الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكاليات المجتمع المدني

عزيز ياسين

2005 / 10 / 5
المجتمع المدني


مفهوم المجتمع المدني
ماذا يقول المجتمع المدني...اشكاليات وحقائق (*)

بداية.. لا بدّ من أن نميّز بين مفهومين هامين، قد يختلطان على البعض، الأوّل مرتبطٌ بمفهوم المجتمع المدنيّ، بالمعنى المؤسساتي والدستوريّ، باعتباره الصيغة الممارسة على أرض الواقع، والآخر المرتبط بمفهوم المجتمع المدنيّ بالمعنى المعرفيّ، وهو المرهون أصلاً بالمساحة المرجعية التي يوفرها مجمل الإنتاج الفكريّ لنخبة هذا المجتمع، أو التي يستفيد منها، أيّ أنّ مفهوم المجتمع المدنيّ، صعوداً، وفق محور السيرورة الزمنية، خاضع لجملة من الحدود الفاعلة فيه، أهمها فعل الصيرورة ذاته، باعتبار أنّه مفهوم ناتج عن مجموعة من التفاعلات، الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والثقافية، ففرق كبيرٌ بين أن تجعل المجتمع المدنيّ هدفاً تسعى إليه، من خلال رصد مساحات قادرة معرفيّاً على تأسيس هذا المفهوم، وبين أن تطلب بسحب مفهوم محدّد حول هذا المعنى، باعتباره صيغة قادرة على الإنتاج المباشر، في مجتمع ما، من نظام ما - سمّه ما شئت - وقلب هذا النظام إلى نظام مؤسساتيّ، يقوم في تفاصيله على معنى سياسيّ أساسه المجتمع المدنيّ، دون البحث في مساحة المتاح وفهم الممكن المعرفي، أصلاً، لإمكانية حراك هذا المفهوم واقعياً..
إنّ هذه الملاحظة الأولى، كان لا بدّ منها، كي نفرّق بين دالّ لمدلولين مختلفين، يكمن هذا الفارق في الاختلاف في الشرط المتاح لحراك المفهوم نفسه، فأنت قادرٌ على أن تؤكّد على الشعار الذي تريد، بغية جعله هدفاً أخيراً، لغاية مثلى تطمح لها، تعمل من أجلها وفق مستويات عديدة، وأساليب متنوعة، بيد أنّ مساحة المتاح الطبيعيّ لهذا الهدف، هذه المساحة التي تضمن نجاحاً متميّزاً لغاية مطموحة، قد نختلف عليها، وفيها، وقد لا تتوافر الشروط الصحيّة القادرة على بلوغ الهدف، من خلال هذا الشعار، وذلك حين يتغيّر المنهل المعرفيّ، من هنا إلى هناك، فبهذا التباين بين مجتمعين مفترضين، يفترض، حتى نظريّاً، أن يكون هناك تباينٌ في الناتج، وهو الناتج الذي قد يؤدي إليه الشعار، قبل فهم المتاح المعرفيّ القادر على إنتاج الغاية، أو الإيصال إليها..
فحين درجت مفردة الديمقراطية على لسان مثقفينا، سارع معظمهم إلى التمسّك بها، والقتال من أجلها، باعتبارها الرسول الأمين القادر على توسيع مساحة المتاح السياسيّ والاقتصادي والثقافيّ لدور المؤسسات، في الوقت الذي وقف فيه البعض ضدّ هذا المفهوم الغريب على الثقافة العربية، مستبدلاً إيّاها بمفردة أخرى، لها جذورها القوية، نظريّاً، في الثقافة العربية الإسلامية، وهي الشورى، معتبرين أنّ الديمقراطية هي الشورى، حتى أنّ نسقاً هاماً وواسعاً من المفكرين العرب، سارعوا إلى توضيح التطابق الكامل بين هاتين المفردين، علماً أنّ فرقاً معرفيّاً وتكتيكياً كان واضحاً بين هاتين المفردتين، فالشورى توجيه عام يُسعى إليه في ثقافة الأمّة، في حين أنّ الديمقراطية هي ممارسة هذا التوجّه على أرض الواقع، ولمّا كان الواقع متبايناً نسبة إلى تباين المجتمعات الإنسانية، كان لزاماً على شكل ممارسة هذا التوجّه أن يجيء متبايناً، خاصة حين تتباين المرجعية المعرفية القادرة على تشكيل الوعي السياسيّ الديمقراطيّ أصلاً، من هنا تمّ الالتفاف على هذا المفهوم، الديمقراطية، من خلال معناه السياسيّ، واعتباره مفهوماً آنيّاً تكتيكيّاً يؤمّن م شروعية الحضور للبعض، ثم الانقضاض عليه، وهو المشهد الذي تجلّى واضحاً، في كثير من خطوط الفعل السياسيّ العربي، في الوقت الذي لم يحاول أحدٌ أن يتبيّن إمكانية فاعلية هذا المفهوم المسحوب من فضاءات مختلفة تماماً، عن فضاءات الواقع العربيّ، في الآن الذي تؤكّده مجمل المرجعيات الفكرية الموجودة في فضاءات الوعيّ السياسيّ العربيّ، بأنّ مفهوم الديمقراطية ليس له ما يضمن وجوده الموضوعيّ، بمعنى أنّ الوعاء الفكري المؤسس لوعيّ سياسيّ وثقافيّ يؤمّن فهماً ديمقراطيّاً، قادراً على فرز فعلٍ ديمقراطيّ، غير موجود أصلاً، في المنتج الفكري والمعرفيّ العربي والإسلاميّ، خاصة على الصعيد السياسيّ، وبالتحديد، في نظام الحكم وتوابعه..
والأمر ذاته بالنسبة لاستيراد مفهوم آخر، وهو الاشتراكية، في معناها الأممي السياسيّ والفكريّ، وزجّه في وعي وثقافة وذاكرة الأمّة، لقد كان الانزياح الكامل الذي قامت به قوى وفعاليات عربية متنوعة، نظريّاً وتطبيقيّاً، على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ حتى الاجتماعيّ منه، أثره الذي أنتج حالة من عدم التوازن أصاب جسد الأمّة، حين حاول هؤلاء، من باب التجريب المباشر، الانتقال بالأمّة إلى فضاءات تصوراتهم وأحلامهم، هذا إن لم نقل مصالحهم، قبل أن يحاولوا فهم المتاح المعرفيّ لهذه الأمة، لم يحاولوا فهم احتمالات نتائج هذا الانزياح الكامل، الذي لن يتوافق مع ما تمتلكه الأمّة في وعائها الروحي والاجتماعي والثقافيّ، ولم يراعوا أو يحاولوا فهم البنية والصيغة الاجتماعية، للمجتمع العربيّ، لم يبحثوا في المرجعية التي تتوافر في ثقافة الأمّة، تلك المرجعية القادرة على أن تتلاقح مع هذا المفهوم الجديد، إذ لا بدّ من توفر الوعاء الفلسفي والمعرفيّ القادر على إحداث هذا التلاقح الطبيعي، بين كلّ ما هو منتج، أو مستورد، وبين ما تمتلك الأمّة من إمكانيات قادرة على هذا التلاقح، كي تتمّ عملية الإنتاج الطبيعيّ..
كذلك بالنسبة لمفهوم المجتمع المدنيّ، من خلال ما يطرح عليه اليوم، علينا أن نفرّق بين اثنتين هامتين، بين أن نطرح هذا الشعار، تكتيكيّاً، بغية حجز مساحة سياسيّة تؤمّن لنا إمكانية ممارسة طموح معين، وبين أن يكون هذا الشعار غاية وهدفاً وتصوّراً لمرحلة أفضل، فإذا كان الاحتمال الأوّل هو الوارد، وهو أنّ هناك بعض الفعاليات التي تريد أن تشرّع لهذا المفهوم، لطموح سياسيّ تمتلكه، فما عليها إلاّ أن تطالب، وبشكل مباشر، للتعبير عن هذا الطموح، والذي لا بدّ من أن يتقدّمه وجبة معرفية كافيّة قادرة على حجز الحجم الكافي لصيغة هذا لطموح، ضمن البنية الاجتماعية للمجتمع، وليس الاتكاء على تقديم مساحات سوداء تشوب المجتمع، وتقديم نفسها مخلّصاً، من مجمل المنتج السلبيّ الذي شاب الحراك السياسيّ والاقتصادي، خلال مراحل سابقة، في الوقت الذي يطرح به هذا الشعار على أنّه هدف وتصوّر لمستقبل أفضل، ما على من يرفعه، أو يراه كذلك، إلاّ أن يضع له أسسه، ويبحث في ثقافة الأمّة عن مفردات تضمن له حراكه، وتفعيل هذه المفردات بغية أن يتصاعد فعل الداخل ليصل أخيراً إلى مستوى المتصَوَّر، أو المتخيَّل.. في حين أنّ كلّ من يحاول أن يت بنى المفهوم الثاني، وهو أن يعمل على جعل هذا الشعار هدفاً وتصوّراً لمرحلة أفضل، ما عليه إلاّ أن يحاول إنتاج المساحة المعرفية القادرة على استيعاب عناصر وملحقات المجتمع المدني، الذي يعمل أو يطمح إليه، يجب أن يخرج من كونه [ردّحاً]، ليصبح العنصر القادر على التمييز والإنتاج، في ظلّ فهمٍ متقدّم لمجمل ما يحتويه المجتمع العربي، في سورية.
يجب أن نكون على فهم واضح ومتقدّم لطبيعة المجال الحيويّ الذي تتمّ فيه عملية الحراك السياسيّ والاقتصادي، خاصة حين تناقش الأمور على مطلقاتها، فنحن نريد تحديداً وتوضيحاً لمعنى المجتمع المدني المطموح له، أو المعمول من أجله، فهل هو المجتمع الذي يعبّر عنه الشكل السياسيّ والاقتصادي والاجتماعيّ، المعمول فيه، أو من خلاله، في النظام الرأسمالي الغربيّ، هذا الذي فرز هامشاً مقبولاً من الحرية والديمقراطية، هذه الحرية والديمقراطية التي أغرت كثيراً منّا، كما أغرتنا منتجات النظام الاشتراكيّ حين أتاح هذا النظام هوامش واسعة لشرائح اجتماعية متنوّعة للوصول إلى ممارسة السلطة، أو لفرز حالات متقدّمة من صيغ التكافل الاجتماعيّ.
فإذا كان المجتمع المدني المنشود، من قبل من يطرحه اليوم، على أن تعبّر كلّ الجماعات والفئات والمؤسسات والأحزاب والنقابات، التي تعيش داخل هذا المجتمع، عن آمالها وأحلامها وتطلعاتها وطموحاتها، الخاصة والعامة، داخلياً وخارجياً، وأن تتقدّم لتأخذ دورها في صياغة وصناعة هذه الآمال والأحلام والتطلعات والطموحات - علماً أنّ صيغاً من هذا كلّه موجود، بشكل أو بآخر في المجتمع العربي السوري اليوم، مع وجود مرجعية أهم خطوطها عدم العودة إلى ما قبل تبلور فهم الدولة القومية والوطنية - فهل انتبه هؤلاء إلى طبيعة المتاح القوميّ الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ والقبليّ والعشائريّ..الخ، ثمّ إلى امتلاك كلّ هذه الشرائح لمرجعيات فاعلة ومؤسسة لوعي كامل بحقّ وجودها الطبيعيّ في المجتمع، والدولة، وافتقارها لأدنى مرجعية تخوّلها قبول الآخر، ألم ينتبه هؤلاء إلى أنّ أبسط الأدبيات الشفوية لأصغر طائفة موجودة في المجتمع، قادرة على أن تفرز وعياً سياسيّاً معيقاً وهادماً لألف باء المجتمع أصلاً، إذا ما توفّر لها هامشٌ تمارس فيه أبعاد هذه المرجعية، فكيف المجتمع المدنيّ..!؟
ألم ينتبه هؤلاء إلى أنّ المتاح للواقع السياسيّ والاجتماعيّ لم يزل قائماً على جملة من الصيغ العشائرية والقبلية، وأنّ كلّ ما حاولت أن تبثّه، أو تنتجه، مراحل الصعود الثقافيّ العربي، خلال المائة عام الأخيرة، لم تستطع أن تتخلّص من أبسط مقومات العشيرة والقبيلة والرابط الدمويّ، هذا الذي ينام على مرتكزات حقيقية، وقوية، لها ما يجعلها من أهم الصيغ الرابطة في وجدان الناس وثقافاتهم.
إنّ فعل التجريب الذي يسعى إليه البعض، قد يكون فعل انتحار كامل، خاصة حين يكون هذا التجريب في الجزء الحيّ من جسد الدولة، والجزء الحيّ هنا يمثّله المتحرك السياسيّ والاقتصاديّ اليوميّ، وأدوات الحكم المباشرة، وهنا يمكننا أن نفرّق بين المنتج الفكري على صعيد المثقف والمنتج السياسيّ والاقتصاديّ على صعيد السياسيّ، فالمنتج الفكريّ على صعيد المثقف قابل لفعل التجريب النظريّ، وذلك باحتكاكه بجملة من المنتجات الفكرية الأخرى، على أن يترك لها هامش كاف يلبي إمكانية هذا الاحتكاك، والذي سيؤدي بدوره إلى فرز صيغ ثقافية جديدة، يمكن أن تسحب على مساحة معقولة من جسد الدولة نتبين فيها، أو من خلالها، إمكانية فاعلية هذا المنتج، وتكون بذلك إمكانية الرجوع، أو التراجع، معقولة، أو ممكنة، في حين أنّ المنتج السياسيّ سيكون مباشراً ونتائجه سوف تتجسد واقعياً، إن كان سلباً أو إيجاباً، لهذا فإنّ إمكانية التجريب غير ممكنة، في الوقت الذي تحاول فيه مجموعة من الأسماء، اليوم، جرّنا إلى هذا المطب القاتل والمباشر، علماً أنّ نتاجاً تجريبيّاً، إذا أراد هؤلاء أن يستشهدوا به، كان واضحاً، في جملة واسعة من الكيانات التي مالت كل ّ هذا الميل المباشر، سعياً وراء الخروج من تشوهات تصيب جسد الدولة، فما كان من المجتمع والدولة إلاّ أن أصبحا في خبر: [كان هناك دولة ومجتمع].
وفي اللحظة التي حاول فيها، من حاول، أن يمتطي صهوة صيغة المجتمع المدنيّ الجديدة، لم يستطع أن يفرّق بين المجتمع المدنيّ، كصيغة اجتماعية متداخلة في توضعات وتوزعات المجتمع، وبين [الدولة المدنية]، باعتبارها المعنى السياسيّ لهذا الكيان، في الوقت الذي نستطيع القول فيه إنّ [المجتمع المدنيّ] موجود بهذا المعنى في أغلب المجتمعات الإنسانية، وبنسب متفاوتة، وذلك من خلال تنوّع ألوان الطيف الاجتماعيّ، الديني والمذهبي والعشائري والقبلي، الموجود في حدود هذا المجتمع، إذ أنّ العالم العربيّ، نتيجة مجموعة من الفترات والمراحل والظروف والشروط التي مرّ بها، استطاع أن يفرز فهماً اجتماعياً، وتحديداً اجتماعياً، في قبول الآخر، والتعامل معه، في حدود الشرط الاجتماعيّ - الاجتماعيّ، في حين أنّ الفهم السياسيّ، وخاصة في جزء الحكم وتوابعه، فإن تجربة هذا العالم، وهذه الأمّة، لم تزل وليدة، فهي لم تعرف سوى شكلين اثنين فقط من المعنى السياسيّ للحكم، فهو إمّا الفرد الواحد الأوحد، والذي يتمثّل بزعيم العشيرة أو القبيلة، أو الخليفة الحاكم بأمر الله، وإمّا الاحتلال والاستعمار، لهذا لم يتشكّل في ثقافة هذه الأمّة، وعلى الص عيد السياسيّ، ما يؤسس لوعيّ اجتماعي - سياسيّ يؤدي إلى مفهوم الدولة.
كما أنّ المجتمع يظلّ غير قادر على أن يحتوي الصيغة السياسية والاقتصادية للدولة، باعتبار أنّ غاية سلوك الدولة، التعبير عن المعادل السياسيّ والاقتصاديّ، في الوقت الذي ندرك به جيّداً، أنّ مفهوم الدولة، بهذا المعنى الذي قدّمنا له، كان لاحقاً، تاريخيّاً، لمفهوم المجتمع، وهي الدالة الأخرى، على ما ذهبنا إليه، من حيث أنّ الغاية التي يهدف إليها البعض، من قولهم، المجتمع المدني، إنما هو في الحقيقة، مطلب يراد به بالضبط [الدولة المدنية]..
وقد يخرج علينا من يقول، لماذا لا نبحث عن الصيغة السياسية، في هذا المجتمع، التي تعبّر عن مجمل هذه التوزعات والتوضعات الاجتماعية، ونردّ عليه ببساطة، إنّ البحث عن مثل هذه الصيغة سيذهب حرارة الدولة وقدرتها على الفعل، خاصة حين نصل إلى مفهوم واضح وجليّ، أمام أعيننا، إنّه في التجربة اللبنانية، أي حين نصل إلى مفهوم [الدولة الطائفية]، وهو الشكل من الدولة الذي يقوم على أساس توضعاتها الدينية والمذهبية والطائفية، وهي أسوأ حالات وأشكال الدولة على الإطلاق، أو [الدولة القبلية] التي تقوم على أساس الروابط الدموية، وهي متواجدة في مساحات واسعة من عالمنا العربي.
كما أنّه علينا أن ندرك أنّ [الدولة المدنية] ليست نتاج المجتمع المدنيّ، بالضرورة، خاصة حين يؤخذ بمفهومه الاجتماعيّ، القبلي والعشائري، الديني المذهبي والطائفي، كما أنّها ليست المعنى السياسيّ له بهذا المعنى، أيضاً، لكنّها نتاج المؤسسات التي تمتلك خطاباً يتفاعل ويتلاقح ويقبل التداخل والإنتاج، من خلال مفهوم [الدولة المدنية]، كما يمكن أن تكون نتاج تطوّر مفهوم [الدولة الثورية]، في ظلّ فهم السياق التاريخي لقيام وتشكّل [الدولة الثورية]، خاصة حين ندرك شروط وظروف تشكّل هذه الدولة، فحين تتلاقح وتتشابك وتتلاقي القوى الوطنية الفاعلة والحية في المجتمع مع [الدولة الثورية] سوف يؤدي هذا التلاقي والتلاقح إلى نمو [الدولة الثورية]، لتصل إلى صيغة جديدة تتجسّد في قيام [الدولة الوطنية]، وهي الصيغة المقاربة للواقع العربي السوري اليوم، وهذا لا يعني بالضرورة أن مفهوم الدولة انتهى عند هذا الحدّ، غير أنّ الحراك السياسيّ الغير مؤطّر في نطاق الدولة الوطنية، هو في عملية تصاعد وازدياد ونمو واقتراب من جسد الدولة، خاصة حين يتصاعد وينمو شعور وإحساس الثقة في الدولة، ويتم الانتهاء من دور الرهان على مقدرتها في الق يام بدورها، وهذا يبدو جلياً، حين ندرك ونفهم المشهد السياسيّ العام خلال العقود الثلاث الأخيرة، من حياة سورية، فحين تنتهي هذه القوى - وهي ليست بالضرورة أن تكون قوى بالمعنى الحقيقي والمباشر لهذه الكلمة، بقدر ما هي أصوات تنمو بفعل السيرورة التاريخية - الاجتماعية - حين تنتهي من فسحة الرهان على تمكّن وقدرة الدولة الثورية على الإجابة على الحدّ الأدنى من إرهاصات الداخل والخارج، تبدأ بمحاولة الانخراط في جسد الدولة، وهذه المحاولة قد تأتي من نوافذ عديدة، وهي نوافذ ليست متشابهة بالضرورة.
والمحزن، في هذا السياق، أنّ البعض لم يكتف برفع شعار المجتمع المدني، كصيغة لشعار أو هدف بغية مستقبل أفضل، أو كصيغة تعطي مشروعية الطموح السياسيّ لديهم، لقد ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، حين رفعوا شعار [إحياء المجتمع المدنيّ]، وهم حين يعلنون ذلك، لا يخفى علينا ما يعنون، إنّهم يعنون بأنّ هناك مجتمعاً مدنياً كان موجوداً، خلال مرحلة تاريخية معينة، في الآن الذي لم يعد فيه ذلك المجتمع موجوداً، كوننا نفهم في [الإحياء]، معنى لميّت كان موجوداً، وهو إفصاح واضح، عن مرحلة [الدولة الثورية] التي قضت على هذا المجتمع، ونحن نسأل في هذا السياق، أي المراحل تلك التي كان فيها هذا [المجتمع المدني]، وحين نراجع التاريخ من باب كونه في مجال رؤيتنا الحيّة، نستطيع تحديد الفترة التي عناها هؤلاء، باعتبار أنّ الاستعمار الفرنسي ورث البلاد بعد الاستعمار العثمانيّ، وانتهى في (17، نيسان، 1946)، غير أنّ الانقلاب العسكري الأوّل كان انقلاب العقيد حسني الزعيم، والذي وقع في (30، آذار، 1949)، وبما أنّ الفترة المحصورة من لحظة خروج الاستعمار الفرنسيّ حتى قيام أوّل انقلاب عسكريّ هي ثلاث سنوات، تكون المرحلة التي عناها هؤلاء هي هذه المرحلة، الثلاث سنوات، ونسأل سؤلاً، نعتقد أنّه مشروع، هل من الممكن أن تكون هذه المرحلة التي يقاس عليها!!؟..، ويطلق عليها اسم مرحلة [المجتمع المدني] التي عاشتها سورية..!؟، وهو المطب الثاني لفضح دعواهم..!!
بيد أن هناك من يدعي، مبرراً، أنّ صيغة المجتمع المدني، بالمعنى العام لهذا المفهوم، هي الطاقة المختزنة في مجمل حراك المجتمع، ولكن ألم ينتبه هؤلاء إلى مفهوم السابق واللاحق في هذا السياق، ألم ينتبه هؤلاء إلى أنّ ما يعبرون عنه هو نتاج مفهوم الدولة، وليس مفهوم نتاج المجتمع، وهو ما كنا قد وضّحناه سابقاً، بمعنى أن الدولة هي التي تنتج [الدولة المدنية]، وليس المجتمع هو الذي ينتج هذه الدولة، هذا على مستوى السابق واللاحق التاريخيّ، خاصة حين نفهم مراحل تطوّر مفهوم الدولة، وأكرر هنا على المستوى التاريخي لنشوء الدولة، في حين أنّ [الدولة المدنية] تتبلور من خلال مؤسساتها، ولا تقوم على أساس توزّعها الأهلي، خاصة حين ندرك أن هذا التوزّع هو نتاج مراحل من التعمية والظلم والقهر والطغيان، أي لا بدّ من محاولة جادة لعدم الاستجابة لكل إفرازات المجتمع الأهلي، كونه الحالة الأسبق لمفهوم [الدولة المدنية]، وعليه ألا ينعكس على صفحاتها بالضرورة، كونه يحتوي مساحات كابحة غير قادرة على أن تتناسق وتتساوق مع مفهوم الدولة أصلاً.
وأخيراً، ما علينا إلاّ أن نؤكّد، على أنّ ما يدور من سجالٍ عالٍ، على مستوى الداخل السوري، واستيعاب مؤسسات الدولة لهذا الحوار، دون النيل من هؤلاء، علماً أنّ قسماً منهم نال من الدستور وجملة من القوانين الخاصة بالدولة وتوضعها، يؤكّد على أن روح ووجدان الدولة الوطنية يمتلك هامشاً قادرا على استيعاب إنتاج وتداعيات الداخل، في حدود كونه إنتاجاً وتداعياً فكريّاً، في حين أنّ أيّ تحول له، باتجاه الفعل السالب لشكل وتوضع الدولة، فهو، صاحب هذا الإنتاج أو التداعي، المسؤول عندها عن هذا التحوّل السالب..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيتو أمريكي ضد منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم الم


.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية




.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال


.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال




.. شهادة فلسطيني حول تعذيب جنود الاحتلال له وأصدقائه في بيت حان