الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعر ونهاية القرن

سعد محمد رحيم

2015 / 6 / 21
الادب والفن


مقارباته في جوهر الكتابة الشعرية وأسرارها لا تقل عمقاً وجمالاً عن منجزه الشعري.. فهو من هذه الناحية منظِّرٌ من طراز مدهش.. لا تستغرقه النظريات والأحكام الجاهزة، بل ينفذ بقراءاته إلى أغوار الإبداع الشعري ليستكشف ألغازه ومصادر طاقته.. فهو صانع رؤى ملهمة يقطِّرُ فيها عصارة خبرته في التأليف وفي التلقي.. إنه أوكتافيو باث، الشاعر المكسيكي المولود في عام 1914، والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1990، والخائض في بحر السياسة، عملاً وكتابة..
سبق أن قرأنا له، بهذا الصدد ( متاهة العزلة، وأطفال الطين )، وها نحن نقرأ له اليوم؛ ( الشعر ونهاية القرن ـ الصوت الآخر؛ بترجمة ممدوح عدوان، وإصدار دار المدى/ بيروت.. ط2/ 2015 ).. ومنذ الصفحة الأولى يفاجئنا بأسلوبه المتدفق:
"لقد بدأت كتابة القصائد في فترة مبكرة من حياتي، وبدأت مبكراً أيضاً في تأمل مسألة كتابته. فالشعر حرفة في غاية الغموض، إنه مهمة ولغز، تسلية ( تمضية وقت ) وسر مقدّس، صنعة وعشق".
تقوده مغامرته إلى عدم الاكتفاء بصياغة القصائد، وإنما محاولة أن يعرف كيف يحصل هذا، في أي سياق، وتحت أية شروط، مؤمناً بأن الشعر لم يستنفد، وربما لن يستنفد أبداً، مسوِّغات بقائه.. فما يحصل هو أننا نرى "نهاية التراث الشعري الذي بدأ مع كبار الرومانسيين وبلغ ذروته مع الرمزيين ثم حقق إشراقاً مدهشاً مع طليعيي قرننا الحالي ( العشرين ). إن هناك فناً جديداً يبزغ فجره".
يرفض باث اصطلاح ( ما بعد الحداثة ) كخيمة فضفاضة يمكن أن نضع تحتها الشعر الجديد، فقد تغيّر ما قامت عليه الحداثة من أفكار ومعتقدات وقيم وممارسات لنصبح في مرحلة ( ما جاءنا بعد الحداثة ) على حد تعبيره.. وما يميّز هذه المرحلة هو "تحطّم الفكرتين اللتين شكّلتا الحداثة منذ ولادتها، رؤية الزمن على أنه تتابع خطي متقدّم نحو الغد الأفضل، وفكرة أن التغيير هو أفضل أشكال التتابع الزمني". حيث تنتهي أسطورة الثورة، وبهذا فهو يسعى لتقويض ما يعدّه جزءاً من أوهام الثورات على الرغم من هواه اليساري.
يتحدث باث عن التنوع في القصيدة وعن وحدتها.. عن عنصري الإدهاش والتكرار، والتكامل بينهما الذي يضمن النمو في بنية النص، بالتضافر مع العودة والابتكار، ومع الاستمرار والانقطاع. كما يؤشر ذلك التحوّل في القصيدة الشاملة من الموضوعية إلى سيادة الذات، وتحديداً مع دانتي في الكوميديا الإلهية. "لقد كانت القصيدة القديمة غير شخصية. وعند دانتي ظهرت الأنا". وفضلاً عن الأنا تحقق شيء آخر/ تجديد ثانٍ في ( الكوميديا الإلهية ) التي أضحت قصيدة ـ قصة رمزية، وهي التي بحسب باث "تخفي عنا الشيء ذاته الذي تقدِّمه لنا. إنها ليست حضوراً على الرغم من أنها تأخذ شكلاً متجسِّداً. إنها شيء يُدرك، ولكن ليس بالعين ولا فوراً، بل ببطء وبالعقل. وأن ترى قصة رمزية يعني أن تفسِّرها. إننا نتأمل الأشكال في الدنيا، ولكننا نفكِّك شفرة القصص الرمزية".
ما الذي يدفع شاعراً كبيراً مثل أوكتافيو باث إلى ممارسة النشاط السياسي، والاهتمام بالشأن العام؟. لماذا لم يكتفِ بحقل الجمال الأدبي، فراح يتورط بدخول وحل السياسة؟. يقول أنه منذ يفاعته اكتشف "أن الدفاع عن الشعر، المحتقر في بلدنا، لا ينفصل عن الدفاع عن الحرية". والحرية التي يفهمها لا تبرر العنف الذي يُرتكب باسمها، ويستشهد بقول شاتوبريان:
"كان من الممكن أن تشدّني الثورة... ولكنني رأيت أول رأس يُعرض على رأس رمح فانكمشت. لن أنظر إلى الجريمة على أنها حجة لصالح الحرية. فأنا لا أعرف شيئاً أكثر إذلالاً وأكثر جبناً وأكثر تبلداً من الإرهابي".
يتحرى باث عن العلاقة بين الشعر وفكرة الثورة، والأسطورة، والدين، والتاريخ، والحداثة.. ولأنه ينطلق من الواقع المضطرب والدامي لتاريخ بلاده المكسيك فإنه بقدر ما يرفض التوتاليتارية والظلم، بقدر ما ينبذ الميل إلى العنف والفوضى.. ويرى ضرورة إعادة قراءة التراث، وإيجاد مصالحة "بين تراثي الحداثة السياسيين العظيمين؛ وهما الليبرالية والاشتراكية". وكجزء من التربية الأخلاقية للنخب السياسية الجديدة يدعو إلى "أن تكون دراسة أسخيلوس وشكسبير إلزامية في المدارس والجامعات التي يتم فيها تعليم ما يُسمى بالعلوم السياسية".
في فصل ( الشعر ونهاية القرن ) يتساءل باث عن جمهرة متلقي الشعر.. عن أولئك الذين ما زالوا يقرأون القصائد، أو يستمعون إليها بشغف.. عمن سمّاهم ستاندال بالقلة السعيدة، وسمّاهم خوان رامون جيمينيز بالأقلية الهائلة. مدركاً أن قراء الشعر دائماً، في المجتمعات كلها لم يشكِّلوا الأغلبية، ربما باستثناء المجتمعات البدائية القديمة. وعلى الرغم من أن الإحصائيات تذكر أن الناس يقرأون الآن أكثر من أي وقت مضى، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه؛ هل يقرأون بشكل أفضل؟. وهنا يجيب؛ أشك في ذلك.
هل انحسر عدد عشاق الشعر بسبب أن الشعراء باتوا يسخرون من ذائقة الجمهور ويكتبون ما يصدمها؟ وحتى هذه الحجة يرفضها باث لأن هذه كانت مزية فرنسية، وأن الشعراء الإنكليز والألمان والاسبانيين لم يكتبوا في الغالب بطريقة الشعراء المتمردين الفرنسيين. وإذن فالسبب لابد من انه يكمن في مكان آخر يطلق عليه عبارة ( الخمول الثقافي ).
هل سيبقى الشعر؟ والسؤال الأشد خطورة؛ هل سيبقى البشر؟. وهذه إحالة منطقية إلى السياسة، ففي هذا القرن الواحد والعشرين "في أمكنة كثيرة من العالم دلالات منذرة بالشؤم عن عودة العواطف الدينية القديمة، والتعصبات القومية وعبادة القبيلة" فيما قوانين السوق الرأسمالية واتجاهها الدائري نحو المزيد من الإنتاج والمزيد من الاستهلاك تبدو بلا هدف.. ومن الواضح، كما يقول أوكتافيو باث "أن الهدر الهائل والغبي والانتحاري للموارد الطبيعية لابد له من التوقف إذا كان البشر راغبين في الاستمرار في العيش على هذه الأرض".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي