الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بولس – 16 – بولس والنص اليهودي

حسن محسن رمضان

2015 / 5 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



(لو أن كاتب الرسائل [يقصد بولس ورسائله المقدسة الآن] درس اليونانية لما كتبها بهذا الأسلوب اليوناني الركيك)
وِل ديورانت – تاريخ الحضارة، ضمن مقدمته عن بولس


سوف أستمر في هذه الجزئية من السلسلة في نقد استخدام بولس للنص اليهودي المقدس لصالح معتقداته. فهو، كما أصبح واضحاً من المقالات السابقة، لا يتورع إطلاقاً في (تزوير) النص المقدس اليهودي، واقتطاعه من سياقه، وتبديل كلماته، والتلاعب في معانيه المباشرة لصالح أفكاره، وهو ما يفسر، بدرجة كبيرة جداً، حالة العداء التي واجهها، وواجهتها المسيحية، من اليهود على الخصوص. فاليهود، الفريسيين [رابانيين] والصدوقيين والكتبة، كانوا يعرفون تمام المعرفة أن تلك الاستشهادات التي يستشهد بها بولس، والأمميون المسيحيون من بعده، عليهم هي، على أحسن الأحوال، تصل إلى حد (السخافة) [ملاحظة: تلك الكلمة الأخيرة ليست من عندي، هي كذلك في المصادر الدينية اليهودية وبتلك الصفة يصفونها]. فبما أن التأثير الوثني الروماني شديد الوضوح على عقائد بولس وعلى كتبة الأناجيل من بعده وخصوصاً كتبة إنجيل يوحنا، وبما أن هؤلاء "الرابانيون" اليهود يعرفون نصوصهم المقدسة، ولغتهم الأم ومعاني ألفاظها، أفضل من غيرهم، وبما أن المسيحية في نظر هؤلاء اليهود ليست إلا "فرقة" هرطوقية وثنية "تدعي" صلتها باليهودية، فإن التراث اليهودي الديني حمل هجوماً لاذعاً، على قلته لأسباب سنعرفها في الفقرة التالية، على المسيحية وعقائدها لبيان عوارها وتزويرها لنصوصهم المقدسة واجتزاء معانيها. إلا أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام فيما يخص معرفتنا بهذا التراث اليهودي القديم المناهض للمسيحية:

ألن سيغال (Alan F. Segal) [توفي 2011]، بروفيسور الديانات والدراسات اليهودية في كلية برنارد (Barnard College)، وفي كتابه الشهير عن الصراع اليهودي – المسيحي في العصر الروماني (Rebecca s Children) قد اشتكى بأن الكتابات الرابانية اليهودية الناقدة لنشوء المسيحية وعقائدها واستخدامها للنص المقدس اليهودي قد جرى (تصفيتها تماماً) بواسطة المسيحيون، وخصوصاً خلال القرون الوسطى، في كل مناطق نفوذهم. كما جرى إعدام مصادر ثانوية يهودية أخرى عن المسيحية لتختفي من الوجود تماماً ولن تعرف البشرية عنها شيء. إلا أنه أضاف بأن ما نعرفه عن النقد الراباني اليهودي للمسيحية ونشوئها هو فقط ما كان متداولاً بين اليهود في (الدول العربية) حيث لم تتعرض المصادر اليهودية في تلك الدول لحملات التصفية التي تعرضت لها في الدول المسيحية. ولذلك، ولتلك الأسباب، ما نعرفه عن النقد اليهودي القديم لنشوء المسيحية وشخصية إلهها يسوع وتلامذته وبولس هو قليل جداً، وذلك بسبب (تعمد إتلاف وإعدام وحرق ومصادرة ومراقبة المسيحيون للمصادر اليهودية وكتاباتها عبر العصور). إنها (الحماية المقدسة للخديعة)، وبكل وسيلة ممكنة لصالح هذا الغرض بالذات، كذا هي الحقيقة وبكل بساطة. يعرض بعدها البروفيسور سيغال نماذج من هذا النقد اليهودي، إلا أن أهمها هو مدى تأثير الفلسفة اليونانية (الوثنية) على الأناجيل، وخصوصاً إنجيل يوحنا في استخدامه للفظ (الكلمة) (Logos) وتطور عقيدة (التثليث) على مدى أربعة قرون لاحقة بعد مقتل يسوع. هذا كله، وغيره، لم يخدع اليهود، ولذلك (لم يؤمنوا)، وليس كما يقول العهد الجديد بأن عدم إيمانهم بسبب (غلاظة قلوبهم)(!!!)، فالأمر أكثر تعقيداً من هذا التفسير المُخل بالحقيقة بكثير. هذا مثال أدناه على مدى (التحايل) على معاني النصوص اليهودية في اللاهوت المسيحي، وهو السبب الحقيق للرفض اليهودي لهذا الإله الجديد: يسوع.

في الرسالة إلى العبرانيين المنسوبة إلى بولس [كاتبها مجهول في الحقيقة]، يستمر هذا المنهج المثير لعلامات الاستفهام والدهشة عند بولس [ولو أن كاتب الرسالة ليس بولس بالتأكيد، ولكن بعض الكنائس تصر على أنه هو، ولذلك سوف استخدم الإشارة لبولس على أنه الكاتب لتلك الرسالة مجهولة المصدر تماشياً مع العقيدة المسيحية فيها]. إذ في سبيل اقناعهم بأن يسوع هو "ابن الله" وأنه (هو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الاشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الاعالي، صائراً اعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم) [الرسالة إلى العبرانيين 1: 3-4]، نراه يكتب لهم الآتي كدليل من نصوص العهد القديم، نصوص اليهود المقدسة، على كل هذه الصفات التي أعطاها ليسوع الناصري وأسبغها عليه:

(لأنه لِمَنْ مِنَ الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟ وأيضاً: أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً؟)
[الرسالة إلى العبرانيين 1: 5]

فهو يستدل بهذين الاقتباسين من العهد القديم، أمام هؤلاء غير المطلعين بالتأكيد على النصوص العبرية المقدسة، على أحقية يسوع بتلك الصفات التي أسبغها عليه. إلا أن هناك مشكلة خطيرة، وكاتب الرسالة كان بالتأكيد واعٍ لها وعارف تماماً لمدى مناقضاتها لما يقوله عن يسوع، (وسكت عنها عمداً). سوف نتجاوز عن المشكلة في الجزء الأول من النص أعلاه حتى لا تطول المقال، ونركز انتباهنا على المشكلة في الجزء الأخير من استدلاله، وتحديداً في: (أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً). إذ هذه العبارة هي اقتباس من سفر صموئيل الثاني، وهي بتمامها هكذا:

(هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً، إنْ تَعَوّجَ أؤدبهُ بقضيب الناس وبضربات بني آدم)
[صموئيل الثاني 7: 13-14]

فإله العهد القديم هنا يقول عن هذا (الملك) الذي سيبني بيت لهذا الإله [اقرأ الأصحاح السابع بتمامه، وستعرف مَنْ المقصود بالاقتباس المسيحي لنص العهد القديم مباشرة حتى من دون حتى إكمال هذه المقالة] بأنه إن (تعوّج)، أي (اقترف خطيئة أو إثماً)، فإن هذا الإله اليهودي، يهوه، سيؤدبه، لاحظ: (سيؤدبه). وبماذا سيؤدبه؟ الجواب: (بعصا الناس وبضرباتهم). فهل هذا الاقتباس، إذا قرأناه بتمامه من دون اجتزاء كالذي فعله كاتب الرسالة إلى العبرانيين، يتكلم عن (إله) كما قال لهؤلاء المساكين مِنْ أتباعه؟!

بولس، أو كاتب الرسالة أياً كان، كان يعرف ذلك قطعاً، ولذلك (تعمد اجتزاء النص ووقف عنده دون إكماله بتمامه)، وهو في حالة اطمئنان بأن مَنْ كتبه لأجلهم، أي الجمهور المُستهدف بهذه الرسالة، (لن يعرف الحقيقة ولن يتأكد من الاقتباس بعده). وهذا، وغيره من الأدلة الكثيرة، يعطينا واقع حال المؤمنين المسيحيين الأوائل ومستواهم المعرفي والثقافي. وهذا الاجتزاء المُخل المخادع هو ما تبناه المنطق المسيحي في الاستدلال من بعده، (إذ لا توجد إشكالية منطقية في اللاهوت المسيحي في اجتزاء النصوص من سياقها لإخراجها من المقصود الحقيقي منها)، وذلك لصالح القناعة المسيحية في يسوع، وهذا ما ضربنا عليه أمثلة متعددة في المقالات السابقة. هذا المنهج الانتقائي البحت، غير المنطقي، يكرره بولس في مواضع أخرى كثيرة في رسائله. فمثلاً، في رسالة بولس إلى أهل رومية، وفي محاولة بولس لإقناعهم بترك الناموس، نراه يكتب لهم:

(الناموس يُنشئُ غضباً)
[رسالة بولس إلى أهل رومية 4: 15]

بينما نفس النصوص التي يستخدمها بولس مع هؤلاء الأميين، غير المطلعين إطلاقاً على النص العبري المقدس، لإقناعهم بدينه وإلهه الجديدين تقول العكس تماماً. إذ مزامير داود، نفس المزامير التي يستخدمها المسيحيون لإثبات عقائدهم، تقول صراحة:

(ناموس الرب كاملٌ، يردُّ النَّفسَ)
[مزامير 19: 7]

وبولس يعرف ذلك، ولكنه يصمت. إلا أن (الفريسيين، والصدوقيين، والكتبة) يعرفون ذلك، ولم يصمتوا. هل عرفت الآن سبب هذا العداء المسيحي (الشامل العام الذي لا يستثني أحد) من رجال الدين اليهود والذي نقرأه في الأناجيل والرسائل واللاهوت؟


.... يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحقيق رائع ونقد أروع
عبود ( 2015 / 5 / 16 - 23:15 )
أشكر الكاتب كما أشكر النقّاد اليهود على إظهار حقيقة المسيحية وحقيقة بولس.

اخر الافلام

.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي


.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل




.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل