الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عام على حكم السيسى

محمد حسن خليل

2015 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


عام على حكم السيسى
مقدمة
دفعت مناسبة مرور عام على حكم السيسى كثيرا من الكتاب من مختلف الاتجاهات لتأمل الفترة الماضية. وحتى لو اقتصرنا على النظر إلى مواقف اليسار من حكم السيسى لرأينا أن الصورة الإجمالية فى نهاية العام شديدة الشبه بالصورة فى بدايته: إذ توزع اليسار بين مؤيد مطلق لحكم السيسى ومعارض مطلق له وبين بين، سواء فى بداية العام أو فى نهايته.
بالطبع من الهام جدا لليسار أن يحدد موقفا علميا من حكم السيسى لكى يستطيع أن يتخذ التكتيك الصحيح، ولكن هناك فرق بين تحديد موقف علمى وبين المواقف المزاجية والمطلقة المنتشرة، والتى تأخذ جانبا أو آخر من جوانب الصورة دون تأمل فى اللوحة كلها. إن تحديد موقف علمى يقتضى نظرة شاملة على سلوك جميع القوى المسيطرة طبقيا فى المجتمع، وكذلك جميع القوى الشعبية، وعلى ربط السلوك فى السياسة الداخلية والخارجية معا، مع ربط هذا السلوك بمصالح القوى المدافعة عنه. إن النظرة الشاملة لتوازن القوى المجتمعية والطبقية فى المجتمع ككل هو الأساس لتحديد موقف علمى وليس موقفا أخلاقيا كثيرا ما يتراوح بين النقيضين الأبيض والأسود، دون حكم علمى شامل وصارم.
لماذا اكتسبت ثورة 30 يونيو عداء الغرب؟
ولعل من المناسب أن نبدأ بتأمل ميزان القوى الذى أنتج ثورة 30 يونيو 2013 التى كانت سببا مباشرا فى مجئ السيسى رئيسا للجمهورية. نبدأ بالقوى الخارجية ليس من زاوية أنها تأتى فى المرتبة الأولى فى الأهمية بقدر ما إنها هى القوى التى تسقط من حسابات العديد من القوى بما فيها من قوى يسارية، ويؤدى إغفالها أو تقليل وزنها إلى أخطاء شديدة فى مواقف اليسار.
أول ظاهرة تستدعى الاهتمام الشديد هى العداء الشديد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها فى أوروبا الغربية للنظام الجديد واعتباره انقلابا عسكريا، وإصرارهم على دعم الإخوان المسلمين وهم فى الحكم عند تصاعد القوى المعادية لهم، ومحاولة دفعهم بعد 30 يونيو لإعلان حكومة شرعية فى رابعة العدوية، والوقوف لمدة طويلة وراء هدف عودتهم للحكم باعتبارهم الحكم الشرعى، ثم بعد التأكد من عدم إمكانية حدوث هذا، الوقوف ضد "عزلهم" ومع إسقاط القضايا ضدهم وإدماجهم فى الحياة السياسية بأمل عودة مقبلة للحكم من جديد، فما هى أسباب تلك الظاهرة؟
بالطبع لا يمكن أن نصدق السبب المعلن من قبل القوى الإمبريالية بأن هذا انقلاب على الشرعية، فتلك الدول عملت طوال عمرها على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن مسألة الشرعية، وتكفى أمثلة شيلى بنو شيه وإسرائيل والسعودية لبيان موقفها من الديمقراطية والشرعية. كما وإن ثورة 30 يونيو كانت ثورة شعبية أضخم بكل المقاييس من ثورة 25 يناير التى عزلت مبارك وأيدت القوات المسلحة عزل الرئيس مبارك واعتبرها الغرب ثورة وليست انقلابا عسكريا! ناهيك عن أنه فى أعقاب ثورة 25 يناير حكم المجلس العسكرى صراحة بينما فى أعقاب 30 يونيو حكم رئيس مدنى هو رئيس المحكمة الدستورية، وأتت وزارة مدنية تحتوى على قسم أساسى من الأحزاب الليبرالية التى عارضت كل من مبارك ومرسى، ولكن كل هذا لم يقنع الغرب من حيث الشكل بأن هذا حكم مدنى أو استجابة لثورة شعبية، بينما أيدوا قادة الجيش الذين حكموا مباشرة باسم المجلس العسكرى فى أعقاب عزل مبارك!
ولعل هذا أيضا من النواحى المثيرة للتعجب، فلم يعرف عن أى عداء ذو وزن قبل ذلك بين الولايات المتحدة و قيادات الجيش المصرى، فما هى العوامل التى أدت إلى هذا الشقاق؟ لو تتبعنا الكتابات الأمريكية فى فترة المحافظين الجدد وامتداداتها أيام أوباما فيما يخص بلدنا والبلدان المشابهة لوجدناها تمتلئ تحريضا على ما تسميه القومية المتشددة extreme nationalism أو القومية المتطرفة fanatic nationalism، وهو العنوان الذى يقف وراءه نزعة العداء للدول القومية والسعى لتفتيتها من أجل إضعافها وجعلها لقمة سهلة سائغة لأطماع تلك الدول فى استغلال ثرواتها ومواقعها. إن عصر العولمة والعالم أحادى القطبية وإنطلاق أشرس نزعات الإمبريالية فى السيطرة هى التى قادت إلى ما عرف بالبلقنة، والمقصود تفتيت الدول القومية، تفتيت الاتحاد السوفيتى إلى 15 جمهورية، ويوغوسلافيا إلى 6 جمهوريات، والسودان إلى جمهوريتين، والعراق التى نرى التحقق العملى الآن لاستقلال دولة كردية عنها على الأقل.
ومنذ عام 2006 تصرح كوندوليزا رايس بأسطورة الشرق الأوسط الكبير (الذى جاء بعد الشرق الأوسط الجديد) القائم على تفتيت الدول العربية إلى كيانات دينية وعرقية صغيرة وعديدة. وإذا كان الحديث عن تلك المخططات فى أعقاب 30 يونيو مباشرة كان ينظر إليه من قبل العديد من القوى ومن ضمنها بعض قوى اليسار على أنه نظرية مؤامرة، فمن الواضح الآن بالدليل التاريخى الساطع تحقق تلك المخططات فى العراق وسوريا وليبيا واليمن!
طوال عقود لم يكن هناك عداء أو تناقض ذو وزن بين الولايات المتحدة وبين الانظمة الحاكمة فى مصر والسعودية مثلا، ولكن تم اكتشاف أن أمريكا تستخدم الإخوان كمخلب قط فى الوطن العربى كله لتحقيق مخطط التفتيت، وظهر هذا عندما أتو إلى الحكم فى مصر بجهدهم العملى فى خلق إمارة سيناء الإسلامية بتسهيل تسلل مقاتلين من قبل حماس، ومنح الجنسية المصرية لآلاف الفلسطينيين المنتمين أيضا إليها، والإفراج عن الإرهابيين الإسلاميين من قبل مرسى وذهابهم إلى سيناء. كما ظهر أثر الضوء الأخصر الأمريكى الممنوح للإخوان المسلمين للعمل بحرية فى السعودية وفى الإمارات. لقد تلاقت الأهداف بين الإخوان المسلمين الذين لا يؤمنون بالقومية والوطن، والذين يقفون مستعدين لتنفيذ مخطط التقسيم خدمة للغرب فى مقابل موافقته على دعم وصولهم للحكم مع أى غطاء شكلى بادعاء الخلافة فى دولة إسلامية تتبنى قيم أكثر فصائل الليبرالية العالمية حرية فى الاقتصاد والتبعية للغرب.
طوال الفترة بعد الحرب العالمية الثانية كان جهد الإمبريالية هو مواجهة موجات المد القومى والتحرر من الاستعمار، مرتبطا برغبة الإمبريالية الأمريكية فى الحلول محل الاستعمار القديم انجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان. تطورت حركات التحرر الوطنى، واستفادت تلك الحركات من اللعب على التناقض بين المعسكرين الشرقى والغربى. ولكن معظمها فى منطقتنا حقق نجاحا مؤقتا أتبعه فشل، كان مؤشر بدايته فى مصر هو الهزيمة العسكرية فى 1967.
ولكن انفراد أمريكا كقطب وحيد للعالم بعد 1990 فتح شهيتها لمرحلة ثانية من إحكام السيطرة على العالم سواء بمفاقمة التبعية الاقتصادية وبرامج التثبيت والتكيف الهيكلى باتجاه الخصخصة، أو بمخططات العداء للدول القومية والبدء بمخططات تفتيتها من أجل سهولة إخضاعها وإدامة سيطرتها.
كان لابد وأن تقود تلك المخططات فى حالة كشفها إلى تناقض بين أعتى الأنظمة رجعية وبين الولايات المتحدة، فالأسرة الحاكمة السعودية لن ترضى طبعا بتفتيت مملكتها إلى نجد و الحجاز والمنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية، وكذلك النظام الحاكم فى مصر وكل الأنظمة الحاكمة. لم يكن هذا التصور حاضرا فى ظل المجلس العسكرى عندما قرر التحالف مع الإخوان المسلمين فى مواجهة الثورة.
ميزان القوى الذى أنتج ثورة 30 يونيو
وإذا كانت السلطة فى جميع البلاد الرأسمالية تستند أساسا إلى سلطات أجهزة القوة المسلحة من جيش وشرطة ومخابرات، وهى الأساس، وكذلك إلى البيروقراطية المدنية، فى إطار من العلاقات الوثيقة مع طبقة الأغنياء الحاكمة، فإن الدول الليبرالية تنفذ ذلك من خلال ديمقراطية الحزبين أو الثلاثة مع تداول للسلطة بينهما، بينما تنفذه الدول الديكتاتورية وكذلك دول التعددية المقيدة مثل مصر قبل ثورة 25 يناير، من خلال السيطرة المباشرة للأجهزة العسكرية مع قشرة من الغطاء المدنى الضرورى المحدود.
لم يكن التناقض الوحيد بين الإخوان والسلطة الحاكمة فى مصر (وقلبها كما أوضحنا الجيش والشرطة والمخابرات وغيرها من أجهزة الأمن) مجرد جهدهم فى تنفيذ المخطط الأمريكى لتقسيم المنطقة، لكنهم أيضا سعوا للانفراد بسلطة الدولة دون مشاركة مناسبة وكانت متوقعة من قبل النظام القديم، وسعيهم إلى هدم الدولة المدنية القائمة نظريا على توازن المصالح من خلال المؤسسات المدنية وعلى رأسها البيروقراطية وسلطة القضاء. وبدا هذا العداء سافرا بعد اتضاح مؤامرة الإخوان أيضا فى هذا المجال بعد إعلان مرسى الدستورى فى 22 نوفمبر 2012.
هنا نحن فى مواجهة موقف أصيل، أى متفرد تاريخيا: فنظام مبارك ورجاله ذوى العلاقة الوثيقة بالغرب وبالذات الولايات المتحدة يدخل فى تناقض معها حينما تسعى لهدم الدولة وتفتيتها على غرار المخططات فى ليبيا وسوريا والعراق وأخيرا اليمن، والشعب المصرى الثائر يدخل فى تناقض أصيل مع طريقة الإخوان فى الحكم الاستبدادى الرجعى المتخلف، ويستمر بأنشطته الثورية النضالية من مظاهرات ومليونيات واعتصامات ضده، ولهذا السبب يظهر توافق مؤقت بطبعه فى الأهداف بين الشعب الثائر وبين النظام القديم، يتمثل فى الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، أكثر الأقسام رجعية وعمالة داخل الطبقات المالكة.
أدى هذا التحالف الموضوعى، أى الالتقاء المرحلى فى الأهداف، إلى ثورة شعبية لا شك فيها تمت بمشاركة عشرات الملايين فى كل محافظات مصر وباستمرارية وبسالة، كما أدى إلى تصدى جهاز الدولة من شرطة وجيش وبيروقراطية، إلى القوى المنظمة والمسلحة للإخوان المسلمين وغيرهم من الفصائل الإرهابية مما وفر على الشعب الكثير، لأن غياب مشاركة النظام القديم ضد الإخوان كان لابد وأن يفضى إلى حرب أهلية هائلة حتى يتسلح الشعب ويقدر على مواجهة الجهاز المسلح التاريخى الضخم للإخوان، وكان هذا يتيح تدخلا استعماريا غربيا. بدا هذا واضحا فى حديث مرسى للسيسى قبل وعند الإطاحة به "أمريكا لن تسكت"، كما بدا فى تحركات قطع بحرية أمريكية بالقرب منا بعد 30 يونيو مباشرة.
وحرص المجلس العسكرى وأجهزة أمنه، ليس فقط إلى إبراز طابع المشاركة الشعبية فى الثورة لنفى صفة الانقلاب العسكرى عنها، ولكن أيضا على أن يتولى الحكم مدنيين –رغم بقاء أجهزة القوة فى الدولة فى الخلفية كأقوى عنصر طبعا مثل أى دولة رأسمالية. وهكذا أتى برئيس مدنى هو رئيس المحكمة الدستورية، وبحكومة مدنية تضم رجال النظام القديم، نظام مبارك، بالمشاركة مع رموز ليبرالية معارضة لمبارك مثل أحزاب الدستور والمصرى الديمقراطى الاجتماعى والوفد، ورجالهم مثل البرادعى نائب رئيس الجمهورية والبرعى وزير التضامن الاجتماعى (المنتمين إلى حزب الدستور) والببلاوى رئيس الوزراء وزياد بهاء الدين نائبه (المنتمين إلى الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى) مع وجهين تجميليين ينتمون إلى الناصريين هما الدكتور حسام عيسى والنقابى الشهير كمال أبو عيطة الذين لم يُمكنوا من فعل شيئ يذكر طوال توليهم مناصبهم.
مواقف اليسار من 30 يونيو
ويهمنا هنا أن نقف وقفة مع رؤية اليسار وتحليل فصائله المختلفة لهذا الوضع المعقد، فهذا هو منشأ التعددية، بل والتناقض، فى المواقف السياسية بين مواقف فصائل اليسار، بل وبين الفصائل الليبرالية أيضا كما سنرى.
فى الحقيقة إن القضية المركزية فى كل ثورة هى قضية السلطة. وميزان القوى بعد ثورة يناير كان بعيدا عن أن يملك السلطة للثوار، بسبب ضعف قوى الثورة. قوى الثورة ليست شيئا غير مستوى تسييس الجماهير، ومستوى وعيها، ومستوى نضج تنظيماتها السياسية والنقابية والأهلية، مع تبلور تنظيمات قيادية بينها تلف حولها قسما محترما من الجماهير المسيسة. وكان مستوى التسييس والتنظيم محدودا بسبب ستة عقود من غياب الديمقراطية. ولكن مناخ الثورة نفسه هو أهم وأسرع عوامل إنضاج الوعى الجماهيرى. إن ميزان القوى كان يفرض على القوى الحاكمة أن تقدم بعض التنازلات، مع عدم نسيان القانون الأساسى فى كل ثورة، وهو أنه لابد وأن يعقبها نهوض الثورة المضادة وازدياد شراستها عشرة أضعاف لحفاظ على مكاسبها التى تهددها الثورة.
استمرت قوى الثورة تضغط بعد تنحى مبارك وتحرز نجاحات فى إزاحة وزارة شفيق والقبض على رجال مبارك ومبارك نفسه وأولاده ومحاكمتهم. ساعد الخوف من هذا التصاعد، بالذات بعد عدم نجاح موجات مذابح قمع الثورة المكثفة مثل أحداث ماسبيرو وميدان التحرير ومجلس الوزراء، ساعد هذا على تحالف رموز النظام القديم مع الإخوان، باعتبارهم قوة منظمة ضخمة وتشترك مع الطبقة الحاكمة فى نفس المصالح، حتى فشل هذا التحالف كما سبق وأوضحنا.
بعد فشل تحالف النظام القديم مع الإخوان كما استعرضنا، لجأت الطبقة الحاكمة فى 30 يونيو إلى التحالف مع المعارضة الليبرالية كما أوضحنا أيضا، كما خاضت نضالا شديدا ضد الإرهاب محليا وإلى حد ما إقليميا فى ليبيا بالذات.
بدأ الصدام بين طرفى التحالف الحاكم، النظام القديم بقلبه العسكرى المخابراتى والتيار الليبرالى سريعا. كان محور الصدام هو شكل ومستوى الصدام مع تيار الإخوان، وما يصاحبه من شكل ومستوى الصدام مع أمريكا حاميته. وضح منذ البداية ميل تيار حزبى الدستور والمصرى الديمقراطى الاجتماعى إلى تكتيك المصالحة مع الإخوان مع عدم الاصطدام بالحليف الأمريكى. وهناك تيار آخر أضعف وسط التيار الليبرالى أشد شراسة فى عدائه للإخوان تمثل فى حزب المصريين الأحرار، وإلى حد ما الوفد من زاوية تأييده للسلطة وعدم بعده عنها.
نحن هنا إزاء صراع وجود، صراع على قمة السلطة بين تيارين ينتميان كليهما إلى نفس الحلف الطبقى المالك، ولكنهما يتصادمان على محورين خطيرين يمثلان قضيتين فى منتهى الأهمية فى نظر الطبقات الشعبية وقواها الثورية: فتيار الإخوان يصطدم بالدولة المدنية ويهدف لتحطيمها تحت زعم دولة الخلافة، كما يستقوى بأمريكا والغرب فى محاولة كسب الصراع على السلطة. ويقف ضد هذه الأهداف تيار الدولة القديمة. هنا لابد للشعب ولتياراته الثورية ألا تأخذ موقفا عدميا من هذا الصراع، ولا يمكن أيضا أن تتخذ الموقف الخاطئ من هذا الصراع.
حدد الموقف من هذا الصراع كل المسار السياسى فى مصر حتى الآن. رأينا أن أغلبية التيار الليبرالى وقف حجر عثرة فى وجه الصراع مع الإخوان، مما اضطر السيسى لأن يستعين بالشعب بسؤاله التفويض فى فض الاعتصام. لقد كان الاعتصام، بالذات مع نصائح السفيرة الأمريكية لهم بإعلان حكومة فى رابعة، وهو ما فعلوه فعلا، والتكثيف الشديد فى تسليح اعتصامى رابعة والنهضة وتهريب الأسلحة والمقاتلين من ليبيا ومن غزة، وتدريب القوات، ما ينذر بخوض صراع مستمر مع الجيش يصمد لفترة تكفى لكى تتخذ ذريعة للتدخل الأجنبى لنصرة حكومة مرسى الشرعية فى رابعة وضد الانقلاب العسكرى، وبهذا تدخل مصر فى السيناريو الليبى والسورى.
لقد حاول التيار الليبرالى بقيادة البرادعى تعطيل المواجهة العسكرية مع الإخوان فى هذا الصدام على السلطة بكل قوته مما أدى ليس فقط إلى لجوء السيسى للشعب لطلب التفويض الذى تم يوم 26 يوليو، ولكن أيضا تعويقه بعد ذلك، بل وعندما تم فض الاعتصام بالقوة فى 14 أغسطس استقال البرادعى من منصب نائب رئيس الجمهورية وخرج خارج مصر لكى يناصر الإخوان ضد "استبداد العسكر". بل وواصلت وزارة الببلاوى نفس الرسالة الرديئة سواء بمبادرة زياد بهاء الدين المؤيدة من رئيس الوزراء بالصلح مع الإخوان المسلمين فى ذروة المعركة على السلطة والتهديد الأجنبى، كما لم تقم حكومة الببلاوى بتطهير الخارجية من سفراء الدول الرئيسية الإخوان الذين عينهم مرسى، كما لم تتم إقالة رؤساء الجامعات الإخوان.
أما اليسار بتياريه القومى واليسارى فقد انقسم أيضا على نفس القضية. قرر تيار متطرف وسط اليسار الانحياز، نتيجة لتحليل خاطئ وقصير النظر، إلى ما يسميه بالديمقراطية التى تتسع لتيار الإسلام السياسى الإرهابى، وضد حكومة "الانقلاب"! شمل هذا التيار أغلبية القوى الناصرية وبالذات مرشحها الرئاسى حمدين صباحى، كما شمل قلة من التيارات اليسارية المتطرفة من الاشتراكيين الثوريين وغيرهم، وتأثر بهم إلى درجة كبيرة تيارات يسارية أخرى.
من المثير للتأمل مستوى قصر النظر فى تقييم فض اعتصامى رابعة والنهضة من زاوية تجاوزات الأمن أو عدم اتباع الخطوات التقليدية فى فض الاعتصامات بالتدرج من الإنذار ثم قنابل الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه قبل الانتقال للسلاح. بالطبع مثل هذا التدرج لا ينطبق إطلاقا على الاعتصام المدجج بالسلاح، وليس ما يعنينى هنا فى المحل الأول هو تأكيد أو نفى حدوث تجاوزات أمنية أثناء فض الاعتصام، ويمكن بالطبع أن تكون بعض التجاوزات قد حدثت. ولكن تقييم الموقف من النافذة الضيقة للتجاوزات وإغفال البعد الرئيسى فى الموضوع، وهو رؤية الصراع الخطير على السلطة بين قوة إرهابية تستقوى بأمريكا وتهدم الدولة المدنية، وبين قوة النظام القديم مؤيدة من قبل الشعب ضد الإخوان، ورؤية ذلك الصراع من تلك الزاوية بالغة الضيق. ولكن الكثير من منظمات حقوق الإنسان قد اتخذت من مواثيق حقوق الإنسان دينا جديدا، وأخذت تحكم على الأحداث التاريخية من زاوية مرجعية مثالية اسمها حقوق الإنسان بدلا من محاولة فهم تفاعل القوى الاجتماعية والطبقية التى انتجتها. لم يبق لمنظمات حقوق الإنسان فى تطبيق تلك المعاييرسوى أن تدين الإمبراطورية الرومانية وتسقط إنجازاتها الحضارية باعتبارها قائمة على عمل العبيد!
لقد كانت الميزة الرئيسية فى النظام التالى لثورة 30 يونيو هى التصدى الحاسم للإرهاب وللمخطط الدولى ورائه، رغم الطابع العسكرى الأساسى للتصدى دون تصدى جماهيرى وفكرى وتنويرى، ورغم الموقف البرجماتى غير المبدئى مع الأحزاب القائمة على أسس دينية بالمخالفة للدستور.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه رغم ارتفاع مستوى تسييس الشعب وزيادة نسبة مشاركته فى العمل العام ونمو المظاهر الاحتجاجية والإضرابية مع ميله لانتزاع تنظيماته المستقلة الحزبية والنقابية وغيرها بمعدلات كبيرة، إلا أن مستوى شعبية كل التيارات الحزبية وسط الجماهير مازالت محدودة حيث إن تغلغل الأحزاب داخل الجماهير يقتضى وقتا أطول وتجربة سياسية أوسع. ولكن موقف الشعب كان الانحياز للرئيس السيسى وإلى الإطاحة بالإخوان. ظهر هذا فى النزول لتفويض السيسى فى 26 يوليو، كما ظهر فى نجاح السيسى الساحق فى انتخابات الرئاسة بما يشبه الإجماع.
رأينا بعض فصائل اليسار ويمثلها الاشتراكيون الثوريون يتخذون موقفا خاطئا يساريا متطرفا من صراع السلطة فى 30 يونيو بالوقوف ضد الجيش والتحالف مع الإخوان أحيانا ومع مصر القوية أو السلفيين أحيانا أخرى ومع قوى تنتمى لمعسكرالإرهاب والخيانة مهما تقنع بعضهم بقناع الاعتدال. كما رأينا فصائل من اليسار ونموذجها حزب التجمع تقف وراء السيسى بدون تحفظ. وتباكى الكثيرون فى الشهور التى تلت 30 يونيو على انفضاض تحالف 30 يونيو. فما هو الموقف المبدئى فى مثل ذلك الظرف الذى لا يخلو من التعقيد؟
الموقف المبدئى لليسار
رأينا كيف أن التحالف الموضوعى الذى صنع 30 يونيو يضم الثورة والنظام القديم معا، فهو تحالف مؤقت بالضرورة لأنه يضم أطرافا ذات مصالح استراتيجية متناقضة. ولكن هناك عنصر هام لابد من أخذه بعين الاعتبار فى تكتيك اليسار. لقد نشأ شرخ فى العلاقة بين التابع، النظام القديم، وبين المتبوع طوال عهد مبارك، وهو أمريكا. ومن مصلحة القوى الثورية تعميق ذلك الشرخ من أجل تقليل براثن التبعية التى يغرق فيها النظام القديم. لم يكن النظام القديم غافلا عن أن أزمته مع الولايات المتحدة تضعه فى مأزق استراتيجى بسبب عمق العلاقات الاقتصادية والعسكرية معها ومع مؤسسات التمويل الدولية فى الجانب الاقتصادى.
سياسات نظام 30 يونيو الخارجية
سعى النظام حتى قبل 30 يونيو، بينما كان السيسى وزير دفاع، إلى البحث عن مصادر أخرى للسلاح، فزار روسيا وعمل على توثيق العلاقات معها قبل وبعد توليه الرئاسة، سواء فى المجالات الاقتصادية (القمح، الآلات، المحطات النووية) أو فى المجالات العسكرية (صواريخ SS300، طائرات ميج 29). كما سعى لانتهاج سياسة مستقلة فى أفريقيا تسعى للتنمية المشتركة وتقطع الطريق على استقطاب إسرائيل للدول الأفريقية مع مخططاتها لحصار مصر مائيا فى منابع النيل. لقد قدمت مصر المساعدات التنموية من نوع مشروعات رصف طرق ومقاولات وتقديم منح دراسية لجنوب السودان وشمالها وتشاد وغيرها فى إطار التعاون التنموى ونسج العلاقات الودية المفيدة فى النهاية فى التنمية المشتركة. كما عالجت بحكمة موضوع سد النهضة بعد الفضائح التى حدثت فى عهد مرسى، خصوصا بعد اتضاح الأمر الواقع وهو أن معظم السد قد تم بناؤه.
ولكن للسياسات الخارجية وجهها الآخر منها توثيق العلاقات مع السعودية، سواء فى عهد الملك عبدالله ودعمه هو والكويت والإمارات الضخم لمصر بحوالى 21 مليار دولار خلال العام التالى لثورة 30 يونيو، أو فى عهد سلمان ذو العلاقة الأوثق بأمريكا. ولن تخلو تلك العلاقات والمساعدات من الضغوط وإمكانيات الضغوط فى مجال حل المشاكل الإقليمية فى سوريا واليمن وغيرها، ولكن تلك المواضيع تستأهل من بعض التفاصيل التى ليس مجالها هنا.
إلى أى مدى تستمر تلك السياسة؟ ذلك غير محدد مسبقا بالطبع، ولكن لا يمكن أن يأخذ هذا الاتجاه الاستقلالى مداه بدون سياسة اقتصادية تسعى للاعتماد على الذات والتنمية التى تهدف للاعتماد على الذات فى الاكتفاء الذاتى الغذائى وفى بناء هيكل صناعى حديث متكامل يشتمل على الصناعات الثقيلة وصناعة الآلات والصناعات عالية التكنولوجيا. يتضمن هذا بالضرورة تقليص والفكاك من بعض أسر التبعية والاعتماد على الغرب، استفادة من بزوغ عالم جديد متعدد الأقطاب بالذات روسيا والصين، وبدون إغفال الهند والبرازيل وغيرها.
ترابط السياسة الخارجية والداخلية
كما لابد وأن يترابط هذا مع سياسة داخلية ديمقراطية تعبئ الشعب فى هذا الاتجاه التنموى المعادى للاستعمار. من مصلحة قوى الثورة تأييد الخطوات المتخذة فى هذا السياق، ورفض السياسات المعاكسة لهذا الاتجاه ونقدها، وتعبئة الشعب بشكل مستقل للدفاع عن حرياته وعن أهدافه فى التنمية المستقلة وتقليص التبعية.
إذن لا يمكن إعطاء تفويض على بياض للنظام الجديد أو القديم فى ثوبه الجديد، كما لا يمكن إدانته والدعوة إلى إسقاطه وهناك ما هو مشترك بيننا فى محاربة الإرهاب والقوى الإمبريالية المناصرة له، وكذلك فى تقليص التبعية والسعى نحو التنمية المستقلة كإمكانية فى تلك الظروف مشروطة بقدرة الجماهير المستقلة على الضغط فى اتجاهها. وهذا التوازن فى العلاقة متغير بالضرورة من لحظة وأخرى حسب خطوات النظام فى هذا الاتجاه أو فى الاتجاه المعاكس.
الديمقراطية فى مصر
كيف تطورت قضية الديمقراطية فى الفترة التالية للثلاثين من يونيو؟ كان أهم مكسب حققه الشعب هو إنجاز أفضل دستور فى تاريخه يحتوى، رغم بعض العيوب، على اعتراف لا شك فيه بحق الشعب فى الحريات وفى العدالة الاجتماعية وفى حقوق العمل والسكن والصحة والتعليم والمرافق وغيرها.
ولكن الدستور لا يحقق نفسه بنفسه فلابد من تحويله إلى قوانين ولوائح وتنفيذها فى الحياة الواقعية. ولكن ما حدث بعدها باختصار هو سعى النظام إلى التضييق على الحريات الديمقراطية، وكسب الشعب من ناحية الأمر الواقع، نظرا لميزان القوى الناتج عن الثورة، كسب انتزاع حقوق فعلية.
لابد أن فترة وزارة الببلاوى وما صاحبها من سلوكيات سياسية مزعجة من زاوية التصدى لمخطط الإخوان قد افقدت النظام قراره السابق بتوسيع دائرة الديمقراطية داخل الطبقة المالكة نظرا لفشل تجربتى التحالف مع التيارين الدينى والليبرالى، كما لابد وأن يؤدى تصاعد النضال الجماهيرى بالذات الحركة الإضرابية العمالية إلى محاولة النظام فرض مزيد من القيود على الحريات. أتت قوانين التظاهر وتقييد الإضرابات وعودة عنف الشرطة فى التعامل مع الجمهور وعودة القهر والتعذيب فى الأقسام، أتت بتدهور حقيقى محسوس فى قضية الديمقراطية لم يحد منها إلا توازن القوى الاجتماعية فى أعقاب الثورة، الذى يفضح ويشهر وينجح فى تحقيق بعض المكاسب مثل محاكمة قتلة شيماء الصباغ ومرور النيابات على أقسام البوليس وغيرها. ومجال الحريات من المجالات الهامة التى يجب الوقوف ضد كل محاولات النظام للحد منها، والانتصار للمزيد من توعية الشعب وتنظيمه.
وفى هذا الإطار برز من جديد توجيه السلطة لرجال الإعلام، مع بروز القنوات الفضائية الخاصة والصحف الخاصة المتحدثة باسم كبار رجال أعمال عصر مبارك، مع بروز دور إلهاء الشعب وتناقص دور البرامج السياسية وبرامج التوك شو. برز أيضا اتجاه الإعلام المعادى للديمقراطية من زاوية تحقير الأحزاب ووصفها بالأحزاب الكرتونية كتبشير غير مباشر بالمستبد العادل المتمثل فى الرئيس المتشبه بعبد الناصر، وتناسى دور الممارسة الديمقراطية المحدودة وأثرها على تعرف الشعب على الأحزاب. كما تردد الحديث عن أهمية تعديل الدستور بعد مجئ مجلس الشعب لزيادة نصيب الرئيس من المسئوليات التى انتقص منها الدستور لصالح البرلمان!
وجاء إصرار الحكومة على قانون انتخابات ردئ وقوائمه المطلقة الأشبه بالتعيين، ورفض كل الاعتراضات من القوى الديمقراطية والليبرالية، مما أوقع القانون فى مصيدة عدم الدستورية، ورغم ذلك لم تتعظ الحكومة وتسعى إلى قانون جديد لا يفضل السابق كثيرا مما يهدد بالطعن عليه أيضا. وهكذا تأجل ما يسمى بالاستحقاق الثالث وهو الانتخابات البرلمانية لاستكمال الاستقرار!
موقف المعارضة الليبرالية
ونقف هنا أمام علامة هامة على سلوك الاتجاه الليبرالى الذى أشرنا إليه آنفا، والواضح فى المقالة الشهيرة للدكتور محمد أبو الغار رئيس الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، والذى عنونها "وهم البرلمان"، حيث انتقد انتقادا لاذعا تلكؤ الحكومة العمدى فى الاستماع لصوت المعارضة وإقرار قوانين غير ديمقراطية تهدد كون البرلمان تعبيرا حقيقيا عن الشعب. المثير هنا هو أنه اعتبر هذا الكارثة الرئيسية المحيطة بمصر (وبالطبع فذلك سلبى على المستقبل) ولكن المثير للانتباه هو الخلو التام لمقالته وملاحظاته اللاذعة من ملاحظة خطر الإرهاب الداخلى المتواطئ مع المخطط الاستعمارى الخارجى، وهو ما يتسق مع رؤية تلك الأحزاب التى تدعو للتصالح مع الإخوان بينما تتغافل عن خطر الإرهاب والمؤامرات الخارجية.
السياسة الاقتصادية
أما فى مجال السياسة الاقتصادية الداخلية والدولية فقد شهدت تحولات هامة. تميزت الفترة التالية لثورة 25 يناير مباشرة بمحاولة إعطاء بعض المسكنات للشعب فى مجال العدالة الاجتماعية من قبل زيادة الحد الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات، وزيادة فى قيمة معاش الضمان الاجتماعى مع زيادة كبيرة فى عدد المستفيدين منه من مليون ونصف إلى مليونين ونصف، مع محاولة تخفيض أسعار بعض السلع الاستهلاكية الأساسية من خلال ربطها على البطاقات التموينية الذكية ومن خلال إعادة شركتى المجمعات الاستهلاكية (النيل والأهرام) من وزارة الاستثمار إلى وزارة التموين بما يتضمن تغيير هدفهم من إنشاء سوبر ماركت بهدف الربح إلى محاولة تحقيق درجة من العدالة الاجتماعية من خلال طرح سلع رخيصة بتوفير أرباح التجار الاحتكارية وشراء المنتجات الغذائية جملة من المنتجين بما فيهم الجيش واستيراد اللحوم وطرحها للمستهلك مباشرة بأسعار تقل بشكل محسوس عن أسعار القطاع الخاص. حاولت الحكومة من خلال تلك الإجراءات عمل قاعدة اجتماعية للنظام الجديد فى وسط أفقر الفقراء. رغم تأثيرها فى قطاعات معينة إلا أنها كانت أقل كثيرا من الحد الأدنى الضرورى لمواجهة مستويات الفقر العالية التى شملت ما يزيد عن نصف الشعب، إذ ارتبطت تلك السياسات أيضا بالسياسات الانكماشية برفع أسعار الوقود وما تلاه من رفع سلة الأسعار كلها بما فيها السلع الغذائية حيث زادت تكلفة الرى والزراعة والنقل. وبالطبع كسبت الأسعار سباقها مع الزيادات المتواضعة فى الأجور.
أما فى محاولات الحد من امتيازات كبار الأثرياء فقط فشلت السلطة بامتياز. خسرت السلطة معركتها بالتنازل عن تطبيق الحد الأقصى للأجور أمام القضاه ورجال البنوك وقطاع البترول والعديد من القطاعات الأخرى. ترددت الحكومة فى الخصخصة ولم تتم خصخصة ذات بال فى السنوات الأربع التالية لثورة 25 يناير. إلا أن المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ كان مؤشرا هاما على أن الحكومة قد استجمعت أمرها أخيرا على أن تسير بهمة فى تنفيذ باقى بنود خطة مبارك الاقتصادية.
ظهر هذا بالذات فى التشريعات المحابية للطبقات القادرة، وبالذات قانون تحصين عقود الدولة من الطعن إلا من قبل طرفى التعاقد فقط، والذى عرف بقانون تحصين الفساد، بعد تجربة الحكومة فى حكم المحكمة بإلغاء ستة عقود لبيع أصول الدولة نظرا لما شابها من فساد هى عقود بيع شركات المراجل البخارية وطنطا للكتان وعمر أفندى وغيرها وغيرها. كما صدر منها ثلاث تشريعات فى يوم واحد، 12 مارس سنة 2015، عشية المؤتمر الاقتصادى. اختص الأول منها، القانون 16 لسنة 2015، بتعديل بعض إجراءات قانون الإجراءات الجنائية بما يسمح بالتصالح مع المستثمرين (إذا لم تكن هناك نية الفساد؟!) حتى فى حالة نهب أموال الدولة، وحتى لو كان قد صدر حكم نهائى وبات فى القضية! كما ظهر فى القانون رقم 17 الخاص بالاستثمار والذى يعطى تسهيلات جمة للمستثمرين بسلطة مجلس الوزراء تشمل رد ما دفعوه من رسوم جمركية وإعطائهم أراض مجانا وتحمل تكلفة توصيل المرافق لها بعد بدء إنتاج المشروعات وغيرها وغيرها.
وصدر فى نفس اليوم قانون رقم 18 لسنة 2015 الخاص بالوظيفة المدنية والذى ينطبق على أكثر من خمسة ملايين موظف بالدولة. كل تلك القوانين، ما يقرب من 400 قانون يصدرها رئيس الجمهورية فى غياب مجلس الشعب، ومطلوب من المجلس الجديد إقرارها خلال أسبوعين من انعقاده! وبالطبع تصدر تلك القوانين دون عرض مسوداتها وتوفير الآليات الكافية للتشاور مع المجتمع المدنى فيها.
استغلت الحكومة صلحا عمليا مع أمريكا والغرب واستأنفت نمط "التنمية" المعتمدة على حرية المستثمرين المحليين والأجانب، فخفضت الضرائب عليهم وتوسعت فى سلطات مجلس الوزراء فى مزيد من الإعفاءات الضريبية والجمركية والتسهيلات فى منح أراض مجانا وغيرها. وشهد عام 2015 وحده قروضا من البنك الدولى مقدارها 5.3 مليار دولار، لا يزيد عنصر المنحة فيها عن 2.5%. تراجعت الحكومة عن ضريبة البورصة أمام قيام رجال الأعمال بلى ذراعها، وكانت استجابتها فرصة لرجال الأعمال للمطالبة بامتيازات أكثر حيث فضح بعضهم أن الحكومة قد وعدتهم باستئناف برنامج الخصخصة وطالبها بتنفيذه. انتهت السياسة الاقتصادية بإلقاء عبئ الأزمة الاقتصادية أساسا على عاتق الفقراء مع مجاملة الأغنياء إلى الحد الأقصى اعتمادا على نظريات البنك الدولى الذى يرهن "التنمية" بإطلاق حرية القطاع الخاص التى سوف تؤدى إلى "تساقط" ثمار تلك التنمية على باقى قطاعات الشعب؟!
خاتمة
فى مثل الوضع الذى شرحنا تعقيداته التاريخية لا يمكن اتخاذ موقف بسيط سواء بتأييد السيسى أو بالمناداة بإسقاطه فكلاهما خطأ. لابد من اتخاذ موقف مركب يضع فى المحل الأول أهداف الشعب فى مواجهة الإرهاب، وفى تقليص التبعية للغرب، وفى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والسلاح الأساسى فيها هو التركيز على المزيد من تسييس الشعب وتنظيمه وكفاحه من أجل تحقيق تلك الأهداف. لابد من تشجيع الخطوات التى تسير فى اتجاه مصلحة الشعب من زاوية التصدى للإرهاب و التصدى لمخططات التفتيت خصوصا فى الوضع الاستراتيجى الذى يزداد سوءا حولنا وداعش يتمدد فى سوريا والعراق، وليبيا تتحول إلى مرتع للإرهاب. كما لابد من تشجيع كل خطوات فى اتجاه تنويع مصادر السلاح وعدم الاعتماد على الغرب، وفى بناء القدرات الذاتية لبلادنا. لكن يجب التصدى لكل سلوك معادى للديمقراطية ويعتدى على الحريات التى انتزعها الشعب خلال الثورة. ويجب أيضا الدفاع عن حق المصريين فى الحياة ورفض سياسة إلقاء عبئ الأزمة الاقتصادية على عاتق الجمهور من خلال السياسة الانكماشية مع ترك الحبل على الغارب لرجال الأعمال يرتعون دون حتى دفع ضرائب مناسبة.
أهم إيجابيات فى الواقع الحالى بعد أربع سنوات من الثورة هو التغيرات التى حدثت فى الشعب المصرى. لقد كسر الشعب جدار الخوف، وأصبح من غير المقبول أن يتعرض المواطن، فى مختلف الشرائح، للظلم ويظل ساكتا. لهذا وجدنا مثلا حركة واسعة بين الفلاحين فى مختلف المحافظات على محورين أساسيين: الأول هو مقاومة نزع أراضى الإصلاح الزراعى من الفلاحين لصالح كبار الملاك السابقين والجدد بتآمر جهاز الدولة المتمثل فى هيئة الإصلاح الزراعى ووزارة الأوقاف والشرطة والمباحث وغيرها. لقد بدأت تلك الحركة قبل ثورة يناير 2011، لكنها توسعت بشدة بعدها وشملت محافظات كثيرة ومراكز عديدة فى كل محافظة. والمحور الثانى هو المطالبة بحق الفلاحين فى مقابل عادل لعملهم بالأرض ورفع أسعار شراء الدولة للمحاصيل خصوصا بعد زيادة تكلفة النقل والرى والحرث وخلافه بسبب رفع أسعار الوقود والسماد.
بالمثل فالحركة العمالية المطلبية تتسع أيضا لأن الزيادات المحدودة التى حدثت فى الأجور لا تساير ارتفاع الأسعار الشديد، ولأن توالى صدور القوانين التى تزيد الضرائب غير المباشرة على الفقراء مع تخفيضها على الأغنياء، كما وتنحاز القوانين الجديدة للأغنياء فى الامتيازات وتجور على حقوق العاملين فى استمرارية وأمان علاقة العمل وفى الأجور والمعاشات اللائقة وفى المزايا التأمينية والصحية وغيرها. تتجسد حركات العمال والفلاحين وغيرهم من الفئات المضطهدة فى تنامى تنظيماتهم من نقابات مستقلة وروابط ومختلف أنواع التنظيمات المستقلة.
أما الشق الموازى لهذا التصاعد فى الحركات الجماهيرية فهو واقع انتشار التنظيمات السياسية التقدمية بحكم ميزان قوى الأمر الواقع حتى إذا لم تستوف الشروط القانونية للتأسيس فتعمل كأحزاب ومنظمات تحت التأسيس. فقط تلاحم القوى الثورية مع الحركة الاحتجاجية الناهضة هو القادر على التأثير الإيجابى على ميزان القوى الاجتماعية فى مصر وصنع مستقبلها.
قدمت هذه الورقة منى للنقاش أولا داخل الحزب الاشتراكى، ثم ثانيا مع بعض الرفاق من الأحزاب اليسارية مما أغناها بملاحظاتهم، ولكنى المسئول الوحيد عن أى قصور بها.
يونيو 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بحث رصين
هانى شاكر ( 2015 / 6 / 18 - 23:45 )

بحث رصين
------

شكراََ على البحث الرصين ... و لكن ..

اصلاح مصر لن يأتى من مؤسسات مشلولة .. من الليبراليين .. او اليسار .. او البرلمان


الحل يحتاج الى 100 عام .. تدريجيا و سلميا .. ينزل فيها التعداد من 90 مليون الى 15 مليون .. ، .. و حجم الفساد من 100 % الى 20 % .. ، .. و يتم فصل الدين عن الحكم و الحياة العامة

تُرى من هو مستعد ، و قادر على قيادة البلاد لتنفيذ هذة الخطة ؟ .. قبل ان تاتى داعش .. بمشاعلها و مناجلها ؟

....

اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث