الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية- اقفاص الرمل (8)

حمودي زيارة

2015 / 4 / 30
الادب والفن


شرع الليل يستفرغ احتقانه بتضائل, وبدأ يخاتل أشعة الشمس لذلك نشأت تتقافز بصفاقة دمثة مطاردة ماتبقى من نورها الأيل الى الأفول على شحوب الأعشاب والاوحال التي تخبأ بصمات العابرين, والارياف الجدبة, وقيعان الخراب التي تتبوء الاحداق الى مدارات الافق, من أجل أن تلتقط النور لأن وقت الغروب قد أزف, فلابد للشمس اْن تملئ جرار الاحراش نتف من رحيق نورها لئلا تضمحل حتى الشروق القادم. كانت اللحظات بالنسبة الى عباس أشبه ماتكون بمغامرة يائسة في زمن تمالكه البارود... تنقل عباس بتوجس بين الادغال والجداول التي تحمل متونها اكواخ من القصب والبردي ووجوه بقسمات ريفية, واطفال حفاة كالمرح. واظب الطريق يرتشف خطوات عباس المترنحة, بينما عكفت همسات الهروب تشده بتفاصيل عديدة حانية, مسحة حزن للدروب الوادعة, افترار ابتسامة عابرة, رغبات محتقنة مع الاصدقاء على الارصفة, كلمات رثاء لدموع الأم مع تلويحات الصمت الاخيرة, مراثي الطرق والدروب في رحيل الخطوات, العتبات المعرشة في تشابك الذاكرة, وطقوس جذلى لفرح قادم بعبور الحدود. ثابر عباس بعنفوانه وتبختر خطواته يتقدم بهدوء وعربدة , وبأنفاس مبهورة, تتحسس نبضات الاعشاب, ودخان الاخصاص المشبع برائحة براز الحيوانات, وتألمات الحقول الجدبة, يتهادى خلل الانهر الأسنة, وابقار تجزي الرغاء بأجترار عذب, ورميم جثث متفسخة, اسلحة محطمة, قذائف وذخائر متفجرة تستبيح جسد الارض, طائرات محتلة تحلق دون خوف, اجهش عباس بلوعة بعدما انتابه عويل مكتوم, وحزن ممض عما يحدث لمدن عشق السماء في مواخير الليل الماجنة, ومن فظاظة القدر المرعب الساهم في غبارات الوطن وعلى اْثر دموعه الذارفة تهامس عباس مع وجع القلب:
- ساْبكي حزنا ولوعة حينما اْنعي الوطن في الدروب البعيدة, وساْطرق الابواب من دون صدى لهمس الحنين, وساْتكاْ على جعبة الذكريات بخلسة بمنأى عن تطفل سماجة المدن التي تهجع على رفيف ساريات القوارب, اْو سأجالس أمرأة تحمل نفس الذكريات والحنين.
بكى عباس بمرارة وصرخ في فضاء العفونة كأنما يستصرخ رياح الوطن أن تكشف لمركب وجعه ضوء الفنار, لاْن مركبه مازال يتاْلم غرقا تعبث به الامواج, بعدما ضيعه النورس. واصل عباس جر تخبط خطواته على وعثاء الطريق ترافقه ذكريات الوجع والخوف.
عربد عباس بمواربة حالما رمق سيارة تبدو سوداء من بعيد, في قمتها اشْرأب شيئا كماسورة المدفع سلطت باْتجاهه, تناهبه الخوف والفرح معا, في اثناء اللغط والاضطراب بادره همس تشوبه تباريح للخوف ونزوات ناعمة رانت على سويداء القلب.
- يجب اْن اصالب يدي, وعلي اْن اْتهياْ فاْنهم قادمون (واضاف بغضب تخامره نبرة اعتذار) دعني من هذا القدر الجاثم على تراب الوطن, وماهي الخطيئة بايداع خطواتي الرحيل؟, فقد مللت الشعارات, ودور الضحية ينبغي اْن ادرك العمر قبل اْن اتحول الى لافتة سوداء للنعي تسمر في مدخل زقاقنا.
تمهل عباس لوقت قصير حتى تقترب السيارة فلا تكاد اْن تميز عن بعد, فلما دنت رويدا واصبحت بمرمى البصر, سخر عباس من نفسه الخاوية لما ملئت من شطط , فقد ترأت السيارة عن كثب فظهرت بأنها سيارة حمل صغيرة, والسائق يعتمر عقال وزي شعبي, بادره عباس بالسؤال عن الطريق بعد اْن ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة.
قال السائق بنبرة ريفية سائغة:
- وراء النخيل .
جاس عباس خلال وحدة عسكرية, الفراغ يغرز انياب صمته في فضاء المكان, ظهر كل شيْ مبعثر ومحترق, الدخان مازال يلفظ انفاسه الى زوابع الريح الخفيفة, القصف الكمكازي عاث برتابة الثكنات, خوذ منكفئة, بساطيل تخبر عن هروب جماعي, دفاتر للاجازات والواجبات, مركبات عسكرية معطوبة, وغيوم قريبة تضفي لمسات يائسة على المكان. مضى الطريق بعباس بين سدم الغبار, قناطر ترابية هزيلة, اصوات بعيدة تهدم شيئا ما, سكون محتقن ينذر بقدر اْخر, رائحة الموت والبارود تزكم الطريق, طائرات كدبابير تحلق بنحو قريب لوح لهم باذلال شديد, لكن لم تند اشارة تدل على الاكتراث. قالوا لعباس ستجدهم هناك, قرب محطة الوقود, اختلاج جامح بالفرح والحزن, تسأل عباس:
- أهكذا سيكون الفراق وشيكا بهذه السرعة, كلحظة عابرة من دون ذكرى, وستلثم الخطوات التراب كوداع اْخير.
تأوهات تندب هذا السخف لحظتما طالعت عباس محطة الوقود بشحوب مكفهر من الحزن, وسراب الصمت, وشتات من الثوار لاذوا بظلال المحطة, ونثار غبار اقدام المجاميع تتوالد بشعور مقرف تزحف كبنادق الفقراء في ليل الثورة نحو منافذ الرمل التي ربما تساومهم بومضة شفيفة لما تبقى من أيام لهذا العمر المقتضب. اخبر احدهم عباس أنهم هناك بمحاذاة الطريق السريع. استمر الطريق يغري الخطوات بعد اْن اْنضم عباس الى جنديين كانا من نفس الوحدة العسكرية, تهادى كقطيع ضال في طريق قفر لم يألفه عباس من قبل, في غمار هذا التيه, فضل عباس العزوف عن الكلام كونه لا يعرف شيئا عن الطريق. ألتقط احدهم بطانية عسكرية متروكة على الطريق, نكث الرمل العالق فيها, نفقوا الليل يتمرغون التراب في مكان اشبه بوادي على كتف الطريق, السيارات تمرق بسرعة خارقة في ليل الوادي البهيم, وعندما زايل الفجر خماره, تتابعوا بتضور قاتل, وخمول قريب للانهيار, بعيد فترة قصيرة لغط اْحدهم بوجع:
- اْنه ليس الطريق, اْظن باْننا اْضعنا الطريق المفضي الى الخط السريع.
نبس عباس في سريرته:
- ليس لدي خيار اْخر ينقذني من هذه المتاهة فلابد اْن اْنصاع من دون ضجر.
وفي خضم اليأس, لمح أحدهم سيارة عسكرية مركونة, هرع نحوها راح يتفحصها حاول اْن يضخ البنزين في نسغ الاْنابيب, ولكن بدت جاثمة كجثة هامدة.
أطرق عباس رأسه الشعث حاشرا جسده النحيف الذي أخذ يبعث برائحة عفنة, بدفء البطانية, وحذائه الممزق شرع ينوء ببلادة خطواته المحبطة, وفجاءة تعالى صراخ يعتريه الفرح من اْحدهم:
- اْنه الطريق, نعم الطريق.
تقاذفوا كما السكون في سواد الليل, تشاركهم ضحكات ساذجة, ركضوا يتعكزون على ما تبقى من رمق في اْجسادهم المحتضرة, تنافسوا في الهروب نحو هذا الامل المسكون فيهم, تشاجرت خطواتهم مع الطريق تنز كالمجنون, تقصف ملتاثة بالوصول, اْلقى عباس البطانية دون مبالاة ريثما اْخذ يشعر بالدفء يجتاح عظامه, ومااْن مسدت الاقدام اسفلت الخط السريع, تمخض الطريق عن سيارة عسكرية تابعة لقوات التحالف, ترجل جندي يانكي اسود ساْلهم بعض الاسئلة للتاْكد من هوياتهم ان كانوا افراد في الجندية او لا, الغرض من وراء ذلك, باْن قوات التحالف تاْخذ فقط الجنود. التقطوهم, بعد اْن تقراْوا سحناتهم باْمعان, في لحظة العبور سمع عباس اْنين الوطن هامسا في اسماعه:
- ساْعقد ذكرياتك على سعف النخيل لحين الرجوع, وساْبكيك ان دب الالم في عروق ترابي.
أنهمرت دمعة ساخنة, خبأ دمعته خلف يديه لئلا يبصرها الوطن. تألم بألتياع عندما ساوره شعور غريب أشبه بالعدم بأنه سينتشل خطواته من تراب الوطن والى الابد, وسيتنصل عن هوية ملامحه, واجتثاث جذوره, وبالرغم من هذا الشعور, أوقفته صبابة روحه عندما حاول اْن يلقي نظرة اخيرة, وعلى تنهدات حانقة اشاح عباس ببصره بعيدا عن افاق الوطن الغارق في أتون من الحرائق والدخان وفحيح لطائرات عديدة, وذعر مميت, لوهلة تخال المنظر بأنه تمرد لسجناء في احد سجون امريكا الجنوبية. او ليلة فاجرة في اقبية صدام عندما يتفاجئ السجناء باقتحام احد وحوش السلطة, ويبدأ يقتل كل من طاله رقم ثلاثة. الطريق يفر بأسفلته من نثارات الرمل التي تداعبه بتبرم دائم, المركبة العسكرية تتماهى في تغضنات اخاديد الرمل كوثبات نمر افريقي وهو يكتسب امتار قفزاته كيما يتدارك لهاث طريدته. وعك الحزن طلاوة قسماته, فأنكب يغالب فكره, ويتأسى على ذكرياته التي سوف تلهب اعماقه في مدن الغربة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81