الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم الواسطي وسرية البوح

كامل حسن الدليمي

2015 / 6 / 7
الادب والفن


عالم الواسطي وسرية البوح
قراءة في المجموعة الشعرية للشاعرة العراقية وداد الواسطي
كامل حسن الدليمي
علينا الاقرار بأن المجتمع العربي مازال ينظر لنتاج المرأة الفكري بعين الريبة والحذر والخوف من سيادة هذا الفكر على حساب الذكورة الطافحة والتفرد المعهود كمنظومة مفاهيمية موروثة ، ولكم تعرضت الانوثة ومازالت للتغييب والانتهاك في عالمنا ، بيد أن المعول على الصوت الجريء والمعطى الواعي للمرأة لفرض واقع جديد وهذا ماتخلصت منه المرأة في العوالم الاخرى منذ مطلع القرن التاسع عشر والقرن العشرين حينما ظهرت النسوية كواقع مفروض على الرجل الاعتداد به والتوقف عنده والاعتراف بعطاء المرأة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية مع الاحتفاظ بل ضرورة الإبقاء على الخصوصية المجتمعية ، وقد نشط هذا الجانب في العراق منتصف القرن العشرين ثم خبى واضمحل واحتضر نتيجة السعي الحثيث لإعادة المرأة لعصر جاهلية العرب ، وليس منة من الرجل ان يصفق لنتاج المرأة أديبة بل هو واجب تفرضه أخلاقيات الأدب وأن يتم محاكمة الابداع على اسس متكافئة مع الرجل ، ومن خلال تصفح يسير لمجريات تاريخنا العربي من الناحية الاجتماعية نجد ان هذا التاريخ قد حفل بالظلم والاستبداد والتسلط والقمع لما تتمتع به المرأة واعتبارها اقل من الرجل شانا وتلك ثقافة سائدة لا احد يماري فيها .
ليس هذا مقدمة لدراسة وتحليل نظرة المجتمع العربي للمرأة إنما هو بدافع ما تنتجه المرأة من إبداع فكري خلاب لا يقل أهمية عن معطى الرجل بل قد تتفوق المرأة في احيان كثيرة .
وأنا اقلب صفحات مجموعة شعرية أنيقة للشاعرة الحلية العراقية وداد الواسطي استوقفتني كثيرا معزوفاتها الشعرية على وتر من الحزن شفيف عبر بي ّ حدود التجربة الى عالم العطاء الحقيقي ... نعم هي ليست تجربة شعرية بل هي خزين معرفي شعري يستحق الدراسة والتأويل ولو أن قاعدة انطلاقه ارضية صلبة من الحزن الشفيف المعبر عن الواقع بتفصيلاته اليومية وإيحاءاته المحلقة في عوالم التأمل الفسيحة،ساقت الشاعرة موضوعاتها بشفافية عالية تجاوزت من خلالها حاجز التجريب الى مرحلة متقدمة من النضج والثراء ومعبرة عن الماساة التي تتحملها المراة ضمن مجتمع لم ينصفها إلى الآن وكأنني وأنا أتصفح بشغف ( عالم سري لوداد الواسطي وهو يصدر بطبعة أنيقة عن المركز الثقافي للطباعة والنشر اقرأ لاحد شعراء المدرسة الرومانسية الذين هربوا من الواقع المحسوس إلى عالم الإيحاء والتأمل متخذين بذلك طابع الحزن حبلا يتأرجحون عليه فيبعثون برسائل للمتلقي أن عالمكم الوحشي هذا باستطاعة الإنسان ان يعتزله لعالم أكثر صدقا وارحب فضاءً من خلال إطلاق المخيلة في اللامحدود واللامنتاه ، ويبدو ان الواسطي تهرب مجبرة من عالمها المحسوس إلى ذلك الماورائي الفسيح تحت خيمة الحزن الشفيف معبرة عن صور القسوة التي تسود المحسوس وعدم جدوى المدنية والتحضر تحت وطأة القسر والاستلاب وهي غير قادرة على التغيير الا عبر التخيل وصناعة عالم متخيل تسوده المحبة ويحكمه الإنصاف والعدل .
اتسمت المجموعة بالقوة والجرأة في الطرح واهتمت الواسطي كثيرا بالعنوانات بدءً من عنونة المجموعة وصولا الى العناوين الفرعية مما اكسب العمل برمته أهمية استثنائية تعبر عن نظرة حداثوية للتعامل مع النص الشعري باعتبار ان العنوان وكما يقول سعيد علوش في كتابه معجم المصطلحات الأدبية يشكل بنية معادلة كبرى طرافاها العنوان فيما يشكل النص الطرف الآخر ولعل القراءة الأولية للعنوان (عالم سري) هي التي تبعث بأشارة شد الى المتلقي فتجعله يفهم ولو بشكل نسبي ما يحتويه المتن أي ان العنوان قد ارتبط ارتباطا عضويا بالنص وجاءت المتون لتكمله ولايختلف معه وتعكس الامانة والدقة في انتقاء العنوان وعيا شعريا مائزا، أوليس العنوان مصطلح سيموطيقي مكثف لنظام العمل وعليه لابد وأن سيصل الى التشاكل الدلالي لذا نجد ان المضامين الخاصة بالعنونة بقيت معلقة على قدرة اكتشاف آليات هذا التشاكل وصولا للمعنى العام للنص، وبناءً على هذا اشتغلت الواسطي منطلقة من حقيقة تقول"لم يعد العنوان مجرد مفردة مفصلة عن المتن لان واجب العنوان ان يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بدلالات النص بل ويفسره "لذا جاءت العلاقات السيميائية بين العنوان بوصفه الدالة الصغرى على الدوال الداخلية معبرا ومقتربا مما تتضمنه متون النصوص ولا اريد الخوض كثيرا في سيميائيات النص الا انني ساحاول جاهدا ان اتعقب ثالوث ( بيرس) الذي وضعه في تاويلاته في نقد الشعر فقال ان في النص مراحل ثلاثة يكمل بعضها بعضا ليس لنا ان نحصل على المعنى بكلياته ما لم نتعقب هذا الثالوث الذي يشير المستوى الأول إلى ترميزات واشارات تحيل الى المستوى الثاني والذي بدوره يضل مبهما مالم يكتمل المعنى في المستوى الثالث.
ان لكل نص من النصوص دورة ثلاثية يكتمل من خلالها وفقا لبيرس ليقول لنا ماذا يريد الوصول اليه الشاعر وكأن الشاعرة قد تقصد بوعي تام هذه العلاقة التكاملية فجسدتها في معظم نصوص هذه المجموعة على ان قراءتي هذه هي ليست القراءة العلمية التي ستخضع النص لتحليل انما هي انطباع ووجهة نضر من الزاوية التي أقف منها وقد يقف سواي في زاوية أخرى فيقرا النص قراءة مغايرة كما لا يمكن الإلمام بكل ماتضمنته المجموعة من خلال قراءة سريعة على هذه الشاكلة غير اني سأجتهد في انتقاء بعض النصوص بقصد المقاربة معترفا ان هذه المجموعة تستحق القراءة والتأمل والتحليل بما ينسجم ومستواها الفني المعبر عن تجربة مكتنزة وليست عابرة جسدت امكانات كبيرة لم تستنهض بعد وقدرات لم تفصح عنها الى الآن ومن جانب آخر نجحت في تطويع اللفظ لخدمة المعنى وبالتالي الخروج بصورة جميلة تشد المتلقي من بداية النص إلى نهايته تقول الواسطي :
استدلت الستار على أسطورتي / في الليل طرقت باب ذاكرتي / جمعتي أعوامي في كاس آلامي / مذعورة طريدة / في غابة أوهامك / حيث البرد يلسع دفئ أحلامي / وحيث فأسك تغتال أخر حروف اسمي / من على شجرة الذكريات / في الليل طرقت باب ذاكرتي / سردت حافية القدمين على رماد أوهامي /ص34-35.
ان هذه الصورة الغائرة في الحزن المعبرة عن خساراة متتالية تعيد الى الذاكرة ان الحزن ليس خيار للشاعر انما هو واقع مفروض يلقي بضلاله على مخيلة الشاعر فينفثه ليريح ويستريح واعتقد ان الذي اطر هذه الصورة بهذا الاطار هو مراجعة دقيقة لما مر من سني العمر وشعور دائم بالخسارة امام عالم متغير مشحون بالحرمان والقسوة .
ثم ان ذلك الصوت الخفي الذي ينبعث من بين هذه السطور قد تشكل من انعكاسات الواقع فيجنح نحو الخيل لتجسيد الواقع وعليه فان العلاقة بين واقع النص ومتخيله هي علاقة استلال وتجسيد بحرفية عالية وذكاء يدل على امساك الشاعرة بادوات النص وقدرتها على التصرف باللفظ بما يؤمن لها تلك الانثيالات المتتابعة والمعبرة عما تستشعره من الم وحرمان ولو انتقلنا إلى نص آخر أكثر غورا في عالم الحزن وهنا استطيع القول ان رحلة الواسطي في بحر الحزن قد اخرجت كثيرا من اللآليء تقول :
كل شي يوحي للحياة / لكن الموت يسكن داخلي/ يبن الخندق تل والآخر / بأجنحة متكسرة / أحاول أن احلق بعيدا / من سراب أيامي / .ص53.
وضع هذا النص تحت عنوان قلت وداعا وكان الاختيار للعنونه موفقا من حيث وجود العلاقة بين العنوان وبين المتن الشعري وهي تربط متضادين قائمين في الحياة فهي تتحدث عن ثنائية الموت والحياة ولم اجد من خلال قراءاتي ان شاعرا قد مر على هذا المعنى بهذه الطريقة الذكية فبرغم ان الطبيعة توحي بالحياة إلا ان ما يعتمل في نفس الشاعرة مهدم وآيل للسقوط فجمعت بين المتضادين في مقطعين جميلين واستخرجت لنا معنا لؤلؤيا جميلا نعم الحياة توحي بالجمال والاستمرار لكن ما الذي يحكم تفاعل الإنسان وقدراته على التعاطي مع هذه الحياة هو شعوره بنبضها وإذا كان داخله ضاج بالحزن فلا معنى لوجود ذلك في نفسيته والذي يمكن قوله في هذ المقام أن النص الذاتي الذي غلب على هذه المجموعة قد اشتغل على خدمة النص وإثرائه بمعان كثيرة فحديثها عن الذاتي هو انعكاس عن واقع الحياة المعاش وبذلك تكون الشاعر قد وفقت في التنسيق بين الذاتي والموضوعي .
على ان الشاعرة قد عرجت على قضية الفناء كثيرا فهي قد وسمت يذلك المرموز إلا أنها كشفت في داخل النص عن إيمانها بفناء الإنسان فهي قد وسمت نصها ( قد لا تفهم) ص83.
وإجابت عن ذلك الذي لا يفهم بجدلية متناغمة تقول:
قد لاتفهم / كيف يموت الإنسان / من صمته / كيف يغلق بين أبواب الرجاء يوما بعد يوم وعام اثر عام / كيف يمسي الكون على سعته حلقة ضيقة / ص84.
ولاشك أن الإحباط واليأس من الحياة هو وليد تلك المحن المتعاقبة على الإنسان فلا خيار للمحزون إلا أن يعبر بطريقته عن ذلك الحزن وان انقطاع الرجاء والأمل بالحياة إنما هو تعبير عن الوصول إلى عدم الجدوى فالصورة أعلاه هي صورة سوداوية خالية تماما من أي بارقة أمل تلوح في قابل الأيام ، وكان الذي يطالع هذا النص يجد أن الشاعرة تقف على قمة جبل من الإحباط واليأس وتترجم خلو يديها من رحلة الحياة الطويلة وكأنني وانا اقرا هذا أشعر انني امام جبل من الحزن ،هذا هو الواقع الذي تتلمسه الشاعرة من الحياة وفي باب الرثاء وجدت أن الشاعرة ترثي احد ما بطريقة تراجيدية تعبر عن صدق المشاعر وقوة الإحساس تقول :
سرير بارد / وسادة من غير أحلام / هاذي أنا بعدك/ كنت عكازي كلما تداعيت تشبثت بك/ الفراق أحنى ظهري / انتظرتك طويلا / لكن العمر لن ينتظرني / ص114.
بهذا الصدق وبهذه العفوية وبهذه القدرة في الإيغال داخل نفس المتلقي استطاعت وداد الواسطي في هذا النص ان تستجلب عبرة المتلقي دون ما أي تكلف فالصورة الرثائية واضحة وصدق المشاعر فيها قد اضفى عليها جمالية الحزن وشفافيته ولا ادعي وأنا اقرأ بعناية هذه المجموعة الشعرية الا وان ارفع يدي بالتحية والإجلال والاحترام لصوت نسوي آخاذ بإمكان أي أديب ان يفتخر بها ويتلمس بقوة ومصداقية إلى أن عراقنا منتج ولود لازال يتمسك بالحياة ولاشك ان للمراة دور خلاق قد تتفوق من خلاله على الرجل في الكثير من الأحيان أتمنى للفاضلة وداد الواسطي شاعرة وإنسانه المزيد من التألق والإبداع وامني نفسي بان تخرج عن شرنقة الحزن فان مخيلتها تحلق في عوالم الشعر بقوة وجدارة وإمكانية قل نظيرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا