الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراهن العراقي: السياق الواقعي والأسئلة المحيّرة

سعد محمد رحيم

2015 / 5 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


المقولة التي يصدر بها محمد حسنين هيكل الجزء الأول من كتابه ( بين السياسة والصحافة ) هي لمؤسس صحيفة النيويورك تايمز آرثر سالزبورجر، ومنها:
"أعطِ أيّ إنسان معلومات صحيحة ثم اتركه وشأنه، تجعله معرضاً للخطأ في رأيه ربما لبعض الوقت، ولكن فرصة الصواب تظل في يده إلى الأبد.
احجب المعلومات الصحيحة عن أي إنسان أو قدّمها إليه مشوّهة أو ناقصة أو محشوّة بالدعاية والزيف ـ تدمِّر كل جهاز تفكيره ـ وتنزل به إلى ما دون مستوى الإنسان".
تحضرني هذه الكلمات كلما أقرأ أو أسمع هذا السيل المتباين والمتناقض من الآراء والأفكار في مسائل السياسة التي تخص واقعنا العراقي الحالي.. الآراء والأفكار التي يدلي بها، أو يفصح عنها، الساسة والمراقبون والمحللون والمهتمون من المثقفين عبر وسائل النشر والإعلام المختلفة. وفي الغالب بنبرة واثقة ويقينية تُسفِّه كل ما عداها، أو في الأقل تعدّها قاصرة وخاطئة، إن لم تتهم أصحابها بالغباء..
نعرف أن الآراء والأحكام وعمليات التقويم والنقد تُبنى على معطيات واقعية، نخضعها للقراءة والتحليل. وهذه المعطيات بعضها ظاهر واضح، وبعضها ملتبس، وبعضها مستتر، وهي في النهاية، متحركة متبدلة، غير ثابتة. وحين يكون حجم الملتبس والمستتر أكبر من حجم الظاهر الواضح فإن احتمال الخطل والخطأ والضلال يكون كبيراً بالمقابل، حتى مع افتراضنا حسن النية، والسعي للموضوعية وإبراز الحقيقة، عند من يتصدى لعمليات القراءة والتحليل والتقويم.
هناك من يتكلم أو يكتب وكأنه وحده من أمسك بتلابيب الواقع وتمثّله وفهمه وأعطى حوله رأياً تقويمياً صحيحاً بالإطلاق لا يأتية الباطل من فوق أو من تحت. وهذا هو الوهم المبين. فما نعتقده معلومات صحيحة موثوقة قد لا يعدو كونها افتراضات أو تكهنات أو شائعات قد تنطوي على شيء من الحيققة لكنها ليست الحقيقة كلها، و لعلها ليست نصف الحقيقة كذلك. وهذا برأيي ما يغلق أمامنا باب الحوار، أو يجعله وكأنه يدور بين طرشان.
أحياناً تكون المعلومات متاحة ومع ذلك تتعثر قراءاتنا، يضيع منا السبيل، ونخطئ الهدف، إما بسبب تحيزاتنا المسبقة، أو لأننا نعطي الأهمية لمعلومة لا تستحق، على حساب أخرى أكثر تأثيراً. أو لأننا نسهو، من غير قصد، عن تفصيل هامشي له فاعلية عالية في العمق، أو لأن المنهج الذي نستخدمه قاصر وغير ملائم.. الخ. أما الشيء الذي لا يقل أهمية عما ذكرنا فهو طرح الأسئلة الصحيحة وتوقيت هذا الطرح.. الأسئلة التي تتعلق بالمعطيات على الأرض وحركة الواقع والقوى المؤثرة فيه واتجاهات الأحداث..
إن الاتجاه العام، الغائي، للفكر السياسي هو التنبؤ بما يمكن أن يحصل.. الفكر السياسي الذي يُعنى بالمستقبل، هو نظرية احتمالات، وترجيح احتمال معين على ما عداه بناءً على معطيات ملموسة.. ولذا التنبؤ ليس رجماً بالغيب، فلكي يكون واقعياً، ومعقولاً، وممكن الحدوث يجب أن يستند إلى فرشة ضرورية وكافية من المعلومات.. فهل ترانا نمتلك مثل هذه الفرشة الضرورية والكافية التي تعيننا على التنبؤ بمستقبلنا؟.
تزدحم أذهاننا بالأسئلة حالما نفكر بالوضع العراقي في راهنه العسير المتقلب، وهي أسئلة مقلقة ومربكة ومحيّرة في آنٍ معاً.. تتعلق، لا بحدث سياسي عابر، وإنما بمصير الأمة والدولة العراقيتين ومستقبلهما. وما يزيد الأمر صعوبة هو أن ما يجري في العراق، الآن، لم يعد شأناً عراقياً خالصاً، ولا حتى شأناً إقليمياً محدوداً، وإذن لم يعد العراقيون وحدهم من يمتلكون مفاتيح الإجابات والحلول الخاصة بتلكم الأسئلة والمشكلات. ونحن لا نأتي بجديد بتأكيدنا أن أول خطوة لفهم أي حادثة أو ظاهرة أو حالة سياسية، وفي بالنا الوضع العراقي الآن، بطبيعة الحال، هي في وضعها في سياقها التاريخي الواقعي السياسي الصحيح، أي في إطارها الزماني المكاني، وتشخيص القوى المؤثرة فيها، ودرجات هذا التأثير، والمتغيرات الناجمة عنها، وهذا ما لا يتحقق، للأسف، عند كثر من الدارسين والمحللين والكتّاب. وشخصياً أعزو هذا الأمر، بالدرجة الأولى، فضلاً عمَا ذكرناه عن قصور الرؤية والمنهج والتحيزات المسبقة، إلى نقص المعلومات.
المصدر الرئيس للمعلومات لهؤلاء، في معظم الأحايين، هو قنوات الإعلام المختلفة، وهي كما نعرف، تضخ في كل يوم سيلاً مهولاً من الأخبار المتنافرة والمتناقضة، التي تشوش أكثر مما تمنح الوضوح. ولا تكاد تؤسس لذاكرة رصينة يعتد بها. حتى بات من الصعب جداً أن يقع المرء على مصادر للمعلومات موثوقة، وكافية، يمكن، بالاستناد إليها، إنشاء تصور عن الوضع/ الواقع يقترب من الحقيقة. وعموماً أن عمليات التحليل السياسي الموسعة، المستندة إلى مساحة واسعة من المعلومات، باتت خارج مقدور شخص واحد، مهما أوتي من عبقرية، فالأمر يتطلب عملاً مؤسسياً له خبراؤه، وباحثوه، ومحللوه، ومصادره، وأرشيفه، وبرنامجه، ومنهجه، ومنشوراته. فهل لدينا اليوم مثل هذه المؤسسة الفعالة، المحكمة، والمستقلة مالياً وفكرياً؟
لا يمكن حصر الأسئلة الموجهة لاهتماماتنا البحثية بهذا الصدد في مقالة قصيرة، ولكن ما يهم، في البدء، هو تحديد السياق الذي نضع فيه الموضوعة/ المشكلة العراقية الراهنة، في مستوياتها الثلاثة ( المحلي، الإقليمي، الدولي).
اكتسب الشرق الأوسط، منذ قرون عديدة، ولاسيما بعد ازدهار التجارة العالمية، ونشوء الرأسمالية، أهمية كبيرة، حتى صارت اليوم، بمثابة رقعة شطرنج مثيرة تتبارى لتحريك قواها وتحكم جهات عديدة بها. وفي الإطار العام، فالمنطقة جزء من المجال الحيوي للعبة النظام الرأسمالي، في طور تغوّله العولمي.. هنا تبرز ثلاث حقائق يعطيها ذلك النظام، بإدارات دوله الكبرى، الأولوية، وهو يضغط اقتصادياً وسياسياً على حكومات دول المنطقة ومعارضيها، ويمارس دوره في اتخاذ القرارات تحت يافطة المنظمات الدولية أو من غيرها، ويحرّك أساطيله العسكرية.. وبرأيي المتواضع يمكن حصر تلكم الحقائق في:
1ـ النفط: ضمان تدفقه إلى الأسواق العالمية وتحديد سعره بما يناسب مصالح الشركات والدول الرأسمالية، قبل أي شيء آخر.
2ـ إسرائيل: الحفاظ على أمنها وتفوقها على دول المحيط، اقتصادياً، عسكرياً، وسياسياً.
3ـ إبقاء المنطقة سوقاً استهلاكية واسعة لا للبضائع التقليدية المصنعة في الدول الرأسمالية وحسب وإنما لمنتجاتها من الأسلحة بالمقام الأول.. وازدهار سوق السلاح يتطلب منطقياً اندلاع صراعات وحروب، أو إشعار دول ومجتمعات المنطقة بأنها تحت طائلة التهديد.
وإقليمياً ( وكذلك محلياً ) فإن المنطقة جزء من السوق الرأسمالية العالمية، ومن منظومة علاقاتها، ولذا فإن دولها لا تتمتع باستقلال سياسي واقتصادي راسخين. فيما يتنازع بعضها مع بعض، لاسيما الكبيرة منها، على دور إقليمي أوسع، ومن أجل الحصول على مساحات إضافية من النفوذ، مما يجعلها في حالة دائمة من التوتر في علاقاتها في ما بينها، تُلجئها لخوض صراعات باردة وساخنة أو بالنيابة، نقول هذا وفي بالنا، في الأقل ( تركيا وإيران والسعودية ).
لا نستطيع قراءة الحدث العراقي، بنسيان هذين السياقين الموّارين بالمواجهات والصراعات والتناقضات والتوافقات والتحالفات والتناحرات، الخ.. وإذن كم نمتلك من المعلومات بهذا الصدد، وإلى أي حد هي صحيحة، أو كافية لبناء قناعات موضوعية عن حالنا، وكيف تتبدل الحقائق/ المعلومات في معادلة صراع المصالح، ومتى ولماذا؟ وما هي اتجاهات ذلك الصراع؟
كان حدث 2003 ( سقوط نظام صدام واحتلال العراق ) فاصلة خطيرة في تاريخنا. وإذا كان من العبث أن نفكر بمنطق لو أن ما جرى، منذ ذلك الوقت، قد جرى بطريقة أخرى لكان أفضل، فإننا لا نستطيع أن نهرب من السؤال؛ لماذا اتخذت الأحداث هذا المسار الكارثي؟ ومن المسؤول الأول عنه؟ أهو الإدارة الأمريكية حقاً بسياستها وبرامجها وتوقيتاتها، أم هم الساسة العراقيون بتشرذمهم، وفساد بعضهم، وعدم أهلية بعضهم الآخر لأداء مهامهم؟. هل تعمدت الإدارة الأمريكية في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، أم أنها أخطأت؟
أسئلة تقود إلى أخرى، وتصبح محيّرة أكثر حين ننظر إلى واقع تمدد الإرهاب، بهذا الشكل المخيف؟ هل داعش صناعة أمريكية 100%، أم أنه ولد بمساعدتها، أو في الأقل بغضِّها الطرف عنه، لتستخدمه أداة ضغط وتغيير في الجغرافية السياسية للمنطقة؟. ما مقدار تأثير وطبيعة أدوار دول الجوار في هذا؟. ما هو المدى المسموح به، أمريكياً، لداعش أن ينتشر، ومتى ستتدخل جدياً لقلب صورة الراهن؟ وما الثمن الذي سيُدفع، من قبلنا، دماً وعذابات وثروات وفرصاً، حتى ذلك الحين؟ وكيف ستكون خريطة المنطقة بعد عقد من الزمان، أو أقل من ذلك، أو أكثر؟
شخصياً أشك أن هناك من يمتلك إجابات جازمة، وصحيحة تماماً، عن هذه الأسئلة، وغيرها كثير، والتي تهمّ حاضرنا ومستقبلنا. وهذا لا يعني بأية حال الركون إلى اليأس، بل محاولة البحث والاستقصاء، وتعميق الحوار بين النخب، في إطر مؤسسية فعالة، لتؤدي هذه النخب دوراً ضاغطاً، ولو بالحد الأدنى، في مسار الحدث العراقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مساعدات بملياري دولار للسودان خلال مؤتمر باريس.. ودعوات لوقف


.. العثور على حقيبة أحد التلاميذ الذين حاصرتهم السيول الجارفة ب




.. كيربي: إيران هُزمت ولم تحقق أهدافها وإسرائيل والتحالف دمروا


.. الاحتلال يستهدف 3 بينهم طفلان بمُسيرة بالنصيرات في غزة




.. تفاصيل محاولة اغتيال سلمان رشدي