروب الحكومة النزقة... ومابين اشباح التوجس التي تزخر بها المدينة لم تحلم المدينة ان يتحول تانكي الماء الى برج ايفل او نهر القناة الى نهر الدانوب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - هل الفنان محمد علاء هيكون دنجوان الدراما المصري


.. كلمة أخيرة - غادة عبد الرازق تكشف سر اختيار الفنان محمد علاء




.. كلمة أخيرة - الفنانة سيمون تكشف عن نصيحة والدها.. وسر عودتها


.. كلمة أخيرة - محدش باركلي لما مضيت مسلسل صيد العقارب.. الفنان




.. كلمة أخيرة - الشر اللي في شخصية سامح في صيد العقارب ليه أسبا