الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية – أقفاص الرمل (12)

حمودي زيارة

2015 / 5 / 17
الادب والفن


الافق خلع ملاءة الاحتشام والاستكانة, وشرعت كواته تتفتق عن انفاس عاتية تنذر بوقع قدوم ثيران سلمانكا الهادرة الى حلبات المخيم الهرم... الريح اخذت تنسل من ربقات اوتاد الخدر وتشتد بازدراد الافق يشوبها زعيق مختلط باصوات سقوط الجدران, وعويل اخبية الخيام النائسة من جلدات شراسة اندفاع دفقات العاصفة, والدروب تجلت خاوية فقد عزفت عنها الخطوات, نثارات الرمل ملئت الفضاء, الرمل يدمن بشغف الرحيل مع العواصف, تواصلت زوابع وحماقات الرمل لفترة طويلة انتهت قبل حلول الظلام. في اعقاب انتهاء العاصفة بدقائق قليلة... ناءت مسارب الهواء بصرخة مرعبة, هرع عباس الى جهة الصرخة التي دوت بعناد في رحاب البيت, وما ان رسم الخطوة الاخيرة حتى وجد جمع هائل يتدافع على ابواب الحمامات. استطاع عباس ان يشق طريقه الى داخل الحمامات بعد معالجات عدة, وحالما رفع بصره شاهد جثمان حسين يتدلى دونما حركة, من الحبل الذي يقبض على رقبته باصرار, معقود الى قضيب في سقف الحمامات. رجع عباس الى الخيمة يساجم الدمع وخطرات الالم. حسين شوهد في الاونة الاخيرة في قلق واضطراب وعزوفه عن محادثة الاخرين والاعتكاف مع نفسه, وعدم الاهتمام بتادية واجبه في البيت. اغلب الظن بانه عجز عن مهادنة تقافز الايام في نواصي دروب المخيم, رغم تشبثه بالرمل وعقده الامل بحباته وطرحه لسنواته على كثبانه ومساومته بعمره الغض, فاخذ يواظب بمداهنة الحزن في متاهات الخيام وفي اتون الصحراء, وانكب يتطلع كالابله الى ايادي البدو وهي تلقي له الطعام بسذاجة قذرة. تنازل حسين عن قريته العائمة في الهور, الواسنة على رفيف اجنحة الطيور, الغاسلة رمقها في ابخرة الضباب. ورهن نفسه الى كيان يفتقر الى هوية مقعى بغباء في تيه الرمل. قاوم حسين كل سطوات الليل والقدر الذي يتوسد فوهات البنادق من اجل ان يحوز على رشفة من كروم الحياة وان كانت ضئيلة. لم تكن لدى حسين رغبة شديدة بالهروب من قريته ولكن عندما نعى الهور اخر رصاصة في احراشه اللفاء, عندها قرر عبور الحدود والبحث عن مأوى لاحلامه, هذا ما أخبر به عباس... وعلى سراب هجير الصحراء, حمل جثمان حسين الى مكان مخصص لجثث اللاجئين.
***
الانتحار اصبح امرا مألوفا في دهاليز المخيم, وبالذات حينما يزف وقت حلول العاصفة, والحمامات المنصة الامثل ان لم تستطع ان تحتال على هاجس الياس والقرف, قتل حسين الحياة فيه وعبر حدود الرمل الفاجر حاملا تضوعات قريته, تاركا في ذاكرة الدروب والاصدقاء طيبه الفاغم. محمد بكى حسين بمرارة, ونوبات من العذاب التي تمزق اعماق الذات, اما عباس تحول الى ايقونة دميمة تجانب محمد لساعات طويلة مترعة بالكمد والنحيب والملامة لانهما لم يشعرا بالالم الذي كان يجتاح اوقات حسين. في يوم صائف ينضح لسعات حارقة من ثقوب نهاراته, كان عباس معتكفا مع وجوم وحدته بتبتل اخاذ يصيخ السمع الى افكاره التي تنز كالغيوم في تجاعيد دماغه, وكأنه في محاولة لأقناع عريكته على الاصرار بقبض جمرة صبره, هكذا كان دأبه منذ علقت خلجاته في اشباك المخيم, وقليل من العزاء لنوبات الامه فقط من اجل ان ينشر جلده اشرعة على قارب الحلم, ويمنح الليل سذاجته, واذا بصوت عابر يلكز الانتباه.
- الصق الوفد الامريكي قوائم الاسماء.
تنبه عباس على وقع الخبر, فتناهى في باله كرعشة صوفية رغبة متمردة بان يحصل على دوره كالاخرين في هذة القوائم البلهاء, وتحت فضاء خيمته, وجدرانها الطينية التي اصبحت اقبية للجرذان والهوام, تمتم عباس أسرا لنفسه.
- هل من الممكن ان احظى على عطف الحياة, واركب قارب جدائل الشمس, وافر من هذه الخيمة المتداعية التي تشبعت برائحة جسدي (صرخ كالمجنون) تبا فانه منال عسير.
حاول عباس في تلك الليلة ان يخلد الى النوم, فلم ينل على اغفاءة, لذا دفع بدماغه بعد ان اعياه عناده الى تهاويم احلام الخلاص, وتبعات الخروج, وطالما كان عباس يجاذب نفسه الحديث بتوسل لمرات عديدة.
- هل من المعقول ان يكون اسمي البائس مع قوائم الوفد, واتحرر من بطش الذاكرة, ونصال الاحزان, واضع خطواتي على دروب تداعبها ندف الثلج (وبخشوع) ربما امي قد بكت في اضرحة الائمة من اجلي كيما اغتسل يباب القلب في برك الرحيق.
في اليوم التالي, افاق عباس على اصوات مظاهرة, بعد ان قضى ليلته على طنافس الاحلام يتأمل ان تهربه انوار القمر العالقة في كبد السماء معها الى الوديان المطيرة, الاصوات تاتي من بعيد بعض الشئ, هاتفة بالغاء نواميس الرمل, وعدم الانصياع الى رخام مسلات الملك, يشوبها مزيج اخر من الاصوات التي لا تكاد ان تسمع. خرج عباس مسرعا بعد ان غسل وجهه, واصلح من هندامه, غار في امواج الحشود, ومن فوق الاكتاف تستطيع ان ترى لافتات عديدة وشعارات تعاف حماقة الزمن, وتلعن العبث, وعندما اقتربت المظاهرة من بوابة المخيم, ثمة جنود سارعوا باغلاق البوابة, وقد سددوا فوهات بنادقهم الغضبى مباشرة الى الصدور. جلس المتظاهرون ازاء البوابة بمسافة ليست بقريبة, بهدوء مبالغ من دون ان تصدر ولو كلمة. اتفقوا على ان يرسلوا طفلا صغيرا, لم يتجاوز عمره بعد سن الرابعة, كدلالة واضحة تضمر رغبة بالسلام. وضعوا في طراوة يديه البضة وثيقة تتضمن عدد من المطالب تدعو بايجاد الحلول السريعة للخروج من هذا التيه, والمطالبة بالاجتماع مع مسؤول مفوضية الامم المتحدة, وما أن تأرجحت خطوات الطفل الهشة على دقاق الرمل, واذا بتلويحات ساخطة من بنادق الجنود تأمر ان يرجع الطفل والوثيقة معا, زعق الجميع بالامتعاض والحنق, هتفوا بشعارات ثائرة ضد صومعة الملك, وطعنوا الهواء باعواد اللافتات, ولكن دون جدوى, وبانكسار فاجع, لملموا اللافتات والغضب وعاودوا الرجوع الى الحزن من جديد.
همس عباس بشجن.
- حملت اساطير من الوجع لوطن غرق بجراحه, سرقه المهرجون من خارطته, وادار المنقذ بنادقه الى صدره (وبصوت خفيض).
- احمل حلم صغير تعهدته منذ الطفولة , ولكن الاسلاك مازالت تتبختر بغرورها.
بقى عباس لدقائق اخرى وثم قفل الى خيمته ليعاقر قرينه الحزن, يتناهبه شعور بالضياع والانتقام من رمال الشرق. ذهب النهار نصفه ومازال عباس يضطجع في فراشه يستمع الى المذياع, وبصوت حريف.
- عباس اذهب الى الحوض واجلب الماء.
رد عباس وكانه استيقظ للتو من نومه.
- ساذهب حالا.
رد محمد بامتعاض.
- تعسا لها من حياة, كم كسول هذا الانسان, واي قدر قاهر جعله يترك مدينته.
الايام تمر سادرة وثقيلة في دروب المخيم, الجاثية في مدارات الاسلاك, من دون ان تجلب البتة مواسم مفعمة برائحة الفرح وحياة غدقة بالغبطة كالجزر الكاريبية, الخيام تبدو كالاجداث, وعباس كرفات جثة تاوي الى قبرها في اوقات الوجع وتطفلات الحزن, دونما امل ينز في شفير الافق, او ربما كارثة تفترس المخيم فتتركه رميم من دون ذكرى.


***
في بداية السنة الخامسة, من رحلته التي انتهت في رمال الاجداد, نال عباس على القبول للذهاب الى امريكا, وفي بدايات موعد السفر الى اصقاع تعوم في مدنها كالفراشات, ابتاع عباس بعض من الملابس, وحمل صوره, وذرف الكثير من الدموع. لم يفرد الفرح بالذهاب الى مدن خالية من السجون اساريره, فالحزن الناشب في قرارة روحه اعتى من ان يهزمه الفرح, فقد اهرقت احداقه دموعا دون ان تلوح على اشداقه رسيس بسمة, بدد ليلته قبل سفره بعد ان ناءت جفونه طلاوة النوم بالاسى والتالم, في الصباح احتشد عباس مع المسافرين من اجل ان تقلهم الباصات الى مطار محلي وبالتالي شحنهم الى الرياض... من شدة الم الفراق الذي يقبض على قلب عباس, تحرن في مكانه وكان قدميه تأبى ان تغادر ذكريات دروب المخيم... عندئذ دفعه احد اصدقائه الى جوف الباص. اوقات السفر كانت شاقة وحزينة على عباس, لانه وجوه اصدقائه سوف تغيب ربما الى الابد, وليس بمقدور القدر اعادتها ان نازعته الذكرى. من خلف زجاج النافذة, غمرت محاجر عباس دموع غدقة, وهو يتطلع الى اصدقائه الذين شهدوا كل عذاباته وافراحه وحماقاته واسراره, والمخيم , بيته وعنوانه, ورفات ايامه المدفونة في جدران خيمته, وعلى انحدار دموعه نبس عباس بانفاس مبهورة.
- ياللسخرية, نتلقى الافراح بالرثاء والندب, ولا نبالي باحتراق شموعه, فالحزن تربصنا منذ زمن بعيد يمتد الى متاهة الضياع وقتما اجتاح الجراد جرار الرحيق.
حز ذهول عباس هتاف ينادي عليه, لا يعرف جهته, جال عباس ببصره, فالتقطت نظراته محمد صديقه الرسام, حاول عباس ان يشراْب بعنقه, ولكن استطاع محمد ان يتشبث بحافة النافذة, ولثم عباس للمرة الاخيرة, اغرى وخز الوجع دموع عباس على الاستدرار, وصدى من اعماق افكاره يردد...
- هرب بنا الزمن الدميم بعيدا ولم يسنح لنا بلحظة نمرغ بها العيون في امكنة الالم في الوطن.
استوفز الباص يطارد سراب الرمال التي تردم الافق الغائر في حرائق الشمس, الوجوه اخذت تعوم في جوف الباص بذهول وخوف لما سيكون من مصيرها في المدن التي تمتد كالخرافة خلف سراة الافق...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا