الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-تمثّلات الحداثة- 3 المدينة والطبقة الوسطى ومشكلات التحديث

سعد محمد رحيم

2015 / 5 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لا يمكن فصل فكرة الحداثة عن الإطار المديني، ولا يمكن الحديث عن المدينة الحديثة من غير أن يكون المحور الأساس له نمو الطبقة الوسطى المدينية. وحين نعاين هذه القضية، من منظور جدلي تاريخي، في السياق العراقي، تبرز أمامنا جملة من المشكلات الشائكة، والتي تراكمت، عبر تجربة بناء الدولة العراقية منذ العام 1921. وهي مشكلات بنيوية تتصل بالسياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. فالحداثة، في الغرب، بحسب فاطمة المحسن في كتابها ( تمثلات الحداثة ) "هي التمدين (urbanization )، أو الانتقال من الريف إلى المدينة الصناعية، وصعود البرجوازية والرأسمال العالمي، كما هي المعرفة العلمية والصياغة الرياضية لمناهج الفلسفة والفكر والأدب والفن"ص191. وإذ تتساءل المحسن عن الزمن الحداثي في البلدان الطرفية، تجد أن هذه الأخيرة أدركت "التمدين دون أن تعيش مخاضاته من الثورة العلمية وطرق الإنتاج الصناعي الحديثة، إلى حراك الأفكار والثورات الجماهيرية، وما تمخض عنها من نظم سياسية ومعتقدات."ص191.
تشير الحداثة، في أحد تجلياتها المفهومية، إلى علاقة مغايرة بالمكان، عبر تأسيس جغرافيا ثقافية مخترقة بقيم وتقاليد ورؤى معرفية وجمالية، أي ثقافة، تتباين مع ما كان راسخاً من قبل بفعل إزاحة تاريخية. والمكان الحديث هو المدينة بطابعها البرجوازي، ومؤسساتها وأنماط إدارتها، فضلاً عن هندستها ومعمارها ومعالمها والتوزيع الوظيفي لقاطنيها.
نعرف أنه لا مدنية عصرية من غير طبقة وسطى قائدة للتحوّل الاجتماعي ـ الاقتصادي تهيء لبناء قاعدة مادية مؤسساتية وتقنية حديثة، في إطار تاريخي زمني ممتد، لحين نضوج الشروط المساعدة لتحوّل آخر في علاقات الإنتاج لاحقاً. فهل كان أحد أسباب اضطراب وانحسار عمليات التمدين عراقياً، فحوى الإيديولوجيات الشمولية الشعبوية، التي شاعت عند الأحزاب اليسارية منها والقومية، وكانت تسخر من طريقة حياة الطبقة الوسطى البرجوازية المدينية ( المعنى المقصود للبرجوازية هنا هو المعنى المستمد من الجذر اللغوي، ومؤداه سكان المدن ). وقيمها وتقاليدها بدعوى أنها مستوردة من الغرب ( الاستعماري عند بعضهم، والكافر عند بعضهم الآخر )، بوضع هؤلاء، حيناً، في خانة الأعداء الطبقيين الذين يجب محاربتهم وتحطيمهم، وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الرؤية المبتسرة تفتقر إلى الحس التاريخي السليم، وتجهل روح المنهج الجدلي الماركسي نفسه. أو بعدِّهم، عند آخرين، مروّجين لقيم وتقاليد لا تلائم تقاليدنا وقيمنا الموروثة الأصيلة؟.
أُهمل الريف العراقي، وكذلك البلدات الصغيرة عقوداً طويلة حتى أضحى الحصول على الحد الأدنى من مستلزمات الحياة البشرية اللائقة فيهما بغاية الصعوبة. وهكذا صار الريف، لاسيما في جنوب البلاد، بيئة طاردة لأهلها بعد أن أصابها الشح والتخريب بفعل استغلال الطبقة شبه الإقطاعية المسيطرة على قوى الإنتاج فيها. فيما كانت المدن، الكبيرة منها بخاصة، مناطق مغرية لهؤلاء، من المحتمل أن يجدوا فيها فرصاً للعيش الكريم، لتبدأ منذ أواخر العهد الملكي الهجرات السكانية الكبيرة.
فقدت المدينة العراقية إيقاع تطورها المنتظم مع الزحف الواسع للمهاجرين إليها من الأرياف.. الهجرات التي خلخلت ذلك الإيقاع، وأربكت النمو الطبيعي، ناهيك عن خطط التطور التدريجي المركّب التي وضعت على وفق رؤى حداثية لمهندسي سياسة واقتصاد وعمارة وثقافة منذ أربعينيات القرن المنصرم على اثر اكتشاف النفط وزيادة إيراداته. ومن الظلم إلقاء اللوم على أولئك المهاجرين الذين اضطرتهم ظروفهم البائسة القاهرة إلى ترك مواطنهم الأصلية بعد ما عانوا فيها الجوع والذل والخوف أملاً في العثور على حظوظ أفضل في أمكنة أخرى.. والأمكنة الأخرى لم تكن سوى هوامش المدن الكبيرة.
يعد ازدهار المدينة، والحياة المدنية، أو انكفائها وتخلفها وتراجعها، دالة لنجاح سياسات الدولة والسلطات الحاكمة، أو فشلها.. وإن التركيز في برامج التحديث على المدن الكبيرة والانطلاق منها هو السبب في تشويه عمليات التحديث.. وفي اعتقادي المتواضع، كان يجب البدء، بخطط الإعمار والتنمية، من الريف وتطويره بوصفه فضاءً اقتصادياً إنتاجياً في غاية الأهمية. أو في الأقل البدء منه بالتزامن مع تحديث المدن وتطويرها. فمن غير تنمية زراعية حقيقية تبقي سكان الريف في أمكنتهم التي تمدّهم بأرزاقهم فإن المدن ستظل تستقبل اعداداً متزايدة من النازحين الريفيين، ومن غير أن تستطيع إدماجهم في نسيجها الاجتماعي.
تقول فاطمة المحسن: "لقد لاحت عيوب تركيز التمدين في العاصمة والمدن الرئيسية، في وقت أبكر من العقد الثمانيني في القرن العشرين، حيث بدأت تدريجياً منذ الخمسينات وأدت إلى نزوح من المدن والأرياف إلى بغداد والمدن الرئيسية لم يكن ملحوظاً في البداية، ولكنه أدى إلى عطب في مشروع تمدين العاصمة وبقية الحواضر العراقية، فقد كانت عجلة الاقتصاد غير قادرة على استيعاب جل المهاجرين ودمجهم في مشروع التمدين"ص214.
إن السكان يتوزعون في الأمكنة المختلفة بحسب ما تلبي الأمكنة تلك من حاجاتهم. وما يمكن أن يقوموا به من وظائف وأعمال. فيما تخلق الهجرات الكبيرة، لا العشوائيات والمشكلات الناجمة عنها وحسب، وإنما تُحدث اختلالاً في التوزيع الوظيفي ـ العملي للسكان كذلك، حيث من أبرز مظاهره انتشار البطالة، والبطالة المقنّعة.
لم تكتسب المدينة العراقية الحديثة الصلابة القيمية والثقافية والمادية الكافية لاستيعاب المهاجرين من الأرياف والبلدات الصغيرة وتكييف حياتهم على وفق تقاليد المدينة وعلاقاتها وقيمها، وتغيير نمط حياتهم، بالشكل الذي يجعلهم ينسلخون عن قيمهم وانتماءاتهم ما قبل الدولتية القديمة ليكتسبوا معها هوية جديدة هي هوية المدينة.. كان أعداد المهاجرين أكبر بكثير من أن تستطيع مدن لم تتعصرن بعد إلى درجة واضحة تجعلها بمأمن من الارتداد أن تستوعبهم وتكيّفهم. وهكذا أصبحت المدن العراقية الحالية جزراً قبلية عائمة في محيط غريب عليها، وهي جزر لها سلطتها اليوم، وتوتراتها وصراعاتها وتناشزاتها الصعبة. ولعل تسيد الروح القبلية وقيمها وتقاليدها من أقوى معوقات ترصين قوة الدولة وتحقيق الحداثة المدينية في العراق المعاصر. وإذا قلنا أن كل مدينة حديثة هي عبارة عن فضاء تفاوضي مستمر ( استعارة الاصطلاح من هومي بابا ) كونها مصهراً لتنوعات عرقية ومذهبية وثقافية مختلفة، ومجالاً للتثاقف والهجنة الممهدة للإبداع الفكري والأدبي والفني، فإن تحوّل المكونات إلى جزر معزولة عن بعضها بعضا يحول دون إنجاز عمليات التثاقف والتهجين والانصهار المجتمعي بسلاسة.
حاولت النخب الثقافية، وكثر من أعلامها درسوا في الخارج وعادوا محملين برؤى وأفكار جديدة، أن يكونوا جزءاً فاعلاً من عمليات التفاوض المجتمعي الثقافي ذاك، غير أن نوعاً آخر من التناقض سيطل عندئذ، وهذه المرة بين طريقة حياة أفراد النخبة المنتمين إلى الطبقات الوسطى، وطريقة حياة اولئك الغارقين في البؤس والفقر والجهل. وعلى الرغم من هذا استطاعت النخبة أن تخلق تأثيراً لافتاً في مجتمعها.. تقول المحسن: "عند عودة المعماريين والفنانين العراقيين من الخارج، خلقوا مجتمعاً ( تفاوضياً ) ينتج حداثته الخاصة ويطمح أن يكون حلقة الصلة بين الثقافة الغربية المزروعة وسط بغداد وأحيائها الجديدة، وبين الأكثرية التي تسكن أحياء البؤس القديمة والمدن المهملة والبوادي والمزارع التي غدا الإقطاع فيها أشد بأساً على الفلاحين بعد الاحتلال البريطاني بسبب تقسيم الأراضي وتوزيعها على شيوخ القبائل، وتمكينهم داخل السلطة السياسية. وسيكون ذلك التفاوت في طريقة العيش والامتيازات أحد أسباب الاضطرابات المجتمعية وحركات الاحتجاج التي سادت خلال الأربعينات والخمسينات مدن العراق وأريافه، وفي مقدمتها العاصمة بغداد، مثلما أصبحت خطابات الشارع المحتج أحد أهم مواضيع الأدب والفن العراقي"ص199 ـ 200.
وفيما بعد سنرى أن ما يُجذّر اغتراب المثقف؛ أوهامه، أحلامه غير الواقعية، طوباويته.. إن السباحة في بركة الأمل الكثيفة، مع الافتقار لحس الواقع وللحس التاريخي والوعي بهما، مآلها الصدمة.. وهكذا انتهت لغة كثر من المثقفين، في النهاية، وقد نُقِّعت بالسخرية والخيبة والمرارة.
أعتقد أن ثمة سبباً آخر لتراجع الحداثة المدينية العراقية، وهي تلك العزلة التي فرضها النظام السياسي الشمولي، إلى جانب الواقع الإقليمي والدولي، على المجتمع العراقي طوال عقدين قاسيين هما؛ الثمانينات بحادلة الحرب التي راحت تسحق شيئاً فشيئاً جزءاً كبيراً مما نما من قيم مدنية وتقاليد حضارية جديدة منذ تأسيس الدولة وحتى السبعينات.. والتسعينات التي ابتدأت بغزو الكويت لتشهد واحدة من أشد عمليات الحصار على مجتمع إنساني قسوة ولؤماً وخسة وحقارة، والتي نفذت باسم الشرعية الدولية!!. ومن نافل القول أن العزلة التي تفرض على مجتمع معين تخلق الوسط الأكثر ملاءمة لنمو مشاعر الكراهية والخوف من الآخر المختلف، وسوء الظن، والتعصب، ومن ثم الميل إلى العنف. وسوء الحاضر المستمر عراقياً، منذ نهاية السبعينات في الأقل، جعل ثقة شرائح واسعة من المجتمع بالمستقبل تضعف إلى حد بعيد. ومن هنا ذلك الارتداد العصابي نحو الماضي، والبحث فيه عن ملاذات وحلول. وتلك في الحقيقة وغالباً ملاذات من أوهام، وحلول عقيمة. ومع تديين السياسة وتسييس الدين وصعود الإسلام المتطرف، وتفاقم الإرهاب بأشكاله وصيغه المتعددة بدءاً من اللغة وبلاغتها وربما ليس انتهاءً بقطع الرؤوس باتت النخب الثقافية تعيش لوناً جديداً من الاغتراب لا أدري إن كان مناسباً أن نسميه ( اغتراب الارتداد أو التأخر ). واصطلاحا الارتداد والتأخر يخصان الواقع الذي تراجع بمعايير التمدين والعقل الجمعي الذي ارتد. فبعدما حفلت سنوات الأربعينات، وحتى السبعينات بآمال الحداثة ورومانسيات الثورة وروح التفاؤل انكسرت حركة الصيرورة، او كأننا دخلنا مرحلة قوس نزول طويلة نسبياً في مسار التطور الحلزوني، حيث، وعلى غير توقع من سمّوا بالتقدميين في تلك الحقب الموارة بالتحولات، تكاثر من سمّوا بالرجعيين ( ولم لا نعيد استخدام هذا الاصطلاح الذي ينطبق على قوى كثيرة الآن أكثر من انطباقه على أولئك الذين خلع عليهم آنذاك ). وإلا ماذا نسمي من يرى المستقبل بعين الماضي، ومن يرى المستقبل في الماضي، ومن يقاتل حتى الموت ليعيد العالم إلى القرون الوسطى؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء