الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يكون الإرهاب وسيلة لرفع الإنتاج!

علاء مهدي
(Ala Mahdi)

2015 / 5 / 20
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كان جالساً على رأس طاولة الإجتماعات في غرفة مجلس إدارة الشركة ، يراقبنا ونحن ندخل الغرفة واحداً تلو الآخر. وعلى الرغم من محاولته التظاهر بالهدوء إلا انه كان مرتبكاً بعض الشيء أو هكذا بدا لي. جلسنا حول الطاولة المستطيلة الشكل التي تغطي سطحها زجاجة سميكة من قطعة واحدة. حاولت أن اهرب من قلقي بسبب دعوة المدير العام الجديد السريعة لمعاونيه وكافة مدراء الأقسام للإجتماع الفوري في غرفة مجلس الإدارة بالتفكير في الطريقة التي تمكنوا بها من إيصال قطعة الزجاج الضخمة عبر سلالم وممرات ضيقة لتوضع على هذه الطاولة الضخمة في الطابق الثالث من تلك البناية العتيقة. منذ أن باشر بوظيفته الجديدة مديرا عاما ، رأيته لمرتين ، لم تكونا كافيتين لمعرفة الكثير عنه. سمعنا أنه قد عاد للعراق بعد سنوات طويلة قضاها خارج العراق للدراسة ، وانه قد حصل على هذا المركز تكريماً لمواقف سابقة له لم نتعرف عليها. كل شيء كان مبهماً في تلك الفترة.
قال: أرحب بكم في هذا اللقاء ، وأود أن أخبركم بان إسبوعاً واحدا فقط يفصلنا عن مناقشة ورقة عمل وزارة التجارة ومؤسساتها والشركات التابعة لها، إلى "ندوة رفع الانتاجية". وبما أنني – كما تعلمون – حديث عهد بالعمل في هذه الشركة ، و أن الرئاسة على علم بذلك (مؤشرا بيده إلى صورة صدام حسين المعلقة على الحائط خلفه)، لذلك أرجو من معاوني المدير العام ومدراء الأقسام التابعين لهم المباشرة بإعداد ورقة عمل شركتنا التي ستعرض في الندوة للمناقشة . ثم أستطرد قائلاً: طبعاً سيتولى المعاونون الإجابة على أية إستفسارات قد تطرح من قبل المسؤولين ، ببساطة لأنني جديد في هذه الشركة. ثم نهض وخرج من القاعة ترافقه نظراتنا مستغربين من قلة المعلومات التي منحت لنا مقابل قوة الحدث وخطورته.
في الطريق لمكتبي في بناية الحسابات عبر شارع الرشيد ، أستعرضت ماشاهدته من حلقات بثت عبر تلفزيون بغداد عن ندوات (رفع الإنتاجية) أو هكذا كانت تسمى حيث تم توجيه تهم مباشرة بالتقصير المتعمد في مهام وظيفية لمدراء عامين ورؤساء مؤسسات في شركات شبه رسمية وتم الحكم عليهم بالسجن أو بالإعدام بسبب ذلك دون الإحالة إلى المحاكم المختصة وإنما بقرارات شخصية ، الأمر الذي بسط حالة من الرعب الشديد لدى موظفي القطاع العام. على أية حال ، ناقشت الموضوع مع مديري المباشر " مدير الحسابات الأقدم " وهي درجة بمستوى درجة معاون مدير عام لكنها أرفع بسبب مهنيتها وأهميتها ، فأتفقنا على خطة لإعداد ورقة العمل الخاصة بالشركة من قبلنا بعد الطلب من بقية الأقسام لتزويدنا بأرواق عمل مديرياتها خلال نفس الفترة الزمنية التي تغطيها ورقة العمل. وفعلاً بدأت بقية الأقسام بإرسال تقاريرها التي قمت وبمعيتي عدد من الموظفين الأكفاء بتفريغ المعلومات وإعادة تبويبها تحت بنود تخصصية ضمن عمل الشركة ، مثال ذلك ، الإستيراد والمخازن ، التسويق والفروع ، الحسابات والمالية ، وهكذا. وبعد الإنتهاء من إعداد ورقة العمل بصيغتها النهائية تم إعتمادها من قبل المدير العام ومعاونيه ، وبقينا بإنتظار موعد إنعقاد الندوة.
بعد أقل من إسبوع تم تبليغنا بموعد الندوة الخاصة بوزارة التجارة وكان حضور كافة موظفي الشركة لهذه الندوة إجبارياً.
كان مكان إنعقاد الندوة في غرفة تجارة بغداد بشارع النهر وهو شارع مشهور بوسط مدينة بغداد مواز لشارع الرشيد ، الشارع الرئيس في العاصمة. كان المكان قريبا من بناية شركتنا ، لذا ذهبت مع مديري المباشر وأحد مدراء الأقسام الآخرين مشياً على الأقدام. كان مديري خائفا حد الرعب من الحدث كونه المرشح الأول للإجابة على اية أسئلة موجهة للشركة أو بمعنى أدق ، أية تهم موجهة للشركة عن أدائها خاصة وأننا كنا نعلم بأن أغلب الأسئلة كانت تعد من قبل مستشارين إقتصاديين وماليين مصريين تم تعيينهم لهذا الغرض وهم يعدون أسئلتهم إعتماداً على ميزانية الشركة وحساباتها الختامية لسنتين معينتين.
الداخل للقاعة يشعر برهبة وخوف كبيرين خاصة وأن اعدادا كبيرة من افراد مديرية الامن العامة والجهات الأمنية الأخرى من مخابرات وإستخبارات وغيرهم كان حضورهم واضحاً خاصة وأن تواجدهم كان في كل ممر وزاوية حتى أن كثرتهم اشعرتنا بأنهم قد خصصوا رجل أمن لمراقبة كل واحد منا. كانت مظاهر الخوف واضحة على وجوه الحضور. كنت أحمل عدة ملفات تتضمن مستندات مهمة كان من المحتمل أن نحتاجها في الإجابة على الإستفسارات أو بمعنى أصح (الإتهامات) على الرغم من أننا لم نكن على علم بماهيتها. دقق رجال الأمن الحقيبة التي كنت أحمل الملفات فيها وسمحوا لنا بالدخول والجلوس في داخل القاعة. بدأ توافد المشاركين فأمتلأت القاعة بغضون فترة قصيرة. بعدها جلست لجنة مشكلة من مدراء عامين في شركات تابعة للمؤسسة التجارية التي كانت شركتنا تابعة لها. حضر وزير التجارة وبقية المسؤولين وأفتتحت الندوة بكلمة من لجنة إدارة الندوة التي قوطعت فجأة بسبب من مجيء صدام حسين وبمعيته حماية يفوق عددها كل رجالات الأمن الذين كانوا متواجدين في القاعة أصلاً. أتخذ مكانه في مقدمة القاعة بين وزير التجارة ورئيس المؤسسة وأحتل مرافقوه الرئيسيون (الذين أعدمهم فيما بعد) اماكنهم خلفه ، فيما توزع عدد كبير آخر منهم حول القاعة مشخصين نظراتهم الثاقبة والمخيفة على كل حركة من الحضور حتى بتنا نخاف النظر جانبا او حتى التململ في مكاننا.
وبعد أن انتهت لجنة إدارة الندوة من تلاوة كلمة الإفتتاح التي تحولت لمديح معتاد للقادة والحزب والثورة، أعلنت أن الشركة الأولى التي سيتم مناقشة ورقة عملها هي الشركة العراقية التجارية والتي كان أسمها قبل قرارات التأميم "الشركة الأفريقية العراقية" ولم تعلن عن ترتيب باقي الشركات في مناقشة أوراق عملها. نودي على مدير عام الشركة لإلقاء كلمته ، كان مرتبكاً ، بدا وكأنه يترنح وهو على مسرح القاعة ، علمنا فيما بعد أنه كان مصاباً بسرطان الدم (اللوكيميا) ، لذا تم إعفاؤه من إكمال الكلمة تحسباً من أن ينهار على المسرح ويتسبب في حصول أحراجات خاصة وأن البث التلفزيوني كان مباشرا في تلك الأيام. نودي على مدير الحسابات الأقدم وكالة في الشركة ، أتخذ مكانه أمام الحضور ، كان قصير القامة ، تجاوز العقد السادس من عمره. ربما كنت الوحيد الذي يعرفه فقد حدث أن كلفت بالمساعدة في إكمال ميزانيات تلك الشركة المتأخرة لثلاث سنوات حيث أنتدبت لتلك المهمة. لقد وجدته من أكفأ المحاسبين الذين عملت معهم في حياتي العملية وقد تعلمت منه الكثير على الرغم من أنني أحمل شهادة جامعية بتفوق في مجال المحاسبة في حين أن شهادته لاتتعدى تعلم القراءة والكتب في دير ديني تمت معادلتها بالشهادة الإبتدائية لكنه أكتسب خبرة كبيرة من خلال العمل في دوائر الدولة وشركاتها شبه الرسمية ولهذا السبب لم يسمح له قانون نقابة المحاسبين والمدققين العراقيين بتبوأ المركز الوظيفي أصالة.
سألته لجنة إدارة الندوة أن يقدم نفسه. قال: اسمي "إسرائيل هرمز". وأنتظر. ساد هدوء مخيف على القاعة والحضور. ثم سمعنا صدام يوجه له سؤالاً : شكثر عدكم بطحيات بالمخازن؟ (والبطحية هي مجمدة تفتح بابها إلى الأعلى وكانت منتشرة في العراق).
أجاب بصوت مرتجف: مائة بطحية. صدام: عجل ليش ماتبيعوها؟
إسرائيل: لأنها خزين إستراتيجي سيدي. صدام: ليش هي تِمنْ (رز)؟
إسرائيل: لا سيدي بس ربما يحتاجها القصر. صدام: القصر من يحتاج يدز طيارة للكويت ويجيبها.
ثم ساد هدوء. بحركة ملحوظة ، رفع صدام ورقة كانت بيده لتمس كتفه. نهض مرافقه الأقدم الذي كان يجلس خلفه. وقف أما الحضور وأدى التحية العسكرية ثم خرج من باب القاعة الذي يقع على يمين المسرح ، ليدخل أثنان من الحماية من الباب الذي يقع على يسار المسرح ، ويصعدوا إلى المسرح ، ويقتادوا إسرائيل هرمز إلى المجهول. (سمعت أنه قد أطلق سراحه بعد فترة ولم يعد لوظيفته).
بعدها تم دعوة مدير عام شركتنا لإلقاء كلمة الشركة ، والتي جاءت قصيرة ، أشار فيها إلى حداثته في الشركة بعد أن طلبت لجنة إدارة الندوة من معاوني المدير العام الصعود للمنصة حيث تليت عليهم الأسئلة – الإتهامات والتي جاء أغلبها تصب في الجانب المالي والمحاسبي.
لتلطيف الجو أذكر أن زميلاً لنا كان يجلس في الجانب الآخر من مدير الحسابات الأقدم ، همس بإذنه قائلاً: استاذ ، أنا متأكد بأنهم لو نادوا بأسمك فأنك أما ستذهب للمنصة بدون بنطال أو ان بنطالك سيسبقك لهم. قالها بعد أن لاحظ مدى الرعب الذي عاشه صاحبنا وهو يرى زميله إسرائيل يقتاد لخارج القاعة بتلك الصورة المهينة.
صعد أربعة معاونين للمدير العام ، تحدث الأول مجيباً على سؤال يتعلق بالإستيراد ، بعدها – قفز – مديري ماسكاً بقوة بعمود المذياع بيده اليمني مما أحدث صوتاً في القاعة بسبب تحرك المذياع بقوة ، وكان يحمل مجموعة غير متناسقة من الأوراق بيده اليسرى ، وردد بلكنة مصلاوية غير مفهومة بسبب من الإنفعال والتشنج قائلاً : شركات التأمين كانت تعطينا طوب لكنها وقفت تعطينا اليوم. ثم سكت ولم يتمكن من الحديث بعدها. كنت متأكداً من أن شيئا من هذا القبيل سيحدث ، كان يقصد القول ان تعويضات شركات التأمين عن المكاسير والتالف من الأدوات الزجاجية والفرفورية كانت بشكل دفعات إجمالية تقديرية وليس على أساس جرد القطع التالفة والمكسورة لكنها توقفت عن ذلك مما أظهر أن نسبة التالف أكثر من المتوقع عملياً.
فجأة أعلن أحد أعضاء لجنة إدارة الندوة بأنني سأجيب على السؤال أو أية أسئلة أخرى وهو أمر فاجأني وأصابني برعب. سألت زميلي أن كان ماسمعت صحيحاً فأيد ذلك. مشيت بخطوات ثقيلة نحو المنصة ، شعرت بأن هنالك من يدفعني بكلتا يديه للصعود على منصة الإعدام ربما. . . طلبت من إدارة الندوة أن تعيد قراءة السؤال ففعلت. كان السؤال يتضمن مقارنة بين رقمي التالف من الزجاجيات في ميزانية الشركة بين سنتين 1975 و 1976 حيث كان الرقم اقل بكثير في العام 75 مقارنة بالعام 76. قلت: اولاً ، ان العام 75 كان لتسعة شهور فقط في حين أن العام 76 هو سنة كاملة وذلك بسبب إعتبار السنة المالية معادلة للسنة التقويمية أعتبارا من 1 كانون الثاني 1976 وبذلك لو تم تقسيم الرقم على تسعة شهور وضرب الناتج بـ 12 شهرا لوجدنا أن هنالك تقاربا في الرقم بين السنتين. من ناحية أخرى ، أزدادت نسبة التالف بسبب من تقليل الإستيراد من الصين وتركيا والإتحاد السوفيتي والإتجاه لتسويق منتجات معمل زجاج الرمادي الذي كانت نسبة التلف فيه كبيرة بسبب من سوء التغليف وسوء النقل اليدوي للبضائع من قبل العامل العراقي. ثم سكتُ.
نظر إلي ثم نهض فنهض معه الجميع ، وتوجه نحو الخارج تودعه الهتافات والتصفيق.

(كتبت هذه المقالة بقصد الإشارة الى طبيعة الرعب والظلم الذي كنا نعيشه في العقود الثلاثة التي سبقت إحتلال العراق ، وهذا لايعني البتة أن الحالة التي يعيشها العراقيون قد تحسنت بعد الإحتلال إنما أزدادت سوءً خاصة بعد تطبيق المحاصصة الطائفية التي هي ثمرة سيئة من مخلفات عهود مختلفة ومتخلفة).

-;--;--;-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر