الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة الجسد؛ السلطة، الثقافة، والعنف

سعد محمد رحيم

2015 / 5 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الإنسان هو جسده في المقام الأول، وجسده هو موئل هويته الذاتية ومرآتها. هو هويته البكر، الموضع الذي سيُنقش عليه، مع تعاقب الأزمان والظروف، ما يمثّل أناه/ ذاته.. فالجسد هو من يتحمل، في النهاية، عبء الصيرورة والطموح والأمل.
وإذا كانت النفوس كبارا/ تعبت في مرادها الأجسام
لكننا نعرف بالمقابل أن هوية المرء ليست جسده وحسب، وليس جسده العاكس الوحيد لهويته، وإنْ كانت في الغالب تنعكس من خلاله.. يقدّم الجسد هويته عبر مظهره، وسلوكه وكلامه في حالة من صيرورة مستمرة حيث يتكيف الجسد مع القيم الاجتماعية السائدة والضاغطة.. تغدو اللغة وسيطاً لهوية الجسد وهوية الذات. ذلك أن حضورنا في العالم يبرز عبر جسدنا ولغتنا، وهما معاً يمثلان الموقع الذي تنضج فيه شروط تشكّل الهوية الفردية/ الذاتية، والاجتماعية.
لا يعقل تحديد هوية الذات خارج إطار الجسد وأدائه لفعالياته العضوية/ الفيسيولوجية والبيولوجية والنفسية. فالهوية الذاتية تقتضي الوعي بالذات والشعور باستقلالها بإرادة وغائية متعينتين، وشكلَ وجود مقترح، وآليات فعل ممكن، وأفقاً واقعياً للتفاعل الاجتماعي. وتلك فعاليات ومظاهر أداء مصدرها العضوي دماغ الإنسان وجهازه العصبي كما يؤكد العلم الحديث.
انبثقت السلطة، في البدء، ونمت حول مادة الجسد، فصار موضوعتها الرئيسة. فالسلطة هي كيفية نسج شبكة العلاقة بين مؤسسة السلطة والأجساد/ الذوات.. كان ينبغي مع تواتر التجارب وضغط الحاجات وتحدي الضرورات ترويض الجسد البدائي الراغب والشبق والعدواني ليدخل مملكة الثقافة والحضارة؛ نحو التهذيب والكمال بحسب أرنولد وليامز، وقلب الوحشية إلى رقّة بحسب وليم ديورانت. فتلاحمت السلطة مع المعرفة إذ ولدتا معاً توأمين متوافقين أحياناً، ومتعارضين في أغلب الأحايين. وغدا الكبت؛ كبت الأجساد وأهوائها ورغباتها، من منظور فرويد الطريقة التي بها، ومعها تتحضر البشرية وتتثقف، وتقونن الحياة وتنتظم. غير أن الأمر لم يجرِ بخط مستقيم وصاعد. وانحرفت فكرة السلطة وميكانزماتها تبعاً لتضارب مصالح الجماعات والطبقات والفئات وتناقضاتها. وعلى مذبح السلطات، عبر التاريخ، دفعت مئات ملايين الأجساد الثمن غالياً.
فضلاً عن الجسد وتالياً له، تهتم السلطة باللغة أيضاً. واللغة هي من بين أولى الأشياء التي تطوِّعها في سياق عمليات السيطرة والتحكم. وإذا ما قلنا أن شبكة علاقات السلطة هي الخريطة السرّية للحياة الاجتماعية والسياسية في أي عصر ومكان فإن اللغة تسري بين تلافيف تلك الخريطة بعدِّها نسغاً للقوة التي تسيّر عملية ممارسة السلطة. وحين تُتخم السلطة بفائض فاشي أو بالنزعة الديكتاتورية الشمولية ستفكر باللغة لا من أجل أن تحييها وترفع من شأنها، وإنما لتصوغ منها خطابها الرث. واللغة في الخطاب الفاشي والشمولي مبتذلة ومنتهكة، فهي ككل شيء في العالم تغدو، من وجهة نظر الفاشية أو الديكتاتورية الشمولية ومشهدهما الكالح، موضوع اغتصاب. فهنا لا تفقد اللغة عافيتها وحسب وإنما كرامتها كذلك.
في كتابها ( الملك ينحني ليقتل ) تقول الروائية الألمانية الحائزة على جائزة نوبل للآداب 2009 هيرتا موللر: "حين تضطرب الحياة ويختل فيها كل شيء فإن الكلمات تنهار أيضاً. لأن كل الديكتاتوريين سواءً جاؤوا من اليسار أو اليمين، كفاراً أو مؤمنين، يجندون اللغة لخدمة مصالحهم". وهي تنطلق في حكمها هذا من وحي تجربتها تحت حكم نظام تشاوتشيسكو الشمولي في رومانيا حيث ولدت في عائلة تنتمي للأقلية الألمانية هناك، وعاشت فيها حتى سن الرابعة والثلاثين قبل أن تهاجر هاربة إلى بلدها الأم.. ومثالاً تعلِّق على اعتراض الرقيب الأدبي الروماني على كلمة ( حقيبة ) إلى جانب الكثير من الاعتراضات الأخرى، لأن هذه الكلمة قد تشير إلى هجرة الأقلية الألمانية من رومانيا بحسب التأويل المخابراتي.. تقول موللر: "اغتصاب ملكية اللغة بهذه الطريقة يضع عصبة على عيون الكلمات ويحاول أن يمحو العقل الباطنيّ للكلمات المكوِّنة للغة، ثم تتحول اللغة المفروضة عليك إلى عدوّ كما لو أنها دُنِّست. بعد كل هذا لا يمكننا أن نتكلم عن اللغة/ الوطن".
في مقابل اللغة المتغطرسة الجوفاء للسلطة الفاشية والشمولية يُنشئ المتلقون لغتهم المضادة؛ لغة ماكرة ساخرة، معجونة بالتوتر والحذر والخوف، ذات بلاغة حرّة، وصياغات وقحة، غير مألوفة، واستعارات غريبة صادمة ومواربة، لها جمالها الخاص. تصبح اللغة في هذه الحالة، إنْ أُحسن قيادها، منقذة؛ سفينة نجاة، حتى وإنْ بشكل مؤقت وموهوم.
تحكي هيرتا موللر عن حدث كانت بطلته وهي شابة تعمل في مصنع برومانيا يوم قدم شرطيان إلى هناك لاستجوابها مع آخرين وراحا يهددانها، ويومئان إلى موتها، وكيف كان عليها، في تلك اللحظة أن تلوذ باللغة لتعيد لنفسها توازنها، هي الضعيفة الخائفة إزاء جبروت الشرطيين اللذين يستندان إلى مؤسسات دولة شمولية قوية وقاسية، لا ترحم.. تصف موللر في البدء كيف نزع الرجلان قبعتيهما الفرو معاُ لتظهر داخلها بطانة حريرية بيضاء، ولماذا علقت هذه الصورة في ذاكرتها.. تقول: "كان رجلا البوليس يتصرفان مع الآخرين باحتقار وغرور ـ وإذا ما أخذنا البطانة الحريرية البيضاء بعين الاعتبار فإنهما كانا في عوز وموضع شفقة.لقد شعرت بأني مصونة أمام ذلك اللمعان الأبيض. لقد كان باستطاعتي الانسحاب من المكان والنجاة بجلدي. فقد خطرت ببالي أفكار صارخة الوقاحة، والشرطيان لم يشعرا بشيء من هذا الذي يحرسني. حتى أن قصائد صغيرة خطرت لي تلك اللحظات، وقرأتها لنفسي وخبأتها في الرأس وكأني أقرؤها من فوق حرير البطانة. ظهرت رقبتا رجليّ الشرطة السرّية عجوزين بوجنتين متآكلتين ـ لقد كان واضحاً وضوحاً لا يسمح به القانون. إنهما لن يستطيعا مقاومة موتهما حين تكلّما عن موتي. تماماً حيث بقيت قصائدي الصغيرة في الحرير الأبيض، كان رأسا الرجلين يوضعان في النعش".
يحتدم الخوف مُنهكاً الجسد فيعثر هذا الأخير في اللغة على ضالته.. هو نوع من وسيلة دفاعية غير مجدية تماماً، لكن لابد منها.. تمضي هيرتا موللر في نبش تاريخها الشخصي ساردة بعض قصص ماضيها، تلك التي تخص أصدقائها الذين أعتقلوا وغُيّبوا وتمّت تصفيتهم، وتلك التي تخصّها هي التي كانت على لائحة الانتظار: "قمت فيما بعد بالبحث عن كلمات لتوصيف الخوف، ذاك الذي كنا جميعاً نملك منه الكثير. كنت أريد أن أري الآخرين كيف تكون الصداقة، حين يكون احتمال بقائك على قيد الحياة غير طبيعي، أو أن يعتريك الشك ببقائك على قيد الحياة إلى مساء اليوم أو صباح الغد أو حتى الأسبوع القادم".
* * *
اقترن الاهتمام بالجسد موضوعة في الحقل السياسي والعلوم الإنسانية، مع بزوغ فكر التنوير الأوروبي، وصعود الرأسمالية الليبرالية، وبروز فكرة الذاتية والفردانية، "فمفاهيمنا الحالية حول الجسد" كما يقول دافيد لو بروتون صاحب كتاب ( أنثروبولوجيا الجسد والحداثة ): "ترتبط بصعود الفردية كبنية اجتماعية، وبانبثاق فكر عقلاني ووضعي وعلماني حول الطبيعة، وبتراجع تدريجي في التقاليد المحلية. كما ترتبط أيضاً بتاريخ الطب الذي يجسِّد في مجتمعاتنا معرفة رسمية، بشكل ما حول الجسد". هذا الاهتمام بالجسد الذي اجترح حقولاً علمية جديدة، أو فروعاً جديدة في الحقول العلمية المعروفة في المؤسسات الأكاديمية الغربية وعند مفكري العالم المتقدم، لم يجد له الصدى الكافي في فضائنا المعرفي والثقافي إلا في الآونة الأخيرة، وبشكل حذر ومحدود.
في المجتمعات التقليدية لا يُسمح للأفراد بالتميّز إلا في حدود ضيقة.. تكون الجماعة البشرية ( عشيرة، طائفة، طبقة اجتماعية، مكان السكن، الخ.. ) مصدر هوية الأفراد. والفرد يرث هويته جاهزة ناجزة، ومعها موقعه الاجتماعي ودوره ووظيفته. وفي الغالب يشبه أيُّ فرد أيَّ فرد آخر، فهو رقم في ضمن مجموع.. المجموع هو ما يهم وليس الفرد. وإذن من الطبيعي ألا تكون قيمة عليا للفرد ولا يُعامل جسده إلا كأداة ووسيلة في العمل الاجتماعي وفي حالات الصراع والحرب مع الآخرين.. كل فرد يغدو صورة للمجموع يعكس خصائصه وطبيعته التي اكتسبها منه في البدء. وهنا تشتغل واحدة من أنجع آليات التحكم والسيطرة حيث لا وجود لذات حرة بإمكانها الرفض والاحتجاج والتمرد، وإلا لعدّت مارقة وشاذة تستحق النبذ والطرد أو حتى التصفية. وفي المجتمعات البدائية، وما قبل الدولتية، تكون لهذا الواقع ضروراته ومسوِّغاته للحفاظ على حياة الجماعة وإن جرت التضحية بعدد من أفرادها. أما في العصر الحديثفسيختلف الأمر،حالما تنقسم المجتمعات أفقياً/ طبقياً، وتنمو المؤسسات البيروقراطية الحديثة، وتتغير الأدوار والوظائف.
غير أن التناقض يبرز حين تستعير الدولة، أو شبه الدولة في المجتمعات الريعية الأشكال المؤسساتية الغربية من دون روحها، اي تقاليدها وقوانينها، وحين تدعي الديمقراطية من غير أن تسمح لطاقة الفرد بالتفتح والنمو والتميز وممارسة الدور السياسي والاجتماعي الملائم عائدة من الباب الخلفي إلى إنعاش الدور القديم للجماعات ما قبل الدولتية. وفي عملية الشد والجذب بين انتماء ( ولائي ) كامل لمثل تلك الجماعات والسعي للحصول على حرية الذات وهويتها تنشأ هوية هلامية زائفة حيث لا يكون الفرد نفسه أبداً، أو لا يكون فرداً حراً أبداً، ومنتجاً حقيقياً في مجتمع مدني مبني على أسس عقلانية قادرة على تنمية مواردها والارتقاء حضارياً وثقافياً. وحيث تمسي الثقافة التسويغية والمذعنة قاصرة، ضامرة، وشوهاء.
نزعة التفرد حاجة أساسية كما هو حس الانتماء، ولست هنا بصدد أيهما له الأولوية في سلّم الحاجات، وإنْ كنا نعرف مع عالم النفس الشهير إبراهام ماسلو أن الحاجة إلى الترابط والانتماء والحب تسبق الحاجة إلى تحقيق الذات، لكن في النهاية نجد أن الإنسان الذي يشبع حاجاته الدنيا سيرغب في أن تكون له مكانة مميزة ومتفردة بين الجماعة، وفي العالم.
* * *
شكّل العهد الكولونيالي عتبة أخرى في تاريخ علاقة السلطة بالجسد.. هذه المرة كان جسد المستعمَر هو المادة/ الضحية لممارسة السلطة.. حيث أمكن رصد ذلك الجسد، من منظور تاريخي، متقلباً بين حالات عديدة، متداخلة؛ حالة أن يُنكر وجوده، وحالة أنْ تنكر آدميته، وحالة أن تمتهن كرامته وتُبخس قيمته، وحالة أن يجري استغلاله/ استعماله كشيء، كأداة، في خدمة المستعمِر واقتصاده وسياسته ومشروعه الرأسمالي ذي الطابع الكوني.
إن تشييء المستعمَر واستعمال جسده هو تحصيل حاصل للرؤية النمطية المؤسِّسة في الخطاب الكولونيالي، وهو الذي لا يمكن فصله عن الإطار التاريخي الذي أنشأه بناءً على مصالح مادية ضخمة هي مصالح الرأسمالية في أطوار تحوّلاتها من المرحلة المركنتينية ( التجارية ) وحتى العولمة. وقد كان مثلما يقول Blunt: "بناء الحقل الجنسي مكملاً لبناء حقل يجب استعماره". فبدءاً صُوِّر الشرق بوصفه أنثى أبدية متطلبة عذراء مهيأة لتُفض بكارتها، "وهذا الموتيف قد استعمل أساساً في سياق استكشاف واستعمار العالم الجديد". ولكن سرعان ما تم الاستغناء عن هذا التصوّر بعد شروع المستعمَرين بالكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فتكونت تصوّرات مغايرة في الخطاب الكولونيالي "عندما تطلبت النفعية السياسية أن يُعاد وضع السكان الأصليين في دور النهابين القساة والعنيفين والمغتصبين للأرض والنساء البيضاوات".
هكذا جرت إعادة إنتاج ماكرة لدورة العنف في الخطاب الكولونيالي إذ جُعل الجلاد في موقع الضحية، وبالعكس، للتمويه على شكل الهيمنة وآثارها.. هذه الاستراتيجية الخطابية ستجد فيها الفاشيات، والأنظمة الشمولية، فيما بعد أساساً لتكوين خطابها من جهة تصوير من لا يخضع لسلطتها أو يقاومها أو يطرح خطاباً مختلفاً، بأنه مرتد أو خائن، أو ناكر للجميل..
* * *
كل جسد هو كون من الأسرار والغموض.. ليس من اليسير أن تعرف بم يفكر الشخص ( الآخر ) وكيف يشعر. وهذا ما يعقِّد، إلى حدّ بعيد، أداء السلطات لوظيفتها في القيادة والتحكّم.. إن أجساد الرعايا/ المواطنين في أجندة أية سلطة، حتى الديمقراطية منها، هي موضوع مراقبة وتحرٍ وكشف. فالسلطة تفترض، وهي في أحايين كثيرة على صواب، أن ما وراء الأقنعة الظاهرة يقبع ما يهدد وجودها، أو على الأقل ما يقلل من هيبتها واحترامها.
تحاول السلطة الوصول إلى مكامن الرغبات والأهواء والنوايا، إلى منابع الفكر ووطيسه، إلى جغرافية المشاعر والأحاسيس، وديدنها تطويع الإرادة؛ إرادة المحكومين والتابعين والرعايا. ولذا ليس من الغريب، في رواية ( 1948 ) لجورج أورويل أن يكون كل امرئ/ كل جسد خاضعاً، على مدار الساعة، لرؤية الأخ الأكبر. فلا أسرار في دولة الأخ الأكبر وهي ترفع شعارها المرعب؛ ( الأخ الأكبر يراقبك ).. هذا يعني أن يثبت كل جسد مراقَب طهارته وبراءته، ويعبّر عن ولائه وحبه على الدوام.
هذه هي الفاشية في أوضح تجلياتها؛ أن تراقب الأجساد، حيث كل جسد أمّارة بالسوء ويجب أن تُقمع وتوجَّه بحسب ما تريد الفاشية، وحيث كل جسد رقم؛ وجوده وعمله وحياته وموته مسألة إحصائية ليس إلاّ. أما الناتج العرضي المطلوب لكل هذه الدراما التراجيدية فهو الخوف، بث الخوف.. الفاشية لا تبغي إلاّ الجسد الخائف. وكذلك الأمر مع الأنظمة الشمولية بكل مسميّاتها الخدّاعة؛ الثورية، الاشتراكية، القومية، الخ..
تصف هيرتا موللر في كتابها آنف الذكر كيفية نشوء دورة المراقبة والملاحقة والخوف في رومانيا تشاوتشيسكو حيث عاشت.. تلك الفاصلة من الحياة خلّفت عندها نظرة قلقة، مهتمة بما حولها، وغريبة.. نظرة تجعل مَنْ حولها مرتابين ومستفزين. فتلك النظرة "تتحرّش بالآخرين في القطار والسوبر ماركت وغرف الانتظار وفي محلاّت بيع الورد، ويلامس الناس وهجها كما لم يعرفوا ذلك من قبل، إنها تكوي وجوه الغرباء وحركاتهم وتؤكد بسرعة كيف تدرّبت على ذلك أعواماً طويلة: لا تكاد النظرة أن تصل إلا ويكتمل بناء معناها، فهي قلّما تفهم سليميّ النظر، وهم كذلك قلّما يفهمونها". ستأخذ معها نظرتها الغريبة بعيداً عن مسقط رأسها وطفولتها وشبابها. وستتسبب لها تلك النظرة بسوء فهم كبير.. إنهم ينعتون تلك النظرة بالوقحة، "ويقولون أيضاً: إن عليّ ألاّ أندهش إذا عاملني النظام الأمني بتلك الطريقة التي عاملني فيها ما دامت عيناي ترسلان مثل تلك ( النظرة الوقحة ). هذه الملاحظة تلصق بي تهمة تقول: إنني بنظرتي تلك أجبرت النظام على ملاحقتي وليس العكس، أي ليست مراقبة النظام لي هي التي ولّدت عندي تلك النظرة". والنظرة الغريبة برأيها ليست نتاجاً لبيئة غريبة، بل العكس، تقول: "النظرة الغريبة تكتسبها من أشياء اعتدتها واطمأننت إليها في حياتك، ولكنهم سلبوك عفوية وبديهية وجود تلك الأشياء".
في المجتمعات الخاضعة للسلطة الفاشية، أو الشمولية بأصنافها، يعكس الأفراد ما يتعرضون له من عنف حقيقي أو رمزي على بعضهم بعضاً، وعلى أسرهم وأقرب الناس إليهم.. يغدو العنف تنفيساً لمكبوت ضارٍ تتركه في النفوس المذلة والإهانات والخوف. وتبدأ الحياة تفتقد للعافية والسعادة والجدوى، وتخسر جزءاً مهماً من جمالياتها وقيمها.. تصف موللر رومانيا تشاوتشيسكو بهذه العبارات: "لا يوجد بلد آخر في العالم بمثل هذا القدر من العنف الأسري، بمثل تلك النسبة العددية في الطلاق وبمثل ذلك العدد من الأطفال المهملين. بمثل هذه الأعصاب التالفة لا يمكن لـ ( سعادة القلب ) أن تنمو".
ينشئ العنف الواقع على الجسد من قبل السلطات المختلفة بدءاً من الأسرة، إلى المدرسة، إلى الشارع، إلى السلطات الأمنية نوعاً من الإدمان.. يخلق العنف المتكرر حالة من مازوكية حيث يستعذب المرء العنف ويتطلبه علاجاً وفعلَ توازن. أو سادية ـ مازوكية مركّبة توسِّع من شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة على ممارسة العنف وتعزيز عوامله ودوره.. تتحدث هيرتا موللر عن طلاب صفها من الأطفال حين حصلت على وظيفة في سلك التعليم قبل خروجها من رومانيا وكيف أنها لم تحظَ بإثارة انتباههم حتى لخمس دقائق، فقط لأنها اتبعت طريقة مهذبة معهم ولم تلجأ إلى ضربهم بالعصا.. تقول: "حاول أطفال صفي إجباري على إرضاء حاجتهم بالضرب. كانوا يعتقدون أني خذلتهم وتخليت عنهم، كانوا مرميين في فراغ هستيري، لأن الضرب توقف. كان البكاء تحت العصا هو الحالة الوحيدة التي تشعرهم بشخصيتهم، ودموعهم تخرجهم للحظات من انتمائهم التضامني إلى المجموعة". المجموعة التي استمرأت العنف وما زالت بقيتها تتلقى ضربات العصا في الصفوف الأخرى.. قد تنطوي عبارات هيرتا موللر آنفة الذكر على شيء من المبالغة، لكنها تؤشر حقيقة نفسية اجتماعية يتسع نطاقها في ظل غياب الحريات في مقابل شيوع مظاهر القسوة والخوف.
في أزمان الإحباط واليأس والفوضى يُعاقب بعضهم أجسادهم إما بإهمالها أو بإنزال العقاب عليها أو بزجِّها في مغامرات عبثية، وفي ضمنها الإدمان على الكحول والمخدرات، والدخول في شجارات لا مسوِّغ لها، أو حتى الانضمام إلى عصابات ومجموعات إجرامية وإرهابية، وأحياناً باللجوء إلى تعذيب الجسد وإيذائه، ويمكن أن يصل الأمر إلى الانتحار.. يقودهم تفكيرهم المضطرب إلى القيام بأفعال لا تستقيم، في ظاهرها، مع المنطق والمعقول.. بعينها الخبيرة والذكية ترصد موللر حالة أولئك الصبيان الألمان من الذين يوصفون بالنازيين الجدد حين يحلقون رؤوسهم على الصفر؛ "لماذا يقص النازيون الجدد شعورهم من دون أن يكون ذلك ضرورياً؟ إن لهم علاقة محطَّمة بأنفسهم، إذ تنقصهم الحساسية الكافية بما يخص احتقار الذات، إنهم يستخدمون جماجمهم كأداة ويحملونها في غير موضعها وكأنها ( دبش ) أو شقف حجارة مرمية على مجاري نهر اختفى أو تراجع جريانه. إنهم يلعبون وبكل برود لعبة المحاربين المتوحشين ويجعلون من احتقارهم لأنفسهم مدعاة لفخرهم ويحاولون في نظرتهم المتوحشة للكون أن يعطوا صفة النبل للسمعة السيئة لحلاقة الرؤوس على الصفر".
حلاقة الرؤوس على الصفر ممارسة سلطوية على الأجساد، وشكل من أشكال إنزال العقاب أو التهديد به، ولا يُقصد به إلحاق الأذى البدني وإنما التأثير النفسي والمعنوي.. إنها النقش الأول الذي تتركه السلطة على الجسد المستعمل أو المعتقل.. مع نظرتك إلى نفسك في المرآة تدرك أنك لم تعد ملك نفسك، وأنك فقدت مساحةأخرى من حريتك التي هي في الأساس ضئيلة ومحدودة.. يُحلق رأس الجندي منذ اليوم الأول لانخراطه في السلك العسكري، وكذلك يحصل الأمر مع السجين، وأحياناً في ظل الأنظمة الاستبدادية الشمولية يخضع التلاميذ والعمال لهذا الإجراء الذي هو في جوهره ذو طابع سياسي. عليك مع حلاقة رأسك على الصفر ألاّ تنسى وضعك الجديد.. تقول موللر: "كانت كلمة ( حلاّق ) إشارة سياسية غالباً لدى الرجال أكثر منها عند النساء. وكانت تلك الإشارة تعني مقدار إحكام الدولة قبضتها على شخص ما، أي درجة ملاحقته والضغط عليه".
أذكر أن العبارة الأثيرة لأحد مدراء الإعداديات الذين عملت معهم قبل العام 2003 كانت، حين يتوعد طلبته بالعقاب: "سأحلق رؤوسَكم".. وحين يُحذِّر الهيئة التدريسية من ارتكاب خطأ ما يضيف مازحاً: "وإلا سيحلقون رؤوسنا". كانت تلكم العبارة على طرف لسانه يرددها في كل يوم.. ولا شك أن السيد المدير ذاك استبطن، وإنْ بطريقة لا واعية جانباً من آليات السلطة في علاقتها مع الأفراد والمؤسسات.. إن حلاقة الرأس ( على الصفر ) علامة فارقة تُنقش على الأجساد، لها مضمون ودلالة سياسيين صارخين.. إنها نمط ثقافي مائز للفاشيات والأنظمة الشمولية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات