الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


“هذيك الأيّام”

سليمان جبران

2015 / 6 / 15
سيرة ذاتية


في سنة واحدة؛
الثلج في موسم والعنب في موسمين!
في آخر سنة الغربة في مرج ابن عامر، قدّمنا طلب انتقال. استجاب المفتّش الطيّب الذكر لطلبنا، فنقلني أنا إلى بيت جن، ونقل رفيق الغربة، بلديّاتي، إلى حرفيش. طبعا حرفيش أقرب من بيت جن على من يسكن البقيعة، والمواصلات منها وإليها أسهل بكثير. خصوصا عليّ أنا، الساكن في المرج، أو "البقيعة الغربيّة"، باسمها الرسمي. مع ذلك فرحت الفرح كلّه بانتقالي إلى بيت جن. الطمع ضر ما نفع، والقناعة كنز لا يفنى، كما علّمنا السلف.
في تلك الأيّام لم يكن عند كلّ معلّم سيّارة، كما هي الحال اليوم. ولا تلفون خلوي، ولا خطّي في البيت حتّى. لذا كنت مضطرّا إلى استئجار غرفة في بيت جن عند عائلة فقيرة طيّبة، في القرية الجبليّة القريبة من قريتنا بمفاهيم هذه الأيّام. الغرفة المذكورة كانت في منشئها "غرفة ضيوف"، واسعة كما كانت غرف تلك الأيّام كلّها، "يسرح فيها الخيّال"، وذلك ما يجعلها باردة أيضا. لا ننسّ أنّ بيت جنّ من القرى العالية الباردة في الشتاء؛ غالبا ما يزورها الثلج مرّة أو أكثر في السنة الواحدة.
في تلك الغرفة الواسعة، كنت أمضي لياليّ الطويلة. كنت أقضي الوقت غالبا في القراءة تحت اللحاف. وعلى قنديل نمرة 4. قرأت في خلوتي تلك كلّ ما وصل إلى يدي من كتب. من الأصدقاء الأكبر مني. من "الانتدابيّين" الذين جمعوا في بيوتهم كتبا ومجلات قديمة. أستعيرها منهم، وأعيدها بعد قراءتها. وإذا شعرت أنّ صاحبها "تخلّص" منها راضيا أبقيتها تحت تختي. لماذا لا أضع يدي عليها ما دامت "أموالا متروكة" ؟
صاحبة البيت كانت امرأة متديّنة، وشفوقة أيضا. حرقها قلبها على هذا المعلّم الغريب، يقضي لياليه الطويلة في غرفة يسرح فيها الخيّال، وبردها يقصّ المسمار. كانت في أغلب الليالي تشعل الفحم في المنقل، وإذ "يقطّع" تناولنيه حليفا لي في الليالي الطويلة الباردة تلك.
نهضت في الصباح ذات يوم، كعادتي، لأقوم بالاستعداد للعمل في المدرسة القريبة. وقفت على رجليّ، فشعرت بكلّ ما حولي يدور بي .ارتميت على الأرض مذهولا. فهمت بسرعة أنّ منقل الفحم هو السبب في الدوخة المفاجئة تلك. زحفت حتّى الباب زحفا وفتحته. بدأت أستعيد توازني وعافيتي، إذ انكشف وجهي للهواء البارد المنعش. لمحتني صاحبة الدار، وقد خرجت إلى فناء البيت لقضاء حاجة، ففهمتْ بسرعة: ألله عليّ. الجمر ما قطّع كفاية، لا تؤاخذني أستاذ، الحمد للّه على السلامة !
المعلّمون في المدرسة كانوا جميعهم أغرابا. معظمهم من الرامة المجاورة، يأتون بيت جن صباحا، ويغادرونها بعد الدوام، في سيّارات مستأجرة. لكن كيف لي أنا، الوحيد من البقيعة، المجيء يوميّا في الصباح، والعودة بعد الدروس إلى قريتنا ؟ لذا استأجرت الغرفة تلك في بيت جنّ، كما ذكرت، ومثلي كان معلّمان من المغار البعيدة أيضا.
كنّا ثلاثتنا نقضي أيّام العمل الخمسة من الأسبوع، في بيت جنّ. كلّ ينام في غرفته المستأجرة، لكنّنا نقضي، في الغالب، أوقاتنا معا. نجلس معا، ونقضي سهراتنا معا. في غرفة أحدنا حينا، أو عند أحد معارفنا من القرية أحيانا. في كلّ جلسة عند أحد المعارف في القرية، عصرا أو في السهرة، لا بدّ من تناول العنب البيت جنّي. العنب في رأيهم يشتهيه المرء بين الحبّة والحبّة، ونحن المعلّمين الأغراب لا يمكننا إلا الأخذ برأيهم راضين شاكرين طبعا.
بيت جنّ يومها كانت بلد العنب دونما منازع. سفوح القرية كلّها خضراء في الربيع والصيف، تغطّيها أشجارالكرمة، والأهالي لا عمل لهم إلا تعهّد كرومها، من الموسم للموسم. يعملون في كروم العنب جميعهم، الرجال والنّساء. بل إن دور النساء كان أوسع وأجلّ من دور الرجال ! لا أعرف ماذا أصاب كروم العنب كلّها في بيت جن: مرضت مرّة واحدة، وانتحرت مرّة واحدة. هذا ما سمعناه، بعد انتفالنا من القرية.
في المدرسة علّمت كلّ المواضيع في الصفوف الدنيا. أمّا الصفوف العليا، السابع والثامن بشكل خاصّ، فلا بدّ فيها من "التخصّص". لذا علّمت فيها اللغة العربيّة. من الموادّ المهمّة جدّا، والمعلّم لا بدّ له من تعليمها متوسّعا، لاميّة السموأل، "إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه.." من الشعر الكلاسيكي، وقصيدة " إسرائيل، خواطر مواطن عربي بمناسبة عيدها العاشر"- نورُ تألّق في سماءالمشرقِ..". القصيدة الثانية من البحر الكامل، تمتدّ 33 بيتا من الرياء الرخيص. كان تعليمها يُفرض على المعلّمين كلّ سنة، احتفاء بالعيد السعيد. وكلّ سنة كنت أسجّل أنّي علّمتها في اليوميّات، ولا أذكر أنّ نفسي قحمت على تعليمها يوما !
أمّا القصيدة الثانية، لاميّة السموأل، فكنت أعلّمها جاذّا. فهي قصيدة كلاسيكيّة معروفة، تكاد تختزل في أبياتها كلّ القيم العربيّة في الجاهليّة. لم يهمّني يومها، ولا يهمّني اليوم، إذا كان السموأل صاحب القصيدة يهوديّا فعلا- شموئيل بن عاديا- أو غير يهودي. لم يشغل بالي هذا الأمر، مثل إبراهيم طوفان. القصيدة مثال للشعر الجاهلي، والمجتمع العربي قبل الإسلام. هذه هي قيمتها في نظري، ولا قيمة لديّ لقائلها. حتّى إذا كان السموأل يهوديّ المذهب، فقصيدته عربيّة تعكس القيم العربيّة في الجاهليّة، وصاحبها عربيّ اللغة والثقافة والقيم، وليكن دينه ما يكون !
قصيدة السموأل هذه تذكّرني بطرفة، فيها عبرة أيضا. لا أعرف لماذا تغيّبت يوما فعلّم أحد الزملاء القصيدة لصفّي في غيابي. ارتجالا طبعا. دخلت الصفّ بعدها، وبدأنا بقراءة القصيدة وشرحها تفصيلا. وصلنا البيت الذي يقول فيه الشاعر: "وما مات منّا سيّد حتف أنفه / ولا طُلّ منّا حيث كان قتيلُ". رأيت التلاميذ يتغامزون محاولين خنق ابتساماتهم. سألتهم ما سبب الغمزات والابتسامات المخنوقة، فأفادوني أنّ الزميل الذي دخل الصفّ في غيابي شرح لهم الشطر الثاني من البيت بأنّ الشاعر يفخر فيه أنّ قومه لا يتركون قتلاهم في ساحة المعركة فيسقط عليهم الطلّ / الندى. تعلّمت أنا أيضا من هذه الحادثة أن يمتنع المعلّم عن قول ما لا يعلم، وأنّ للغة مراجعها ومعاجمها إذا لم نعرف دلالة الكلمة. لا ينفع فيها التخبيص المرتجل !
بيت جن كانت يومها بلد العنب والثلج. العنب ألمّت به آفة، في آتي السنين فأتت عليه تماما، كما أسلفنا. أمّا الثلج فبقي على وفائه، يزورها مرّة أو أكثر في السنة الواحدة، ولا يخلف ميعاده.
نهضت من نومي، في أحد الأيّام، فإذا الدنيا بيضاء كلّها. الثلج لا يجيء بيت جن في مواعيد ثابتة من فصل الشتاء، فتعلن فيها العطلة. لذا قصدنا المدرسة في ذلك اليوم الأبيض صباحا فإذا الساحة خالية. لم يأت ِالمدرسة في ذلك الصباح سوى تلاميذ قلائل لم يتنازلوا عن العلم في ذلك اليوم الأبيض، أو تنازل عنهم أهلهم، فأرسلوهم إلى المدرسة، حفاظا على الهدوء في البيت.
كان لمعلّم الرياضيّات وصفة ناجعة في مثل هذه الأيّام القاسية. جمع التلاميذ المواظبين هؤلاء، ولم يتجاوزا عدد صفّ واحد، في إحدى الغرف، وأعطاهم مسائل حسابيّة ثقيلة باهظة، لحلّها في الصفّ، في صمت طبعا. لم يحلّ المسائل تلك سوى أفراد، وإذ خرجوا فرصة، سارعوا إلى بيوتهم المدفّأة بالوجاقات، فلم يبق منهم أحد !
يوم الثلج الثقيل يوم عطلة غير معلنة في بيت جن. رجعت إلى غرفتي قبل الظهر بساعتين، وإذ لم أجد ما أعمله قرّرت السفر إلى البيت، إلى الأهل في ذلك اليوم المثلج. حزمت أمري وشنطتي وارتديت معطفي، وسرت مشيا على الأقدام حتى "السهلة"، على طريق الرامة – البقيعة، منتظرا الفرج بقدوم الباص. مشوار لا أنساه ما حييت. يتساقط الثلج على أكتافي فأنفضه عني، ولا تبتلّ ملابسي حتّى. ما زال مشواري تحت الثلج، من بيت جن إلى "السهلة" ماثلا في ذهني كأنني قمت به أمس. أتذكّره فيمتلئ القلب بهجة، وملابسي عليّ ندْفا !
في أواسط أيلول من السنة الثانية في بيت جن، زار مدرستنا المفتّش الطيّب الذكر. استدعاني إليه، وبادرني بالسؤال دون مقدّمات:
- ولك تنتقل على حرفيش، أقرب لك؟
- انتقل شاكرا لك معروفك.
وهكذا انتقلت في أواخر أيلول إلى حرفيش، كما وعدني المفتّش، دونما طلب رسمي. بذلك أكون عملت في بيت جن سنة مدرسيّة واحدة، ذقت فيها ثلجها موسما واحدا، وعنبها موسمين !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار