الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأبنودى معجزة لا تموت

خليل كلفت

2015 / 4 / 28
الادب والفن


الأبنودى معجزة لا تموت
بقلم: خليل كلفت
كان رحيل الأبنودى أكثر من متوقع، ومع هذا أحدث برحيله غير المفاجئ صدمة هائلة أصابتنا باضطرابات ما بعد الصدمات. وإذا كان قد مات وصار جزءًا من أمنا الطبيعة فقد بقى لنا منه ما لا يمكن أن يموت: إبداعه البوليفونى الشامل المتعدد الرؤى والطبقات والألحان والألوان، الذى كان ثمرة ناضجة لأُخُوَّته الحميمة مع الملايين من بنات وأبناء شعبه، يُلهمونه ويُلهمهم، يُغذونه بتجربتهم، فيُغذيهم بإبداعه، الذى كان مكوِّنا من مكوِّنات عقل وخيال الشعب المصرى والعربى؛ بعد أن صار قوت يومه، وغذاء روحه ووجدانه، طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمان.
وبين الموت المحتوم والإبداع الذى لا يموت، كان هناك حب متبادل مع الناس، باستثناء أعداء النجاح، وسيُحْرَم من حكمته وأفكاره وتعاطفه ودعاباته المتواصلة ليس فقط أسرته وأهله وأصدقاؤه بل كذلك كل البسطاء الذين جمعته بهم صلة حميمة، وكانت معاناتهم ينابيع لإلهامه.
وقد ارتبط بعلاقة شخصية طوال عشرات السنين بالناس الذين وجدوا أنفسهم فى شعره وأغانيه وفى شخصه، وكان الأبنودى صوتهم الذى فجَّر لديهم صوتهم الخاص، الصاعد من أعماقهم، معبِّرا عن معاناتهم وأمانيهم.
وتفجَّر كل هذا الحب الجارف الذى حمله الشعب لشاعر أنضج وعيه وفكره وضميره ووجدانه، وشدّ أزره فى مختلف منعطفات انتصاراته وانكساراته، من السد العالى وجوابات حراجى القط، إلى هزيمة 67 وحرب الاستنزاف ووجوه على الشط، على خط النار فى السويس، وإلى حرب 73، التى أحزنته نتائجُها السياسية، وأخيرا إلى ثورة يناير 2011 الشعبية. وأثناء كل هذا ظل يرفع الوعى الوطنى الطبقى المعادى للاستعمار والرجعية العربية والدولة الإسلامية، واقفا إلى جانب الفقراء وثوراتهم فى كل مكان، من ڤ-;-ييتنام إلى فلسطين إلى كوبا، فى مواجهة الوعى الزائف الذى تنشره دعاية النظام فى كل عهوده.
وارتبط الأبنودى بالتراث الشعبى المدوَّن فى الكتب، والحىِّ فى ذاكرة الناس، فاغترف منه فى الشعر والأغنية. وكان من إنجازاته الكبيرة تحقيقه للسيرة الهلالية، وكان كل إنجاز له يكفى لأن يجعل منه أديبا كبيرا، عظيم العطاء، وعميق التأثير.
ومن مآثره الكبرى، مع كوكبة من الشعراء المجيدين، أنه طوّر بلغة إسقاط الإعراب، المسمَّاة بعدوانية أصولية بالعامية، شعرا رفيعا عبَّر بخصوبة وثراء وبلاغة عن هموم وأمانى الشعب من قلب تراثه وحياته. ورفع هو وزملاؤه مكانة هذه اللغة إلى أعلى عِلِّيِّين، وكان دوره فى هذا المجال فريدا وحاسما ليس فقط لاستيعابه لتراث الشعب، أو لبلاغته التى تتبدَّى فى كل بيت وكل عبارة وكل كلمة، بل أيضا لأن الشعب كله ارتبط بشعره الغنائى وبأغانيه وبشخصيته الكارزمية، فبدون هذا تموت اللغات.
وقد نستدعى دور شعراء كبار، مثل جاهين وبيرم وحداد، فى رفع مكانة لغة إسقاط الإعراب المسماة بالعامية المصرية، ومكانة أدبها فى الشعر بالذات، غير أن للأبنودى الذى جاء إلى القاهرة من أقصى الصعيد يسعى، مأثرة كبرى هى أنه لم ينغلق على التعبير عن حياتها وهمومها باللغة القاهرية القاهرة، كما فعل أغلب الشعراء المهاجرين إليها، فهناك إنجازه المُعْجِز المتمثِّل فى تطويع لهجته الصعيدية المحلية فى قريته أبنود ومحيطها لكتابة الشعر بعبقرية، وبهذا رفع المكانة الأدبية للهجته المحلية، متجاوزًا كل ما عرفنا قبله وبعده فى أدب هذه اللغة، بفضل انكبابه المألوف بجدية مطلقة على كل مشروع من مشاريعه الأدبية.
وقد كتب باللغة المسماة بالعامية المصرية شعراء كبار من جيل سابق عليه، وهناك قيمة شعرية كبرى فى أغانى بيرم التونسى وفى بعض قصائده، وفى معجزة رباعيات صلاح جاهين وفى بعض قصائده، وفى أغانى سيد درويش، غير أن مأثرة من مآثر الأبنودى تتمثل فى تطويره الحاسم للشعر الغنائى الحديث مع كوكبة من شعراء اللغة المسمَّاة بالفصحى مثل صلاح عبد الصبور، وحجازى، وأمل دنقل، وآخرين، ومع كوكبة من كتّاب لغة إسقاط الإعراب، من جيله، ومن جيل لاحق.
ومع صلاح جاهين، نقل الأبنودى الأغنية المصرية من مرحلة الأغانى الغارقة فى العاطفية المبتذلة المفتعلة. على أن أمّ كلثوم التى تألقت مع جاهين وبيرم والخيام وأحيانا رامى، أضفت من لَدُنها قيمة فريدة على أغلب أغانيها التى لا قيمة لكلماتها. وجاء الأبنودى فأحيا تراث رؤى أغانى سيد درويش بمرحلة جديدة تتغنَّى بالحرية والحب والتعاطف والتضامن والوطنية والطبقية والشعبية والقِيَم الرفيعة ارتفعت بذوق المتلقى ووعيه بدوره فى الحياة. وتألَّق الأبنودى أيضا بأغانيه الجميلة بتلك اللهجة الصعيدية المحلية التى جعلها هو مُتاحة لاستخدام الشعر الغنائى والأغنية.
وأشير هنا بسرعة إلى كرمه ومواقفه الإنسانية، حيث ظل يجده، كل من احتاج إليه، واقفا إلى جانبه. وكانت حالتى واحدة من حالات لا حصر لها، وبدون وقوفه الحاسم إلى جانبى ماديًّا ومعنويًّا، وبدون موقف الصديقين الأكاديميين الإيطاليين لورنسو كاسينى وچيناريو جيرڤ-;-ازيو، ومئات من الأصدقاء فى مصر والخارج ما كان ليتيسَّر علاجى من سرطان الكبد، بالزراعة الكلية للكبد فى إيطاليا، فى 2007، وكان يشكرنا بدلا من أن نشكره.
26 أبريل 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب