الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة اليسار... وفرصة النهوض

حسن شاهين

2005 / 9 / 30
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


منذ سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية قبل أربعة عشر عاماً واليسار في العالم أجمع يعيش حالة من التشرذم والضياع وفقدان التوازن، كتجليات لما بات يعرف بأزمة اليسار، وعلى الرغم من أنها أزمة عامة أصابت اليسار في كل العالم بلا استثناء، إلا أن وطأتها كانت أشد وأكثر قسوة على اليسار في الدول النامية، الذي بانهيار الاتحاد السوفييتي لم يفقد حليفاً وداعماً في نضاله من أجل التحرر والانعتاق من الاستعمار بشكليه القديم والحديث فحسب، بل فقد الأب الروحي وربما العضوي أيضاً. ومع أن أزمة اليسار لم تكن بسبب أو نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي فهي بدأت قبل حدوث الانهيار بزمن طويل كما سيرد لاحقاً في هذا المقال؛ إلا أن هذا الانهيار فتح الباب على مصراعيه أمام مفاعيل الأزمة التي كانت تعمل بصمت وبوتيرة بطيئة طوال السنوات الماضية، وجاء الانهيار ليكشف إلى أي مدى كانت الأزمة عميقة، وأنها وصلت إلى الدرجة التي فقد فيها اليسار جزء من مقومات هويته، وتهاوت الجدران التي كانت تشكل الإطار الجامع للأفكار والمبادئ والقيم التي تميزه. فأصبح تعريف اليسار اليوم أمر ملتبس، ولم يعد من السهل الاتفاق على المعايير الأساسية التي يمكن من خلالها تحديد إن كان هذا الحزب أو التنظيم يسارياً أم لا. فهل الحزب اليساري هو ماركسي بالضرورة؟. أم أن كل من يرغب بالإصلاح هو يسار؟، كما عبر أحد أعضاء كتلة (التيار العوني) في البرلمان اللبناني عندما برر تحالف تياره مع حركة اليسار الديموقراطي حيث قال بأن (التيار العوني) يرغب بإحداث تغيير فو بذلك تيار يساري!. وربما هذا الفهم الجديد لليسار يفسر التحولات والانقلابات غير المعقولة التي حدثت لبعض قوى اليسار واليساريين في العالم، فمن كان يتصور أن يؤيد جزء من اليسار في أوروبا والبلدان العربية سياسة الهيمنة الأمريكية على العالم؟! وأن يصطفوا بطابور منتظم خلف القوات الأمريكية داعمين ومؤيدين للحروب التي شنتها منذ انتهاء الحرب الباردة في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق؟. وما أسرع ما تحول بعض من كانوا في السابق يطبلون ويزمرون للاتحاد السوفييتي ويبشرون بانهيار الرأسمالية وبداية عصر الاشتراكية؛ إلى نبذ الماركسية التي سقطت بنظرهم بسقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية وأضحت من مخلفات الماضي السوفييتي، وتجاوزوها إلى الليبرالية، التي اكتشفوا فجأة بأنها طريق الخلاص من الدكتاتورية والاستبداد والتخلف في بلداننا، وهي التي ستلحقها بركب الحضارة الغربية. ومع إدراكنا لأن البشر يتغيرون مثلهم مثل أي شيء في الكون، وأن فضاء التنوع الفكري يتسع لوجود من يروج لليبرالية الغربية كما يتسع للإسلاميين وغيرهم؛ إلا أن هذا الانتقال الميكانيكي من الماركسية إلى الليبرالية لا يمكن أن يفهم إلا في إطار استمرار حالة الجمود الفكري والعقائدي، والتمركز في مواقع المثالية، التي ميزت الجزء الأكبر من اليسار في العالم الثالث ومن ضمنه اليسار العربي طوال تاريخه. فهؤلاء الذين وجدوا بالماركسية السوفييتية في زمن انتصارها الجواب الناجز لكل تساؤلاتهم والحل السحري لمشكلات مجتمعاتهم، وجدوا ضالتهم اليوم بالليبرالية كعقيدة جديدة منتصرة. "إن هذا التجاوز المبني على نقلة طائشة لا تستند إلى بحث جاد في الماركسية وأزمتها، كما لا تستند إلى وعي جاد بالليبرالية ومحدداتها، وبالتالي فإن هذا التجاوز هو انتقال تحت سياط الهزيمة، وفي غيبوبة الانهيار. لهذا بدأت الليبرالية كعقيدة جامدة، كما كانت الماركسية الرائجة بالضبط"(1). ومع ذلك فقد بقي الجزء الأكبر من اليسار متمسكاً بالماركسية رغم ما ألم به من ضعف ووهن، وهذا اليسار أيضاً ينقسم إلى قسمين، الأول مازال متمسكاً بالماركسية التي كانت رائجة في زمن الاتحاد السوفييتي وبالتنظيم الستاليني، ولا هو يؤمن بضرورة المراجعة الفكرية، فالعيب ليس بالماركسية بل بالماركسيين وبتطبيقهم الخاطئ للماركسية. وما أقرب الشبه بينهم وبين الأصوليين الإسلاميين، الذين يرون بأنه لا عيب بالفكر الإسلامي، إنما العيب بالمسلمين الذين لم يعرفوا كيف يطبقون الإسلام بالشكل الصحيح. إن هذا اليسار هو وريث اليساريين الأوائل في الدول النامية والعربية الذين قرؤوا ماركس بدرجة معينة وبهرهم النموذج السوفييتي بدرجة أكبر، فشكلت الماركسية بقراءتها السوفييتية بالنسبة لهم النظرية الثورية، وبنو تنظيماتهم وفق مبادئ التنظيم الستاليني، واعتمدوا التحول الاشتراكي برنامجاً لها. فتأسست أحزاب اليسار في الدول النامية والعربية كنسخ مشوهة للحزب الستاليني، ومع أن هذا التوصيف قاس إلا أنه لا يحمل أي مبالغة، وبالتالي ولدت هذه الأحزاب وهي تحمل جنين أزمتها بداخلها. لقد تعامل هؤلاء اليساريين مع الماركسية بترجمتها السوفييتية كما تعامل الكتب السماوية، واعتبروا أنفسهم يمتلكون ناصية الحقيقة دون غيرهم. فجروا الماركسية إلى مواقع المثالية وأصبحت لاهوت اليساريين في العالم الثالث.
أما القسم الثاني من هذا اليسار فهو ذاك الذي وقف أمام نفسه وأمام تجربته في مراجعة نقدية متعمقة للتعرف على أسباب الفشل وسبر غور أزمته، دون أن يفقد اتزانه تحت ضغط ثقل الهزيمة، واستطاع أن يتوصل إلى أن الأزمة لم تكن نتيجة لتداعيات انتصار المعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة فحسب، بل هي ناتجة أيضاً عن أزمة فكرية وتنظيمية وبرامجية عميقة، تعود جذورها إلى بدايات تشكل وتأسس اليسار في الدول النامية. ولا يساورني شك بصحة التشخيص الذي يقول بأن أزمة قوى اليسار هي ناتجة عن خلل في البنى: الفكرية، التنظيمية والبرنامجية.
إن هذا الخلل البنيوي كان وراء اغتراب اليسار الفكري ودخوله في سجال لا طائل منه حول الدين، وبسبب هذا الخلل أيضاً لم يلامس اليسار هموم الناس المعيشية ولم يستطع أن يدرك الترابط بين مهمة النضال الديمقراطي ومهمة النضال الوطني التحرري إلا متأخراً. وهذا الخلل هو الذي أدى باليسار إلى أن يكون عاجزاً عن تجاوز أزمته حتى بعد تعرفه على أسبابها. فعلى الرغم من أن تشخيص أسباب الأزمة يعني الاهتداء إلى أول الطريق المؤدي لتجاوزها وإيقاف مفاعيلها، إلا أن بدء عملية السير على تلك الطريق يتطلب ما هو أصعب وأكثر تعقيداً من التشخيص والدراسة النظرية. إن كان اليساريون قد نجحوا في تشخيص أسباب الأزمة فإنهم حتى الآن لم ينجحوا في الممارسة النظرية والسياسية لعملية التصحيح، فهم كمن شخص الداء وتوصل إلى الدواء لكنه لم يعرف كيف يركب هذا الدواء. فالممارسة النظرية هي ليست النظرية كما أن الممارسة السياسية هي ليست البرنامج المكتوب، هي أقرب ما يسمى إلى الأداء السياسي(2). فالوصول إلى نظرية معينة شيء؛ والعثور على الصيغة المناسبة لتطبيق وممارسة هذه النظرية شيء آخر. وهذا الأمر أنتج هوة واسعة بين القول والممارسة، تجلت بمفارقات عدة، ربما أهمها موضوعة وحدة اليسار، فكل قوى اليسار بلا استثناء تنادي نظرياً بوحدة اليسار، لكن على الأرض نرى مزيداً من تشرذم اليسار!. لهذا فإن الممارسة النظرية والسياسية هي المحك الفعلي الذي تختبر عنده صحة وصدقية الشعارات وهي أيضاً الوجه الحقيقي للبرنامج. فتبني برنامج نظري مع عدم ترجمته إلى ممارسة نظرية وسياسية يختزل دور الحزب إلى دور المثقف. وحول موضوع الممارسة السياسية يقول المفكر الشيوعي اللبناني محمد علي مقلد متحدثاً عن الحزب الشيوعي اللبناني "... جرت في مؤتمرات الحزب، من السادس حتى التاسع، صيغ من المساومات خلاصتها الاتفاق على صمود الحزب لكي يتفادى أكبر حجم ممكن من تبعات الانهيار وآثاره على الأحزاب الشيوعية، والاتفاق على ضرورة تجديد الحزب. لكن الممارسة السياسية للحزب لم تنجح في نقل هذا التوافق المساومة إلى حيز التطبيق، ولم يكن مضموناً أن يتم ذلك فيما لو كان الأداء القيادي مختلفاً أو لو تولت قيادة أخرى للحزب مسألة التجديد فيه، لأن العامل الذاتي لم يكن مهيأ بما فيه الكفاية لهذه المسألة الشائكة"(3).
إن مقدرة قوى اليسار العربي والفلسطيني تحديداً على الخروج من أزمتها تكمن أولاً وقبل كل شيء في تطوير قدرتها على الأداء العملي، ومحاولة الانتقال من صيغة التنظيم الستاليني السائد إلى تنظيم أكثر مرونة وقدرة على الفعل والحركة، آخذةً بمبادئ وأساليب الإدارة الحديثة. وفي الوقت نفسه تفتح المجال أمام تفاعل خلاق بينها وبين الأفراد والمنظمات والقوى والأطر...الخ، التي تلتقي وإياهم في موضوعة الديمقراطية وموضوعة العدالة الاجتماعية، بالتوازي مع موضوعة التحرر الوطني. بالإضافة إلى العديد من الموضوعات التفصيلية التي يمكن أن تلتقي عندها قوى اليسار وتتفق عليها، وأن يكون هذا الاتفاق أساساً لوحدة إطارها العام الجامع هو الديموقراطية بشقيها السياسي والاجتماعي. الديموقراطية السياسية بما تشتمل من انتخابات وحريات سياسية ونضال وطني تحرري، والديموقراطية المجتمعية بمضمونها الاشتراكي. والديموقراطية بهذا المعنى أقرب ما تكون إلى اليسار وطروحاته، وهي بالتأكيد غير تلك التي تسوقها الولايات المتحدة، بل هي الرد اليساري عليها "من بديهيات الفكر الاشتراكي التي نسيت أنه إذا كانت الملكية العامة لوسائل الإنتاج تعني ملكية الدولة، فمن الواضح والطبيعي أن تكون ملكية دولة ديموقراطية".(4) والديموقراطية المجتمعية لا يقصد بها في أي حال من الأحوال بناء نظام اشتراكي يقوم على إلغاء الملكية الخاصة تماماً وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، بل هي صيغة تضمن صون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين في كافة القطاعات، من التعليم إلى الصحة والعمل والسكن والفنون...الخ، بما يكفل توفر شروط الحياة الكريمة للمواطنين. فضمان حق المواطن بالرعاية الصحية الأساسية لا يعني إلغاء العيادات الخاصة، ومجانية التعليم لا تعني إلغاء قطاع التعليم الخاص، وهكذا دواليك.
إن الدعوة لتوحد اليسار حول برنامج، لا يقصد منها حشد القوى وتجميعها في مواجهة التحديات فحسب، بل هي نتيجة قناعة راسخة بأننا نعيش اليوم مرحلة من تاريخ الإنسانية هي الأكثر مواتاة لليسار ليعمل على تأطير الجماهير المستضعفة والمقهورة وقيادتها لتطبيق برنامج اليسار الديموقراطي الذي يلتقي بل ويتطابق مع مصالحها. فمع استتباب ما يعرف "بالنظام العالمي الجديد" بقيادة الولايات المتحدة، بعد انهيار المعادل الاشتراكي للرأسمالية؛ أطلقت تلك الأخيرة يدها لتمارس أشكالاً غير معهودة من الاستغلال والسيطرة والتحكم بحق شعوب الدول النامية وحتى شعوبها "إن عدم المساواة الكبيرة في القوة والإمكانيات داخل المجتمع العالمي، قد خلق وضعاً يسمح، ليس فقط بالقضاء على إنجازات عقود من التقدم الاجتماعي والاستغلال من الاستعمار ومن نضال حركات التحرر في بلدان الأطراف. وكذلك قواعد القانون الدولي، بل إنه يجري عملية إعادة تقييم المؤسسات الديموقراطية في بلدان (المركز) العولمي، وفي الولايات المتحدة قبل غيرها".(5) إن ذلك يظهر جلياً في تراجع الحريات الشخصية في معظم دول الغرب بحجة مكافحة الإرهاب، وخصخصة الكثير من المرافق الحيوية التي كانت حتى عهد قريب مملوكة للدولة. إن هذه الهجمة التي يشنها المركز الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وبأدوات العولمة لا تعمل فقط على تعزيز سيطرة الشمال الغني على الجنوب الفقير، والغرب وعلى الشرق، بل تستهدف أيضاً مصادرة كل الانجازات التي تحققت في ظل وجود المعادل الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وعلى رأس هذه الانجازات انتهاء الاستعمار بشكله القديم، واستقلال الدول النامية من الاحتلال المباشر، وصدق د.محمد علي مقلد إذ يقول "... غدا الدفاع عن وحدة كل قطر عربي مهمة مقدسة في مواجهة التفتيت العولمي". إن احتكام حلقة الظلم والاستغلال اليوم يشكل ظرفاً موضوعياً مناسباً لليسار الذي هو وحده –دون أدنى مبالغة- الذي يستطيع أن يحمل المشروع الحضاري المضاد. على عكس ما يردده بعض اليساريين من أن مهمة اليسار في هذه المرحلة هي الحفاظ على الذات، وإبقاء الجمرات مشتعلة تحت الرماد ...الخ، أي جمرات تلك التي تظل مشتعلة تحت الرماد!. وأنا لا أشك بالنوايا الحسنة لأصحاب هذه الدعوات، لكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي، فمثل هذه الدعوات هي مسوغ لحالة الجمود التنظيمي والفكري، وهي تترجم عملياً كدعوة للقبول بالواقع بكل مساوئه حتى وإن لم يقصد مطلقيها ذلك. فمن ينشد التغيير عليه أن ينطلق في مسعاه من رفض الواقع أولاً، ثم يقرن هذا الرفض بتحديد جدول أعمال واضح لعملية التغيير.


أزمة اليسار الفلسطيني .. أزمة الشرعية
لم يكن اليسار الفلسطيني بمعزل عن الأزمة التي أصابت اليسار في العالم وفي الوطن العربي –وأنا أتحدث عن ذلك الجزء الذي يمكن أن نسميه اليسار المقاوم- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أنني أعتقد أنها كانت إلى حد ما أقل حدة مما هي على باقي اليسار العربي، فاليسار الفلسطيني رغم كل التراجع الذي أصابه لم ينعزل تماماً عن الجماهير ولم يفقد تواصله معها، ومازال يمثل قطاعاً غير قليل منها، وهو عضو أساسي في الحركة الوطنية الفلسطينية وفي النظام السياسي الفلسطيني، وكانت له مشاركة فاعلة في مقاومة الاحتلال طوال فترة الانتفاضة الأخيرة.
وهنا يثار سؤال مهم: لماذا استطاع اليسار الفلسطيني أن يحافظ على رصيد جماهيري معين رغم كل التراجع الذي أصاب اليسار في العالم، خصوصاً ونحن نرى كيف أن قسماً كبيراً من أحزاب اليسار العربي تحول عملياً إلى جمعيات نخبوية بمعزل عن الجماهير؟. أعتقد أن هذا الأمر يعود إلى عاملين: العامل الأول هو أن الشعب الفلسطيني ونتيجة لظروفه الخاصة المعروفة؛ على عكس الشعوب العربية هو شعب مسيّس بمعظمه، ومن البديهي عند إذ أن تكون لليسار الفلسطيني حصة من الشارع الفلسطيني المسيّس أكبر من حصة اليسار العربي من شارعه المسيّس الضئيل في كل قطر من الأقطار العربية. والعامل الثاني وهو الأهم باعتقادي يعود إلى أن شرعية اليسار الفلسطيني استندت بالأساس إلى برنامج كفاحي تحرري ضد الاحتلال الإسرائيلي. والحزب بما هو عقد اجتماعي لابد وأن يستند إلى شرعية معينة أو مجموعة من الشرعيات، قد يتجدد القديم منها أو تنتهي صلاحية بعضها وتنشأ أخرى جديدة، وبالتالي يحافظ العقد الاجتماعي على استمراريته ويتمكن من تجاوز أزماته طالما بقيت الشرعيات التي يستند إليها صالحة ولم تسقط. وهذا الأمر مكن الجزء المقاوم من اليسار الفلسطيني في مرحلة معينة من تاريخه من تجاوز معضلة (الممارسة السياسية والنظرية) التي تحدثنا عنها سابقاً، حيث كان الكفاح المسلح والفعل المقاوم بكل أشكاله هو جزء من هذه الممارسة، ومادام الاحتلال مستمراً فإن هذه الشرعية ستبقى صالحة. إلا أنها وحدها غير كافية، وهذا ما اكتشفته قوى اليسار وناقشته في مؤتمراتها وخلصت إلى أن غياب البرنامج الاجتماعي الديموقراطي كان له دور مهم في تفاقم الأزمة، وعلى الرغم من أنها توصلت إلى هذه النتيجة في وقت مبكر نسبياً وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي إلا أنها لازالت عاجزة عن تحويل برنامجها الاجتماعي الديمقراطي إلى شرعية جديدة لأنها لم تنجح في إيجاد الوسيلة المناسبة لترجمته إلى أداء (الممارسة النظرية والممارسة السياسية). استناداً إلى ما سبق وبناء عليه يمكن الاستنتاج بأن أزمة اليسار في جوهرها هي أزمة شرعية.

اليسار الفلسطيني من الأزمة إلى النهوض
منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، والنظام السياسي الفلسطيني يخضع لحالة استقطاب حاد بين تيارين رئيسيين هما تيار السلطة وحزبها (فتح)، وتيار الإسلام السياسي بقيادة حركة حماس، في الوقت الذي انكفأ فيه اليسار الفلسطيني وتراجع تأثيره وانحسرت جماهيريته كما ذكرت سابقاً. ليس هذا فحسب، بل زادته حالة الاستقطاب الثنائية تمزقاً، فجزء منه التحق بالسلطة وانخفض سقفه السياسي إلى ما دون سقفها، كما هو الحال في مبادرة جنيف التي شكل اليساريون أو من ينعتون باليساريين الجزء الأكبر ممن حضروا المؤتمر الذي أطلق المبادرة. وجزء آخر (هو الأكبر) توارى في ظل حماس التي باتت عملياً تقود المعارضة الفلسطينية وتحدد سقفها السياسي. وإن كنت صراحة لا أعفي الجزء الأول من تهمة الانتهازية، إلا أن الجزء الثاني (اليسار المقاوم) لم يستطع مجاراة حركة حماس في فعلها المقاوم، فهي تمتلك إمكانات مادية أكبر بما لا يقاس من تلك التي يمتلكها اليسار، إضافة إلى السند والدعم الخارجي من الحركات الإسلامية في دول العالم وحتى من بعض الدول العربية. وهما (الدعم الخارجي والإمكانات المادية) شرطان أساسيان يجب توفرهما لأي تنظيم حتى يتمكن من ممارسة مقاومة فعالة ومؤثرة، كما كان الحال مع حزب الله في جنوب لبنان، ومع اليسار نفسه قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. ولأن برنامج المقاومة هو الشرعية الوحيدة الفاعلة التي يستند إليها هذا اليسار؛ فقد وجد اليسار المقاوم نفسه يتراجع إلى موقع ثانوي ضمن الاتجاه المتمسك بخيار المقاومة في الساحة الفلسطينية تاركاً قيادة هذا الاتجاه لحركة حماس.
لا يوجد عندي أدنى شك من أن اليسار الفلسطيني قادر على لملمة جمهوره وجسمه التنظيمي المترهل، وهو يستطيع أن يشكل قطب ثالث قوي ومؤثر ينافس بحق القطبين الآخرين، لكن ذلك مرتهن بعثوره على الحلقة المفقودة بين النظرية والممارسة، البرنامج والأداء. وأؤكد من جديد بأن الظرف الموضوعي الذي يعتبره البعض مجاف لليسار أراه مواتٍ ومناسب. ففي ظل استشراء الفساد في جسم السلطة، وحالة الفلتان الأمني وغياب القانون، وانتشار الفقر والبطالة. ولأن حركة حماس لا تمتلك حقيقةً البرنامج السياسي والاجتماعي لمواجهة كل ذلك، ناهيك عن عدم انسجام الجزء الأكبر من أبناء الشعب الفلسطيني مع تزمت حركة حماس العقائدي وتخلفها الاجتماعي، وعلى الرغم من أن شعبنا الفلسطيني هو شعب متدين بصفة عام، إلا أنه يميل بطبيعته إلى الاعتدال وعدم المغالاة في التدين. بسبب كل ذلك يصبح المجال رحباً أمام بروز تيار يساري ديموقراطي وطني قادر على كشف فساد السلطة ومحاربته بالوسائل الديموقراطية والتصدي لأدائها السياسي الهابط من جهة، ومن جهة أخرى الوقوف في وجه التيار الأصولي في محاولته مصادرة الدين واستغلاله للوصول إلى السلطة، والتعامل معه بصفته تيار سياسي بامتياز.
إن التيار الديمقراطي لن يكون مشروطاً بالوحدة الفكرية والتنظيمية، فهو بصيغته الائتلافية عبارة عن تحالف واسع ومتنوع –بالمعنى السياسي والتنظيمي- تنضوي تحته قوى وشخصيات ومؤسسات أهلية، قاسمها المشترك: الديموقراطية بتلازم شقيها السياسي والمجتمعي، ومقاومة الاحتلال. ومع أن المطلوب هو تحالف يحمل برنامج سياسي مقاوم وديمقراطي، إلا أنه يمكن أن يبنى تحالف للنضال في سبيل قضية واحدة مركزية. كما حدث في الغرب عندما تحالفت قوى سياسية ومجتمعية متنوعة المشارب، للنضال في سبيل قضايا معينة، مثل مناهضة العولمة أو نصرة الشعب الفلسطيني أو مناهضة الحرب على العراق ...الخ، مع أنها تختلف فيما بينها حول العديد من القضايا الأساسية. فالديموقراطية وحدها تصلح لأن تكون أساساً للتحالف، كما كانت مقاومة الاحتلال في تجارب سابقة أساس تحالفات عدة، سياسية وميدانية.
ولبدئ العمل من أجل تأسيس هذا التيار، لابد لكل القوى والأفراد الذين سيتشكل منهم، أن يستعدوا لتقديم تنازلات، والتجرد من خلافات الماضي التي هي في معظمها ذات طابع شخصي. "تبين التجربة في الغرب أن تأسيس تحالفات سياسية لمشاريع محددة و/أو مهام يعتبر أكثر واقعية من تشكيل أحزاب موحدة. وبشرط أن كل مشارك في التحالف واجب عليه أي يحدد بماذا يمكنه أن يضحي في سبيل ترسيخ هذا التحالف، وأن جميع المشاركين لديهم القدرة على الاحتفاظ بالوجه الفريد والمستقل".(6)
إن الانتخابات التشريعية الفلسطينية القادمة لها أهمية خاصة، وعلى ضوء نتائجها سيتشكل النظام السياسي الفلسطيني الجديد بعد مخاض طويل، والفشل فيها سيكون عالي الكلفة بالنسبة لليسار، لأنه سيصبح على هامش النظام السياسي في فترة حرجة وخطيرة من تاريخ الشعب الفلسطيني. لذلك لابد لليسار الفلسطيني أو للجزء الأكبر منه على الأقل، أن يعمل بشكل جاد على تجميع قواه، ومحاولة الالتفاف على الخلافات ذات الطابع المصلحي الضيق، والعمل على بناء قائمة يسارية وطنية موحدة تأتلف على أساس برنامج ديموقراطي سياسي واجتماعي. وأعتقد جازماً أن مثل هذه القائمة ستحصل على أصوات قطاع واسع من الجمهور الذي يرفض فساد السلطة وتزمت الإسلاميين. ولنا بتجربة تحالف الجبهة الشعبية مع المبادرة الوطنية وشخصيات يسارية مستقلة في انتخابات رئاسة السلطة خير مثل ودليل على ذلك، حيث حصل مرشح التحالف (مصطفى البرغوثي) على حوالي20% من الأصوات، وهي نسبة تفوق بكثير تلك التي يحصل عليها اليسار في استطلاعات الرأي، أو التي حصل عليها في الانتخابات المحلية التي خاضها بقوائم حزبية.



الهوامش
ـــــ
(1) سلامة كيلة، كتاب "مشكلات الماركسية في الوطن العربي"، دار التكوين، دمشق،2003م.
(2) محمد علي مقلد، كراس "اليسار بين الأنقاض والإنقاذ – قراءة نقدية من أجل تجديد اليسار"،
(3) المرجع السابق.
(4) د.عزمي بشارة، مقال "اليسار والديموقراطية..."، موقع عرب 48، 03/08/2005م.
(5) ندوة مستقبل قوى اليسار، غولتينوا – روسيا، 21/6/2003م.
(6) ندوة مستقبل قوى اليسار، غولتينوا – روسيا، 21/6/2003م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا