الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القناع والشخصية الروائية

فلاح رحيم

2015 / 5 / 28
الادب والفن


سأنتهي إلى مناقشة خلاف نقدي طريف حول منهج فيودور دستيوفسكي في رسم شخصياته الروائية. لكني أبدأ من أبرز مظاهر جناية الشعر على الرواية في ثقافتنا العراقية الحديثة، وأعني به ضمور الشخصية الروائية وشحوبها. وأصل المشكلة، كما أرى، يكمن في الاختلاف الدقيق بين مفهوم القناع الذي شغل النقد العربي للشعر ردحاً طويلاً ومفهوم الشخصية الروائية. يؤكد النقاد المهتمون بمفهوم القناع أنه محاولة الشاعر عبر شخصية تاريخية أو أسطورية إلى التعبير عن قلقه أو مُثله أو استكشاف منظوراته المتناقضة دون أن يضطر إلى تبنّيها بصوته الخاص.
الشخصية الروائية تحتفظ بالمقابل باستقلال أكبر عن ذات الروائي وتمتاز بتجذرها في الواقع، فهي تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة، وتنشط في بنية اجتماعية متطورة ومعقدة، ولها دوافع مختلطة يصعب اختزالها، وتتفاعل مع عدة شخصيات أخرى في خضم تجارب يومية أو متخيلة وثيقة الصلة بالوجود الاجتماعي. يبدو هذا التعريف للشخصية الروائية أقرب إلى مفهوم الشخصية الدائرية (مقابل المسطحة) لدى إ. م. فورستر، لكن معظم أنماط الرواية التي استقرت في المعتمد العام للأدب العالمي تلتزم به إلى هذا الحد أو ذاك. ذلك أن الواقعية في تصوير الشخصية الروائية ليست خياراً يمكن تبنيه أو الاستغناء عنه دون التفريط بهوية الانتماء إلى هذا الفن (دعاة اللاواقعية والواقع البديل دمجوا الأجناس الأدبية وصاروا يتكلمون عن النص بديلاً عن الرواية، فهنيئاً لهم!). ليس المقصود بالواقعية هنا الحركة الأدبية التي ازدهرت في أواسط القرن التاسع عشر في أوربا، بل الواقعية بوصفها نمطاً متواتراً في مختلف مراحل الأدب وأشكاله يخرج بالأديب من مختبره التجريبي الشاحب ويتجه به إلى تمثيل الحياة الإنسانية وتجاربها عبر وسيلة الأدب (وهي بذلك تشمل روائياً مثل فرانز كافكا).
تبقى مشكلة العلاقة بين الشخص والقناع والشخصية الروائية مصدر التباس وخلافات نقدية متشعبة. ولكي أشخص جذر الشحوب الذي يمكن أن تصاب به الشخصية الروائية سأتوقف هنا عند فصل من فصول السجالات النقدية المطولة بخصوص الفن الروائي لدستيوفسكي وما استقر من بديهيات بصدده لأنتقل بعدها إلى ناقد تحدى هذه البديهيات ونبهنا إلى سرّ محوري في عظمة هذا الروائي الفريد.
هنالك ثلاث قراءات رئيسة لدستيوفسكي تنافست على امتلاك المفتاح التأويلي لفحوى رواياته وأسست لصورته النقدية السائدة. الأولى هي القراءة الماركسية التي ازدهرت في الاتحاد السوفيتي السابق والتي قرأت دستيوفسكي بوصفه البؤرة التي تتجمع فيها خيوط المجتمع الروسي لتعبرعن قوة الدفع التقدمية للأفكار الثورية الجديدة الداعية للتغيير. التيار الثاني يمثله ميخائيل باختين ونظريته المعروفة عن التعددية البوليفونية التي تمنح شخصيات دستيوفسكي استقلالها الفكري عن المؤلف إلى حد يجعلها تخالفه وتتحداه وتختلف فيما بينها دون تدخل منه. أما التيار الثالث الذي يزداد دعاته في يومنا هذا فإنه يقرأ دستيوفسكي كاتباً متشبثاً بالعقيدة المسيحية الأرثودوكسية مقابل التيارات العدمية الثورية في يومه، وهي قراءة تجعلنا ندرك ونحن نطلع على تفاصيلها مدى الجهد الذي بذله الماركسيون لتقديم قراءة مضادة تماماً. أبرز دعاة التيار الأخير وأفضلهم كما أرى الناقد وكاتب السيرة الأمريكي جوزيف فرانك الذي أصدر كتابه الضخم عن سيرة دستيوفسكي وفنه في خمسة مجلدات ثم أختزلها في مجلد واحد بعنوان "دستيوفسكي: الكاتب وعصره".
بالرغم من الاختلافات البينة بين هذه التيارات الثلاثة فإنها تكاد تتفق جميعاً على التعامل مع شخصيات دستيوفسكي على أنها أشباح ناطقة بأفكار وأيديولوجيات ومواقف. لكن هنالك من انبرى ليشاكس هذا التمركز الاختزالي على الأيديولوجيا والفكر بتقديم قراءة نفسية للروايات. وأبرز هؤلاء الناقد والأكاديمي برنارد ج. باريس Bernard J. Paris الذي كرس جلّ حياته الأكاديمية لمقاربة الشخصية الروائية عبر منظور نفسي واعتمد في مقاربته هذه أبحاث المحللة النفسية الأمريكية كارين هورني Karin Horney وهي صاحبة نظرية متكاملة في أنماط الشخصية لا مجال إلى الخوض فيها هنا. يكرس باريس كتابه "أعظم شخصيات دستيوفسكي" Dostoevsky’s Greatest Characters (بالغريف ماكميلان، 2008) لإعادة قراءة ثلاث روايات أساسية له هي "من قبوي" و "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كرامازوف". وقد اختارها لاعتقاده أن شخصياتها المحورية تفوقت في حيويتها وعمقها على غيرها.
يتصدى باريس في كتابه هذا لأهم نقاد دستيوفسكي. فيعترض على قناعة جوزيف فرانك بأن هذه الشخصيات مستمدة من البنية الفكرية لمنتصف القرن التاسع عشر في روسيا وجعله السيكولوجيا تابعة للأيديولوجيا لدى دستيوفسكي. يعتقد باريس أن هذه الشخصيات تبدي مواقفها الفكرية المتطرفة نتيجة دوافع نفسية مستمدة من العالم المحيط بها وما يعنيه من علاقات ومشاعر وسلوكيات بالنسبة لنمطها الشخصي. وقراءاته في الروايات تثبت دقة الرصد النفسي لدى دستيوفسكي الذي يتفق بدقة مع قناعات هورني النفسية المتخصصة. وهو ينبهنا إلى ما يسميه "فائض التفاصيل" في تقديم دستيوفسكي لشخصياته؛ أي أن ثراء التفاصيل التي تتوفر عنها يفوق ما يحتاجه القارئ لمتابعة الحبكة والسرد. وهذا الفائض هو سرّ حيوية هذه الشخصيات ونزوعها إلى الانفلات من كل قيد تأويلي يحاول اختزالها فكرياً، بما في ذلك قيد المؤلف نفسه.
وبالرغم من أن باريس يتفق مع باختين في أن المحرك الأهم لشخصيات دستيوفسكي هو الصراع بين "انفتاحها الداخلي" من جهة ومستلزمات "الاكتمال التأليفي والموضوعي" لوظائفها في سياق السرد من جهة أخرى، إلا أنه يختلف مع استنتاجه في أن هذا الصراع ينتهي إلى وحدة فنية شاملة وانسجام متعال. هنالك بالنسبة لباريس تناقض متواصل بين هذه الشخصيات مكتملة البناء والأدوار التي يُفترض أن تلعبها في الروايات. وينعكس هذا الخلاف بين الناقدين في أن باختين يهمل تاريخ الشخصيات وظروف نشأتها وينفي السببية والتفسير الذي يعتمد ماضيها أو بيئتها مركّزاً على التفاعل في ما بينها، بينما يجد باريس في هذه التواريخ والتفاصيل مصدر سحرها وجاذبيتها والعنصر الذي يجعل كشف هذه الروايات عصيّاً على أي فهم قاطع قد نحمله نحن أو دستيوفسكي نفسه عنها.
قد لا تفي هذه الاشارات كتاب باريس حقه (وهو جدير بالترجمة إلى العربية)، لكني أعود إلى النقطة التي انطلقت منها. لا يمكن للشخصية الروائية الحيّة التي يتفاعل معها القارئ بوصفها كذلك أن تخلو من بُعد نفسي يعيدها إلى الشخص الذي انبثقت منه. إن أسقط الروائي البُعد النفسي لشخصياته وحوّلها إلى أقنعة أسطورية أو تاريخية أو أيديولوجية فإنه إنما يُسقط هويته الروائية عنه ويتحول إلى شاعر او فيلسوف. المؤكد أن تطرّف باريس في منح الأسبقية للبعد النفسي لا يخلو من مبالغة. تبقى روايات دستيوفسكي بوتقة فكرية محتدمة وقودها النفس الإنسانية في مقاومتها أي اختزال. يكمن الكشف بخصوص الشخصية الروائية في المنطقة الفاصلة بين بديهيات باختين وفرانك ونقد باريس لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا