الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضد الذات أو في مديح المواطنة

شادي كسحو

2015 / 5 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقع السؤال عن المواطنة في قلب السؤال عن الانسان نفسه، ليس الانسان في خامويته الأولى عندما كان لا يزال كائناً محضاً يشتق وجوده من غيره، وإنما عن الانسان في أقصى درجات تفتحه وتشخصنه واستقلاله الذاتي، أي في أكثر أشكال وجوده انفتاحاً واشراقاً وتواصلاً.
نقيس عبر المواطنة درجات وعينا بالعالم، ونستقصي أشكال الانتماء التي تخصنا، ونشف عن عيوبنا ونكشف عن خصالنا، ونفصح عن علاقات الاتصال والانفصال التي بحوزتنا، ونمتحن عبر المواطنة أخيراً موقعنا الروحي على سلم البشرية؛ موقعنا الذي نطل من خلاله على أنفسنا وعلى الآخرين على حد سواء.
تاريخياً، لم تكن المواطنة ممكنة قبل ميلاد الدولة الحديثة التي قامت في الأساس على الاعتراف بأن هذه الكيان – أقصد الدولة - ما كان ليوجد أصلاً، إلا من الإنسان ولأجله وهو ما يعني بدوره إلغاء النظام الغائي للوجود، و تنصيب الإنسان سيداً على وجوده وسيداً على عالمه وسيداً على تاريخه ومستقبله.
وهذا يعني أيضاً، أن المواطنة إنما تأسست بالأصل من أجل أن يشتق المجتمع، أي مجتمع، وجوده من ذاته، وأن يتأمل نفسه من الداخل بوصفه مجتمعاً حراً لا مرجع له سوى ذاته، وهكذا تكون المواطنة نوعاً من التحرر من أي سلطة أو أبوة خارجية سواءً أكانت دينية أم غير دينية ، إنها نوع من الجذرية السياسية والاجتماعية، التي لا تجد مصدرها الحصري إلا في الإنسان و الإنسان نفسه.
على النقيض من التشويه الحقوقي والاعلامي لهذا المفهوم، فإن المواطنة ليست تجميعاً عشوائياً لمجموعات أو أشخاص تعيش معاً استناداً إلى لغة واحدة أو عقيدة واحدة أو تاريخ مشترك، وإنما هي بالأحرى الشوط الأخير في وعي الذات لذاتها. لكن وعي الذات لذاتها لا يعني بأن الآخر – على تعدده واختلافه – قد اصبح وجوداً برانياً أو اعتباطياً نلتقي معه بشكل قسري، وإنما أصبح مقاماً من مقامات الذات ذاتها، فالذات لا تصل إلى مرحلة الوعي بذاتها، مادام الاخر لا يثوي في صلب ماهيتها، أو أنه لا يشكل اكتمالها وتمام نضوجها.
على أن المواطنة لا يمكن أن تكون ذات مضمون تاريخي، إلا إذا امتلكت القدرة على ما سأسميه بـ "التماسف" distancenation. ليس التماسف بمعناه التأويلي – أي ترك مسافة بين القارىء والنص - ، وإنما التماسف بمعناه الانطولوجي بما هو امتلاك القدرة على ترك مسافة تفصلنا عن الأنا، وعن الملة، وعن العرق والقومية، إنه القدرة على أن ننجح في التحرر من أوهامنا عن أنفسنا، أي في التحرر من فهمنا الخاص لأنفسنا وللآخرين، ذاك الذي مازلنا نصر عليه بيأس غريب و مضحك.
لأكون دقيقاً: إن الهدف البعيد للمواطنة، هو بناء هوية مجتمعية "غير تمثيلية" بمعنى أنها غير مُؤسسة على عجز أو خوف أو عدم قدرة الآخر من تمثيل نفسه، و هنا تبدو المجتمعات، مطالَبة بأن تعيد إنتاج مقولاتها النظرية، واستراتيجياتها العملية، بحيث تغدو عبارة عن كيان لا هو إسلامي و لا هو علماني و لا هو أي شيء آخر، بل هو نوع خاص من " الهجنة " القائمة على التعدد واحترام الاختلاف.
لكن الهجنة التي أقترحها هنا، ليست كارثة وجودية أو أخلاقية - كما يفسرها عبدة النقاء - أي أنها ليست بحثاً عن هوية أو هويات مشوّهة اجتماعياً، بل هي "عقد اجتماعي ومدني" لملاقاة الآخرين والتفاعل معهم إلى أقصى حد، فهي تستمد ماهيتها من إرادة فهم، ومن إرادة وجود ،أي من إصرارها على فهم الذات الفردية والاجتماعية، بوصفها فتحاً مستمراً للحدود، وخرقاً دائماً لتعالي الأنا، والانخراط في تجربة حياتية، انطلاقا من وعي متحرر من التشابه والتماثل والتطابق.
إن المواطنة وفق هذا المنظور، ليست مجرد استحقاق قانوني أو دستوري كما يشاع اعلامياً، وإنما هي موقف حيوي ناتج عن إرادة وطن وإرادة وجود و إرادة حرية، لا تملك الوسائل الكفيلة لوجودها، لكنها تُصر على أن تسرد أمام نفسها دوماً شيئاً من قصص الانفتاح والمشاركة والالتقاء، ومن ثم فهي إرادة ضرورية ، لها أفكارها الموجبة، ولكن "الصعبة"، و لذلك فهي ليست موضوعة سياسية و لا فكرة تاريخية ولا استعارة غربية، بل هي أفق استراتيجي لسياسة المجتمعات و سياسة الوجود والتواجد فيها.
ومعنى ذلك أن المواطنة ليست ترفاً سياسياً، أو مجرد يوتوبيا لمجتمع متخيل، بل هي تدبير جديد للانتماء و سياسية جديدة لخطاب الهوية، - يقع قبل وبعد المسخ الحقوقي والقانوني لهذا المفهوم - يتحول فيه خطاب الهوية، من خطاب مغلق قائم على مقولتي النقاء و الصفاء، إلى خطاب مفتوح يُترك فيه لكل واحد من عناصر المجتمع بالتميز، و يُسمح فيه لكل التفرّدات بنصيبها في الوجود.
إن المواطنة وفق هذا الفهم، هي نمط موجب من الإقامة في العالم، يقع خارج حدود الهويات الثابتة و خارج حدود الاثنيات المغلقة، و خارج حدود الايديولوجيات المقدسة، حيث يبدو أن الشيء الوحيد القادر على احتوائنا هو المواطنة ذاتها، وكأني بالهدف الأخير للمواطنة، هو بلورة وجود بلا مركز، ومجتمع بلا نواة، تمثل فيه كل طائفة وكل جماعة وكل فرد، المجتمع كله، تماماً كما تمثل كل شجرة في الغابة، الغابة ذاتها.
أعرف أن بيننا وبين المواطنة ما صنع الحداد، لكنني لا أقول: إن المواطنة سهلة أو يسيرة، بل أقول: إنها ممكنة.
وبالمحصلة فإن المواطنة، سردية جديدة للمجتمعات، وحكاية لابد من قصّها على الذات، حكاية تروم من هذه الذات، أن لا تقتنع بما هو محلي و خصوصي، من فرط رغبتها في أن تكون كونية وعالمية.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة