الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيء من الذاكرة.. حول انتفاضة 20 جوان 1981 الدامية بالدار البيضاء

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2015 / 6 / 20
الثورات والانتفاضات الجماهيرية




تحل اليوم الذكرى 34 للاتفاضة الشعبية 20 جوان 1981.

عندما وقعت انتفاضة 20 جوان 1981، كنت عضوا في هيأة تحرير جريدة "المحرر"، جريدة المعارضة، والأولى من حيث المبيعات في الأكشاك. سيحجز عددها في الغد الموالي، المؤرخ ب 21 يونيو 1981، ومعه قرار بالمنع النهائي، بأمر مباشر من أكبر سلطة في البلاد.

أذكر أني مع زملاء آخرين من هيأة تحرير الجريدة، كنت كلفت بتلقي المكالمات الهاتفية من المدن والأقاليم لتتبع نتائج الإضراب الوطني العام، الذي دعت إليه المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، (بعد عامين على تأسيسها)، وذلك على إثر الزيادة في أسعار خمس مواد أساسية للكادحين: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%، وذلك مباشرة بعد زيادات أخرى سجلت في سنتي 1979 و1980.

حوالي منتصف النهار اتصل بي في الهاتف من باريس المناضل المنفي وقتها، محمد آيت قدور، (المتورط في محاولة الانقلاب الثانية 16 غشت 1972)، يسأل عن تطورات الأوضاع، نقلت إليه الأرقام المتوفرة لدي، وهي أرقام تدل على نجاح الإضراب نجاحا باهرا، فالحركة الاقتصادية في الدار البيضاء شلت بأكملها، وتوقفت وسائل النقل عن الحركة، كما توقفت الآلات في المعامل عن الدوران.

بمجرد توصله بالنتائج، دخل أيت قدور إلى استوديو الإذاعة الفرنسية الدولية "فرانس أنتير" ليدلي بتصريح ثوري شديد اللهجة، مباشرة على أمواج الأثير، وكانت "فرانس أنتير"، قبل ظهور القنوات الفضائية المتلفزة، تتابع بجدية ومهنية عالية تطورات الأوضاع السياسية في المغرب العربي، وبذلك كانت تتمتع بنسبة كبيرة من المستمعين والمتتبعين الفرنكفونيين.

كان باقي أعضاء هيأة التحرير قد توزعوا على أحياء المدينة العمالية الكبيرة لتغطية الحدث مباشرة.

حوالي الساعة الواحدة ونصف، وصل مقر الجريدة رجل ثلاثيني، أسمر اللون، طويل القامة، ضعيف البنية، شارد النظرات، تحلقنا حوله بمكتب رئيس التحرير المرحوم مصطفى القرشاوي، ولم يكن المناضل القرشاوي حاضرا بيننا. بدأ الرجل يحدثنا عن قتل امرأة بدرب الكبير برصاص العسكر، قال لنا إن العسكر هاجم المتظاهرين العزل وأطلق عليهم الرصاص الحي، حين لاحظ خالد اعليوة، وكان مسؤولا وقتها بالجريدة، أن" الصندالة البلاستيكية" للرجل عليها قطرات دم، سأله من أين هذا الدم؟ رد الرجل بهدوء غريب:

- إنه دم المرأة التي أحدثتكم عنها، وكنت أجر جثتها من الزنقة إلى داخل الدار. ثم ساله أحدنا عن صلته بالقتيلة، فرد ببرودة صادمة:

- إنها زوجتي، وقد تركت لي يتامى...

لن أحدثكم عن الصدمة التي أصابت كل واحد منا، أما أنا فقد تسارعت دقات قلبي وارتفع منسوب هرمون الأدرينالين في جسمي، بحثت عن وسيلة نقل لأخرج إلى الشوارع الدامية وأعاين ما يحدث مباشرة، هكذا أرجعت الزميل والصديق الشاعر أحمد صبري من باب الجريدة، وتهنا معا بسيارته الشهيرة "الكوكسنيل" فولسفاغن الخضراء اللون، في شوارع درب السلطان وساحة السراغنة، وشارع طريق مديونة، والمعاريف ودرب غلف، وهي المناطق التي شهدت وقائع انطلاق أولى الرصاصات وسقوط القتلى الأوائل.. في شارع طريق مديونة نزلت وتحدثت مع الشباب الثائر، ارتاب بعضهم في أمرنا، لكنهم لما علموا أننا من جريدة "المحرر" عانقونا ورحبوا بنا.

في شارع فكتور هوغو على مفربة من القصر الملكي بالأحباس، لاحظ صديقي أحمد صبري أن سيارة قاتمة اللون تلاحقنا، وكان البوليس قد لجأ إلى استعمال سيارات المصالح العمومية للتمويه، كسيارات وكالة توزيع الماء والكهرباء، وسيارات شركة التبغ، بل حتى سيارات الإسعاف ونقل الأموات. قاد صبري السيارة بسرعة فائقة ومهارة عالية، لنفلت من الملاحقة، وكان يخرق إشارات الضوء الحمراء وعلامات منع المرور.

لما وصلنا إلى درب غلف، وجدنا كتائب من الجيش مستنفرة شاهرة بنادقها، تطوق الحي من كل أطرافه، من شارع عبد المومن وزنقة سمية، وشارع 9 أبريل، وشارع جورج صاند المحاذي لأشهر جوطية في المغرب. وبعد دقائق كان قرار الاقتحام، كان الشباب هائجا، بعضهم كتب لافتات بها شعارات حمقاء، تجمع ما بين الحرية والخبز وتأييد البوليزاريو. طفلة ذات 12 سنة كانت تجلب الماء من السقاية العمومية لم تشفع لها طفولتها ولا براءتها ليتفادها رصاص العسكر. كما اقتحمت عناصر الجيش بعض البيوت مطاردة الشباب، في الزنقة 78 مثلا دخلوا دارا فوجدوا شابة حاولوا الاعتداء عليها، ولم ينتبهوا لوجود شقيقها، ولما قام هذا الأخير محتجا رموه في الشارع بعنف قبل أن يغادروا. في زنقة لا كروا طاردوا شقيق أحمد صبري داخل بيتهم، لكن تكوم نساء الدار حوله، وصراخهم أفلته منهم، وظل الجدار الخارجي لبيت صبري وبيوت أخرى لزمن طويل، يحمل ثقوب الرصاص الذي أفرغه العسكر.

في الغد توجهت مبكرا إلى مقر الجريدة المحاذي للباطوار القديم، كانت الشوارع فارغة إلا من قلة من المارة وبعض السيارات، كان هناك قرار غير معلن بحظر التجول

عندما دخلت مكاتب الجريدة وجدت رجال البوليس السري في الانتظار، استولوا على جميع التقارير والمقالات والصور التي كانت معدة للنشر. طلبوا مني هويتي والبطاقة المهنية. تردد رجل البوليس قليلا قبل أن يأمرني بإخلاء المكان فورا والعودة من حيث أتيت، لعله تعاطف مع مظهري البريء وصغر سني.

لما وصلت البيت أخبروني أن أحدهم لا يعرفونه سأل عني، توجست من أن يكون السائل من البوليس، فاضطررت للاختباء فترة حتى تهدأ الأوضاع، في شقة أمنها لي الصديق المناضل محمد السرادني، وهي تعود لأحد أقاربه بحي بوسيجور .

بعدها سأستدعى لكوميسارية المعاريف، مع أعضاء من هيأة تحرير "المحرر"، وسيطلبون مني أن أزودهم بمعلومات تخصني، كان من يسألني كوميسير بدين، أسمر البشرة، بشعر أسود داكن وشفتين غليظتين، يشبه الباكستانيين، ويسمى بنعجيبة، كان يقف جنبه مساعده الذي يأمرني برفع صوتي عند الإجابة، سأفهم أن بنعجيبة كان أصما لا يسمع، وقيل لي لاحقا أنه كان جلادا كبيرا. طلبوا مني إحضار صورة شخصية، أو يتولوا هم التقاطها لي بإنزالي إلى القبو. قبلوا أن آتيهم بها. لما تسلموها مني وضعوها مكان صورة لي باهتة التقطت بمناسبة عودة عبد الرحمان اليوسفي من المنفى سنة 1980، كانت قد نشرت بإحدى صفحات جريدة "المحرر" ضمن تغطية صحفية جمعت رئيس صجيفة "التحرير" والعاملين ب"المحرر". لاحظت أن لديهم ملفات تخص العاملين بهيأة الجريدة.

مما أذكره أن الجلاد بنعجيبة سألني عن الدفالي والكص، أجبت أني لا أعرف صاحبي هذين الاسمين، فاستغرب وكذبني، لا يمكن أنت كاذب، هما صديقان لك لا تفارقهما حتى خارج العمل، وتتواجدون غالبا في ساحة "مرس السلطان". وكان يقصد الصديقين الصحافيين حسن عمر العلوي (فريموس)، وإدريس الخوري الكاتب من "المحرر"، ولم أكن وقتها أعرف اسميهما الحقيقيين.

تم تسجيل حالات اعتقال العديد من شباب الأحياء الشعبية في المدينة بشكل عشوائي، وبعد يومين من يوم الإضراب جاءت الشرطة وجمعت الجالسين في المقاهي، وساقت الجميع إلى مراكز اعتقال متفرقة، منها مركز اعتقال بعين حرودة، هنالك سيلقى جل الشباب المعتقل حتفه من جراء الاختناق الناجم عن الاكتظاظ. والباقي سيساقون إلى السجون بعد محاكمات سريعة لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة.

في مساء اليوم الموالي للانتفاضة، ظهر الملك على شاشة التلفزيون، كان واضحا غضبه الكبير، وألقى خطابا شديد اللهجة، توعد فيه النقابيين والاتحاديين والشباب المتظاهر، وأذكر مما جاء في خطابه، أن "درب غلف والمعاريف لم يشهدا أي أثر للإضراب"، مثنيا على ساكنتهما، وهو أمر غير صحيح مطلقا، فالتقارير التي وصلته كانت تتضمن بعض المغالطات، لطمأنته ربما. وتحدث الملك عن عدد القتلى، وقال إنه لا يزيد عن 66 قتيلا. وهو رقم مجانب للحقيقة، فقد حكى لي حينها، زميلي الصحافي عبد الله العمراني، صاحب صحيفة "لافيريتي"، وكانت تربطه علاقة متينة بسلطات المدينة وبالكاتب العام لعمالة الدار البيضاء السيد محسن التراب أن عدد القتلى يزيد عن الألفين، وسنعرف لاحقا أنه تم ردم جثتهم في مقابر جماعية، منها حفرة كبيرة بساحة مركز رجال الإطفاء المقابل لمقبرة الشهداء.

سيتم اعتقال محمد نوبير الأموي الكاتب العام لنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ومصطفى القرشاوي، رئيس تحرير جريدة "المحرر"، أما مديرها المسؤول محمد اليازغي فربما لكونه نائبا يتمتع بالحصانة البرلمانيه أفلت من الاعتقال. كما اعتقل المحامي محمد كرم بصفته كاتبا إقليميا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالدار البيضاء. واعتقل مناضلون آخرون، أذكر من بينهم صديقي القديم عبد الرحيم عميمي، (المحامي حاليا) لكونه معتقل سياسي سابق، بالرغم من أنه في يوم الإضراب لم يكن متواجدا في الدار البيضاء.

أحد الشباب، لم يستيقظ إلا بعد الظهر من يوم الإضراب، بسبب عمله الليلي بأحد المعامل، لما خرج ورأى آثار المتاريس التي وضعها الشباب بالأحجار، وقف يدخن متأملا مستغربا، حين ستمر دورية للجيش سيسألونه عما يفعله بوقوفه، وسيأمرونه بجمع الأحجار من الشارع، وهو ما شرع في تنفيذه.، لما غادرت دورية العسكر، وصلت دورية الشرطة فألقت القبض عليه بتهمة وضع متراس. وسيحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، قضاها كاملة.

بدت لأسابيع مظاهر حالة استثناء غير معلن، انتشرت الدبابات والسيارات العسكرية في شوارع وساحات المدينة. في الوقت الذي سافر فيه الملك إلى نيروبي لحضور القمة الإفريقية، هنالك سيعلن، بضغوط من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ودونما استشارة الشعب أو الأحزاب، عن موافقته إجراء استفتاء في الصحراء المغربية، وسيعتقل عبد الرحيم بوعبيد زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي وعدد من أعضاء المكتب السياسي للحزب لانتقادهم قرار الملك بقبوله الاستفتاء...

بعد مرور ربع قرن على الأحداث نشرت موضوعا بأسبوعية "دومان" الفرنسية، بعنوان تضمن عبارة إدريس البصري وزير الداخلية خلال الأحداث، وهي عبارة: (شهيد كوميرا)، التي اشتهر بها الوزير القوي، ساخرا من شهداء تلك الاتنفاضة الشعبية، لما صدر المقال كان إدريس البصري قد أحيل على الرف، وأعفي من جميع مهامه، ويعيش بمزرعته في بوزنيقة يجتر الكآبة والغبن خارج العاصمة الرباط، أحس بظلم مما جاء من اتهامات ضده في
المقال المذكور، فاستدعى صاحب الجريدة الصديق علي لمرابط ليقابله في مزرعته، وقال
له مبرئا نفسه من مجزرة الدار البيضاء:

- "أنا لم يكن تحت إمرتي سوى البوليس، ولو ظلوا وحدهم في المواجهة لهزمهم المتظاهرون الذين كانوا لن يتوقفوا إلا عند أبواب قصر الرباط".

صور قليلة وصلتنا عن الانتفاضة، وأذكر أن أحد المصورين، وهو الصديق مصطفى النعيمي، وكان يقطن بحي درب الكبير، وثق من نافذة منزله أحداث القتل والتنكيل، وفي الغد الموالي ركب دراجته النارية حاملا الصور المحمضة، قاصدا مقر جريدة "لوماتان" و"ماروك سوار" بزنقة محمد اسميحة، هناك تسلموها منه من غير شكر، وطلبوا منه أن لا يعود، لم يكن المصور المسكين يعرف أنه ذهب إلى جريدة القصر. وظل معه الفيلم إلى أن أتلف بسبب تبلله بالماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي