الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قتامة الصورة وألم السخرية في -طائر القصب - *

يوسف علوان

2015 / 5 / 17
الادب والفن


المجموعة القصصية التي سنتحدث عنها تدخل في إطار ما يسمى بالسرد القائم على السخرية السوداء، هذا النوع من الكتابة الأدبية التي تعتبر بحق من الصعوبة ، لما تحتاج إليه من تقنيات عالية، وأدوات لغوية وبلاغية كبيرة، تساعد في نقل الواقع المبكي بأسلوب ساخر لا يخلو من البكاء الخفي على ما وصلت اليه الأمور من طمس للحقيقة التي نعيشها، وفي اكثر الاحيان يتطلب لمن يشرع في كتابة هذا الاسلوب، أن يجمع بين الكوميديا والتراجيديا في قالب واحد متناغم ومتلائم لاوجود فيه للتناقض والارتباك، و معروف ان هذا الاسلوب، يلجأ اليه الكثير من الكتاب، لكشف الجوانب المختلة والمريضة في المجتمع، حيث يجتهد الأديب في رصد هذه الاختلالات وهذه الأمراض الاجتماعية بأسلوب ساخر. وهذه الكتابة تهدف إلى إحداث ردة فعل وخلخلة في نفسية القارئ، عن طريق الصدمة التي يحدثها العمل القصصي ويدفعه عبر خيوط هذا العمل وطريقة تطريز جمله القصصية وشخصياته المتقلبة بتقلب الأحداث للدخول في لعبة القص، لكي يصبح عنصرا متورطا في تحديد الرؤية إلى العالم، ومشاركا بشكل مباشرفي البحث عن الحلول الممكنة لعلاج هذا الخلل، وقد جهد الكاتب كامل الدلفي في مجموعته "طائر القصب" لإحداث هذا التأثير على المتلقي لمعالجة الحالة التي وصل المجتمع لها بعد 2003 وما حدث ويحدث الآن من قتل وترويع ومشاهد يقف العقل عاجزاً عن ايجاد تفسير منطقي لها!
يغلب على هذه المجموعة القصصية - التي لم يحدد كاتبها جنسها بل ثبت على غلافها الاول كلمة "قصص" فقط – تسمية قصص قصيرة جداً، وهذا التجنيس مفهوما اصطلاحيا يهدف إلى تصنيف الإبداعات الأدبية حسب مجموعة من المعايير والمقولات التنميطية، وغالبا ما يتمظهر ذلك بشكل جلي في عتبة التجنيس التي تتربع في وسط صفحة الغلاف الخارجي من الكتاب. ولا اعلم لماذا أهمل الكاتب هذه الناحية التي تعد ضرورة بين المبدع والمتلقي. ليهتدي المتلقي إلى التعامل مع العمل على هدي ذلك التجنيس الذي أقره المبدع، فيعتبره رواية او قصة قصيرة او قصة قصيرة جدا. وهذا يسعفنا في فهم الأعمال الأدبية وتأويلها وتقويمها، ويساعدنا على تصنيف النصوص وتجنيسها. وهي التي تعين أفق القارئ أثناء التعامل مع النصوص والأعمال الفنية.
وقد قسمت المجموعة الى اربعة فصول، الاول "عبق الضفاف" حوت 35 قصة قصيرة جداً. بينما الفصل الثاني "الطلق" اشتمل على 20 قصة قصيرة جداً. أما "حديقة الذكرى" فكان عنوان الفصل الثالث بـ 11 قصة قصيرة جداً. واما الفصل الأخير؛ الرابع فكان عنوانه "النفاس" وضم 18 قصة قصيرة جداً. ومع ان اكثر قصص هذا الفصل كان حجمها كبيراً بالنسبة لقصص الفصول السابقة لكنها، برأيي، لم تكن سوى قصص قصيرة جداً، حملت مقومات هذا الجنس الذي حدد البعض حجم هذا الجنس بـ500 كلمة وهي لم تزد على ذلك، ومثلما يحدد الباحث والناقد المغربي الدكتور جميل حمداوي مقومات هذا الجنس: بـ"الحجم القصير جدا، والتكثيف، والاقتضاب، والقصصية، وفعلية الجملة، وتراكب الجمل، والتنكير، والحذف، والإضمار، وانتقاء الأوصاف، وإرباك المتلقي، وطرح الأسئلة الكبيرة على الرغم من الحجم القصير جدا". فإننا نجد أن اغلب هذه المقومات والاشتراطات الفنية في قصص الفصل الرابع "النفاس" موجودة ومتوفرة، ولذلك نتساءل ما المانع الذي وقف حائلا بين تسمية هذه المجموعة بهذا الجنس الأدبي الجديد في غلاف المجموعة؟ وقد اشرت جميع قصص هذه المجموعة وجعاً في واقعنا الذي نعيشه الان، وهذا ما سيلاحظه القارئ عند قراءتها، لكن لا اخفي ان اجمل تلك القصص هي التي كانت في فصل المجموعة الأخير!
رغم كل ما مر به العراق من ويلات وحروب داخلية؛ وقتل على الهوية وعلى القومية وعلى المزاج! غير ان العراق لا زال قائماً نابتاً في الحاضر، كما هو في الماضي، مثلما تصور لنا القصة الاولى في المجموعة والتي تحمل اسم (جلجامش): "القوى العظمى تريدُ له أن يموتَ ، فهو يستفزُها بابتسامتهِ الكونيةِ ، التي تعيدُهُ إلى الوقوفِ في طابور الخبزِ، عقبَ كلّ شهادة وفاةٍ تحررها العواصمُ العتيدة" ص11. ويسخر الكاتب في قصة أخرى تتحدث عن الذين يستخدمون الدين وسيلة لتحقيق مآربهم وهم بعيدين كل البعد عن الدين. من خلال هذا التساؤل المر الذي ينهي به هذه القصة: "سألَ شيخَهُ : هل إن الله راضٍ عما نفعل يا سيدي ؟ - طبعا ... ألا ترى إننا نخبئ أسلحتنا في بيته ؟". وهذه السخرية والخوف ليس حكراً على العراقيين فقط فهم؛ (المحتلون) انتقل الخوف اليهم ايضاً؛ فالجدة مارتينا تحذر: "لا تشعلوا أعواد الثقاب في المنزل.. حين يعود جون من الحرب في العراق، فقد صار جنودنا هناك.. يعيشون بقلوب نفطية!" (ص24)، لكن خوفنا فاقهم كثيراً؛ "ترك النوم وقاوم النعاس، خوفاً من أن يموت في حلم مفخخ" (ص25). والأدهى من ذلك ان الكائنات الصغيرة تشاركنا الخوف على حياتها! فهذا جرذ يشكو لجاره "- الحياة اصبحت لا تطاق، وأفكر جدياً بالهجرة من المدينة، فهؤلاء القساة ذبحوا بالأمس صاحب منزلنا"... فيجيبه صاحبه مؤكدا ما ذهب اليه: "أصبت مساء أمس بجرح بالغ في ظهري ، حين رمى صاحب منزلنا سكيناً تقطر دماً في البالوعة فأصابتني في مقتل كما ترى!" ص31.
في اغلب قصص هذا الفصل نجد مقومات هذا الجنس واضحة: فالتكثيف والاقتضاب والحذف بيّنة فيها: "ما نفعُ المرآةِ ، كلما نظر فيها يرى نفس الوجه؟ ما ذنب المرآةِ ، يكسرها كل يوم؟" (ص 34).

في الفصل الثاني كبر حجم القصص وزاد عدد كلماتها لكنها لم تزل تحتفظ بمقومات القصة القصيرة جدا، ففي (أحلام ليست إلا) ستجد القصصية، وفعلية الجملة وتراكبها قد أعطت لهذه القصة القدرة على طرح الاسئلة الكبيرة، رجلان يكتملان ببعضهما، بمظاهر يومية ينسجانها لقتل الوقت الثقيل. كلب صغير تدحرج بين رجليهما مثل كرة بنية يلهث وينبح ببطء يعاكس نبضات قلبه المتسارعة، السعادة تأتي من توفر عواملها الباعثة، والفراغ يضيق بتراكم عناصر الوجود الواقعي فيقررا ان يتقاسما ملكية الجرو ويتعاقبا الدور في تدجينه وتربيته وغذائه.
"يوم لك يوم لي لك لي، كلما تأخرت الحرب كبر الكلب وكان يعوي في الليل فتأتي الجنازات و العويل". ثم رسمت القصة صورة مثقلة بالألم، مصورةً لنا كيف يتحول الانسان بسبب تخلفه وتعصبه الى كتلة من كراهية لايفقه من حياته سوى بغض الآخر حتى تضمحل انسانيته ويتحول الى وحش، كل منهما يحلم بنهاية مروعة للآخر: "بينما كان الكلب يحلم أن لديه جروين صغيرين يرغب بهما ان يكونا طفلين سويين". هنا ينجح القاص الى إرباك المتلقي وخلق صورة غير متوقعة للحدث، فهنا الكلب يبحث عن الاسوياء بعد ان اصبح الانسان بعيد عن آدميته! (ص 49).

إن أهمية أي نص إبداعي تكمن في قدرته على توليد الأثر المهم في حقيقته، ودلالته عبر قراءته بما يدعو لعوامل الإيجاب في الحياة، محرضا على مقاومة الشر ودحض أدواته من أجل إحلال قيم الخير والنبل والمحبة، بدل القطيعة والعنف والعدوان. وهذا الحديث يقودنا للبحث عن النسق الذي يشكله هذا العمل الأدبي، فالعمل الفني العميق يجذبنا نحو نقطه نستطيع من خلالها؛ رؤية عدد هائل من الصور ذات الدلالة القيمية متجمعة، متمثلة في قدرة الكاتب على إقناع قرّائه بأن ما يقرؤونه هو قريب عن واقعهم. لكن عليه ان يقدّم هذا الواقع بشكل مختلف، خاصة وأن كلّ الناس يعرفون واقعهم، ولكن الكاتب يقدّم إليهم ذلك الواقع نفسه مضافاً إليه عمل المخيلة؛ لكي يكون مقبولاً قريباً على ما يتمناه القارئ. ومن المعلوم أن الواقع يمكن تصوره بصورٍ أخرى، غير الصور التي اعتدنا مشاهدتها له، صوراً رمزية او غرائبية لكنها تؤدي الوظيفة التي يروم الكاتب ايصالها الى قارئه المعني: ففي (ص95) يصور لنا القاص معاناة شخص في حلم يرى نفسه فيه قد تحول الى سحلية (ابو بريص) بينما كان ابو بريص يكمن قرب قاعدة المصباح ينظر بتركيز شديد الى الرجل، غارقا في حلمه للتحول الى جسد بشري كالذي يراه أمامه. هش الرجل بيده نحو السحلية المقرفة، فيتحرك ابو بريص الى خلف قاعدة المصباح صارفاً النظر عن فكرة الحلم كلياً.. "حرك الانسان شرشفه ليستر به عريه وينهي حكاية حلم مثير للقرف المتبادل"!
وفي قصة (يوميات قميص) التي تتكلم عن يوميات قميص في سوق الملابس القديمة، لم يسعفه الحظ ليشتريه شخص ما، بسبب فقدان هذا القميص لازراره، فيظل بعيداً عن اهتمام المشترين الذين يقلبونه كل يوم غير انهم يرمونه بلا اكتراث حتى "انحدرت منزلته من واحد بألف الى الى أثنين الى عشرة بألف" (ص113) ثم يرمى على الرصيف مع اكوام الملابس التي لا تصلح الا للمسح.. "عشرات الاحذية تتقدم منه كل صباح فينزوي هاربا الى الاطراف البعيدة".
ومع ان احداث هذه القصة بعيدة عن الواقع، لكن الكاتب اراد بهذه الصورة التجلي عن الواقع واخبارنا عن احساس الشخص المهمل في وسطه، حتى لو كان قميص بدون أزرار، فخلق له خليل؛ ورقةٌ من مجلة فقدت غلافها، أتعبها التناص والتقمص والرياء، مثلما اخبرته، غير ان هذه الاشياء التي حركها الكاتب ومنحها الحياة والمشاعر: "واقعنا يبدو ابدياً فلا حاجة بنا للذكريات... فلا احد يمتلك صلاحيتنا في مراقبة العالم من اسفل". هذا الامتياز الذي منح (القميص والمجلة) متعة! غير انهم رغم هذا الواقع الدوني الذي هم فيه اختلفا كما يختلف البشر فـ"تباعدا، تشاجرا، تخاصما...".. إذاً هذه السخرية التي وظفها الكاتب في كل جوانب الحياة، أراد بها ان يبين ان الواقع الذي نعيشه لا يختلف عن مجموعة الصور التي رسمها لنا باسلوب ولغة شفافة رغم سخريتها وهزئها من كثير مما يعانيه الناس في حياتهم التي يتحملون جزءاً من عبثيتها وسوداويتها! اجاد الكاتب في الكثير من هذه القصص من خلال السخرية اللاذعة التي انهى بها قصصه، او من خلال السرد الذي جعل السخرية أداة لانتقاد الحاضر الذي نعيشه، كذلك امتلك الكاتب لغة رائعة في رسم هذه الصور الساخرة الشبيهة بالكاريكاتير الذي يحمل بين تفاصيله الضاحكة لوعة ألم وصرخة وجع!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "طائر القصب" مجموعة قصصية / دار ومكتبة عدنان /








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81