الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية – أقفاص الرمل (11)

حمودي زيارة

2015 / 5 / 14
الادب والفن


بينما كان عباس جالسا على كومة من انهيالات الرمل , فجأة تحركت انامل اصابعه منهمكة تبحث عن شئ في جيبه, وبعد برهة أطلت يده قابسة صرة صغيرة, نشر عباس الصرة في راحة يده اليسرى, أجهش بالنحيب والندم, ما ان وقع بصره على حفنة التراب التي هربها معه كذكرى من دروب مدينته, قربها الى فمه, لثمها باطناب, عفرها وجهه تخاله يتبرك بتراب مراقد الاولياء, لطعها بلسانه, شعر بخط ساخن يجس عارضه, زم شفتيه عله يحقن دموعه, ترك حفنة التراب في راحته, هام يندب ذراتها كيما تجلب خيالات مدينته, طفق يمور في نوبة من العذاب وبدأ يهرب الكلمات من وجع صمت شدقيه:
- ما بال الذكريات اما زالت تتبوء اعنان النخيل, وتتطلع الى الصحراء كلما بكيت واجتاح وجع الحنين شغاف القلب, وتحلق مع نسائم النهارات القائظة, وتوارب في افواه الازقة.
على همس ترنيماته التي افشاها الى حبات التراب, غادرت الشمس جدارية الافق, فتدرج المخيم يغرق في قاع الظلمة, الليل احيانا يمنح هدنة من الاوجاع ولكن في اغلب الاوقات ينكاْ مثارات الوجع, فالليل قافلة تدمن الضياع من دون نهاية للوجع. قفل عباس راجعا الى البيت بخطى تحركها رغبة هشة, الاشياء التي يضمها المخيم تتحول الى اشباح في سواد الظلمة.
وعلى كثب من البيت, شعر عباس بوجع حاد في امعائه الغليظة, حاول بمشقة ان يسارع الخطى ولكنه لم يستطع ان يقهر الوجع, وفور دخوله البيت, ذهب قاصدا خيمته, متفاديا عيون محمد وحسين, انتبذ عباس خيمته تلك الليلة, حاول ان يدس فكره في مخاض التوق, يقاسم الليل معاناته. الليل تبا فاْنه معزوفة اخرى لتواتر الحزن الذي لا يخمد اواره, الليل في المخيم وجود غريب يختلف تماما عن سخونة النهار ففي حلكة الليل الحزن يشتد ويغور حتى النطفة, بالرغم من التسولات التي ابتدعها الوجع لم يقدر عباس ان ينال لحظة من النوم لشدة الوجع, في اليوم التالي ركن عباس رأسه الشعث المترع بصديد الوجع, على اسياخ نيران الشمس تحت افياء خيمة تفوح برائحة الزيت, دون ان يبارح الخيمة, لم يطل عليه احد بعد, وبينما كان غارس نظراته شرعة الخيمة, اشرأب حسين, بادره عباس في الحال باْنه لم ينم ليلته من حدة الالم, وانه لا يستطيع ان يفرد قامته, ذهب حسين ورجع بالفطور, فما ان ازدرد عباس قليل من الخبز والجبن, فما لبث ان تقيْ, اهال حسين حالته, وبما ان عباس لا يستطيع المشي او يمشي باحتداب بطىْ, فضل حسين ان يحمل عباس على ظهره الى المستشفى, اجلسه قرب بوابة المخيم كيما يستأذن الحارس برؤية الطبيب, قرر الطبيب بأرسال عباس الى مستشفى المدينة على الفور لصعوبة حالته, رقد عباس ثلاثة ايام في المستشفى دون ان يتوصل الكادر الطبي لمعرفة نوع المرض, في اليوم الاخير اقبل طبيب مصري يلقب ب (الباشا) قال لعباس بعد ان استقرأ اوراقه الطبية:
- من المؤكد بان لديك التهاب في القولون يسبب تقلصات حادة, وتحتاج الى عملية, ومن اجل اجراء العملية عليك ان توقع هذه الورقة.
تم اجراء العملية في نفس اليوم, ورجع الى ربقات المخيم بعد بقائه ثلاثة ايام اخرى في مستشفى المدينة, انسل الى المخيم ما اْن حرر الحرس رتاج البوابة, استاف نتانة المخيم التي نادمها كالظل, عادت خطواته تشاجر رمال المعابر بحنو والفة, كونها الدروب النكرة التي اتسعت لخطواته طيلة ارتهانه.
في الغالب, كان عباس يرهن نفسه الوحدة, يميل الى التفرد بافكاره, يختلي نزوات هواجسه في خيمة صغيرة تكفي لتحمل عفونة جسده, تسورها مربعات طينية, وثقوب سادرة للفئران تنخر طين الزوايا.
***
كم كانت اوقات اعداد خمرة الطين وعمل قوالب مربعات الطين في برودة الشتاء الاخيرة شاقة وخطرة. حيث تشوهت غضارة الحياة, واكفهرت المسارب, وغاصت الخيام في لوثة من الرعب والحذر, وغار كل شيْ في ركود واستكانة, ريثما اوصد الحرس بوابة المخيم, واحاقت القطعات العسكرية اسوار المخيم, ومن فوق قامات الاسلاك راحت تشراْب ماسورات المدافع, وعيون مليئة بنظرات حاقدة, دام الحصار فترة طويلة قاربت الاسبوع من دون ان تداعب اسارير المخيم مركبة تنوء بمواد غذائية او على الاقل قاطرة للماء, الامر كان مسوغ ضاج في ترادف الاشاعات المرعبة. اقصاء المخيم الى العراق وتسليمه الى السلطة, او ربما قتل الجميع, الناس ترأت تدب على مساحة المخيم كالجرذان تبحث عن شئ يسد الرمق, البعض مال الى فتات الخبز اليابس الطافح بخربشات العفن الخضراء, وبقايا الخضروات المطلية بتقياْت العفن البيضاء, البرك الاسنة المصدر الوحيد للحصول على الماء... وذلك بعد اعقاب ضرم واطباق النيران على مبنى الاغاثة المقعى في وسط الجانب الشرقي من المخيم, اشعل لفيف من اللاجئين النار فيه بذريعة ان المبنى يدعو الى المكوث الدائم ويحول دون الانعتاق والخروج الى مباهج الحياة, وكون المبنى يضم عدد من الاقسام, الحرم الجامعي, المكتبة, القاعة الرياضية ونشاطات اخرى, العامل الانكى الذي اعتقد البعض باْنه سيجعل الخدر يدب في العظام, ويغتال فكرة الخلاص من الاذهان, مما سيصيب النسيان غلواء الخروج, وبالتالي جعل المخيم الماْوى الامثل عن مدنهم البعيدة التي احتفت تخدجات اعمارهم الغضة.
***
في اليوم الاخير من الحصار المقيت, والنتانة التي عرشت في اخاديد الرمل, وعند بواكير الصباح الباردة التي تعقد عادة الاجفان بنوم عميق, هرعت القطعات العسكرية الى منافذ المخيم تغذ السير بلهفة ماكرة, الدبابات في الريادة ومن ثم المركبات والمصفحات المجهزة بعتاد معركة, انهمك الجنود بالزحف, تتأرجح بنادقهم على مشاهد قسمات الحزن في الوجوه, وتطأ احذيتهم التي تأبى ان تخلع في محراب الرب رمال مسافات الخوف. اعلن اقتحام البيوت وخلع الابواب وركل الناس الى واجهات جدران البيوت وايقافهم وعيونهم تتفرس الحيطان... الضرب المبرح, الاذلال الفاجر اصبحت حكايات حزينة وطريفة في ارجاء المخيم, اعتقل الكثير, في العادة كان يرافق الجنود اشخاص تختبأ ملامحهم وراء نقاب يعمل من الشماغ بغية تشخيص المشتبه به الذي ربما اشترك في احراق المبنى. وما اْن طرقت اعقاب بنادقهم باب بيت عباس ومحمد وحسين, هرعوا الى الباب, اوقفوهم الى الحائط, وبدون ادنى سبب, فقد تركت ضربة شديدة وجع مبرح في رقبة عباس, وعندما حانت التفاتة من عباس الى الجندي الذي صفعه, فقد رأى نفس القسمات التي اورثها. تاْفف عباس عندما شعر بالالم, اْمروهم بالدخول الى البيت بعدما فتشوه.
***
من الحكايات التي انتشرت في باحات المخيم, ثمة خلية فتشت مرتين مما عذبوا مرتين, وخلية لم تفتش على الاطلاق.
وعلى اثر انقشاع اهوال الاقتحام, شعر الناس بارتياح مفرح, واغراء اخاذ, مما تولدت رغبة جديدة الى الحياة مرة اخرى. في اليوم التالي تسابقت المركبات الى المخيم حاملة الطعام والماء. عباس مازال كالمجنون يداعب الغاز حلمه الواثبة في خياله رغم مرور ردح من السنين الطوال على بقائه في الصحراء, والملمات التي عصفت به, ومازال ايضا في دفقة فرح غامر وأمل جامح بأنه سوف ينال وجوده بالخروج الى مدن بعيدة تبدأ ساعاتها الاولى على رائحة القهوة وتنتهي في الحانات. على دفقات برودة مثول الصباح, تناهت الى اسماع عباس صرخة حادة:
- قدم الماء.
قذف عباس بجسده الشاحب خارج الخيمة متناولا جلكان الماء, ركض الى حوض الماء كانت هناك مجموعة, وما اْن وضع الجلكان حتى نشب شجار محتدم, ومشادة وقحة, لاْن احدهم قد احتال في وضع جلكانه في دوره المناسب, تاْفف عباس واسر في نفسه.
- ستنتهي هذه الحكاية الثقيلة, حالما ينال الضجر الغائر في الاجساد مشواره في مدن اخرى.
وعبر رفات السنين ومقابر الايام التي مرت على المخيم, المتاعب والالام, اجتاحت الحياة في المخيم اْوبئة ونوائب اعادت ترتيب سلوك وقناعات معظم الناس، وذلك من اجل اْن تنسجم مع الوباء الذي تفشى في طيات المخيم جراء مزيج الاعراف، مما خلفت مفارقات ادت الى صراع مزمن نتج عنه التحلل الى طبقات عديدة, طبقة الرهبان كانت الطبقة السائدة, طبقة الضد ومن ثم الطبقات الاخرى لذا اعتاد المخيم ان يلعق جراحه دون اْن يبالي احد به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض