الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفاءاً للراحل يوسف بولص شعيا، شهيد -السلم في كردستان- بساحة الخلاني

كمال يلدو

2015 / 6 / 21
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



أن يسقط الأنسان شهيدا في الدفاع عن مصالح الجماهير، او عن المُثل التي يعتنقها، شئ رائع تفخر به الشعوب وحركات التحرر، لكن أن يسقط برصاص شرطة الحكومة التي خرج ذات يوم بالمظاهرات دفاعاً عنها ومناصراً لقادتها، فهذا أمر يحمل في ثناياه تناقضات صعبة.
نعم ، سقط وهو يعي بأن الشعار واللافتة التي كان يروم تعليقها تعني فيما تعنية حقنا للدماء العراقية، وتجنيب الثورة مساراً غير الذي تمناه العراقيين، إن كان في السلم الأهلي والأخاء الوطني، أو بمنح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي، طريقاً بديلاً عن لغة القنابل والرصاص. سقط وهو يدعو ل "السلم" وياليت لهذا السلم أن يتحقق بمماته، لكن وللأسف كان هناك طريقاً طويلا وأنهراً من الدماء وقوافلاً من الشهداء، اخذت البلاد الى حيث لا يتمناه أيُّ انسان مخلص.
***
ولد الشهيد يوسف بولص شعيا بالمحلة العليا ـ محلة ائليثا ـ من مدينة باطنايا التابعة لمحافظة نينوى عام 1937، واقترن بالسيدة بربارة بطرس اسحاق، ورزقا ببنت وولد، خالدة وثامر، ولو كان على قيد الحياة فسيكون له تسعة أحفاد وخمسة من أبناء الأحفاد لحد الآن.
في عام 1948 قصدت عائلته العاصمة بغداد بحثا عن فرص عمل أفضل، فعمل والده بولص في مديرية الطرق والجسور، وتبعه الراحل في نفس الدائرة حينما بلغ سن التوظيف. لم تتوفر له الفرصة للتعليم لأنه إنشغل بالعمل منذ صباه، خاصة وأنه أكبر الأبناء، لكنه انتظم في مدارس (محو الأمية)، فيما سكنت العائلة منطقة (المربعة) الكادحة .

يتحدث عنه شقيقه السيد بطرس بولص شعيا ويقول: كان المرحوم انسانا هادئا وصبورا وحكيماً. لا اتذكر ان كانت له اية مشكلة مع أحد في منطقة السكن (الطرف)، وكان محترما، وأنا شخصيا كنت احبه. وعندما تعود بي الأيام فأن الدم يتجمد في عروقي من هول الحدث. كان اليوم هو الثامن عشر من شهر كانون الثاني 1961، وكنت قد باشرت يومي للتو في عملي بدائرة الكمرك الكائنة بمنطقة السنك، وقد يكون الوقت حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحا حينما دخل الى المكتب أحد معارفي (أنيس) وقال لي : إن الأهل يطلبوك في البيت، وعلمت لاحقا بأن الأمن قد ضرب يوسف بالرصاص وهو يعلق اللافتة في ساحة الخلاني، وأخذته على الفور الى مستشفى الطوارئ، وبقيت الى جانبه، ولأنه كان ينزف فقد تطوعت أنا وأحد اقربائي (يوسف ميخا ـ أبو سلام) للتبرع بالدم. أشرف على علاجه جراحا كان ذو خلفية وطنية مازلت أذكر اسمه (د. سنحاريب)ويبدو أن الجرح كان عميقا، وأستمر معه النزيف، إذ قال لنا الجراح، بأن الطلقة استقرت في (المثانة) وهذا مكان خطر وحساس للجراحة. كنت اقف بجنبه وأحتضن يداه ودموعي تنهمر مثل الأطفال فيما كانت قواه تضعف شيئا فشيئا، ولم يمض وقت طويل حتى اسلم الروح . حملناه الى (كنيسة ام الأحزان) حيث اقام المطران الراحل موسيس قداس الجناز على روحه، وفي هذا الأثناء كان نبأ ضربه بالرصاص ومن ثم وفاته قد انتشر سريعا كالنار في الهشيم، فتجمعت الجماهير وأنطلقت من الكنيسة مخترقة الأحياء الشعبية حتى شارع الجمهورية وصولا الى (مقبرة الكلدان) قرب ساحة الطيران ومقابل تانكي الأسالة حيث وري الثرى .
كان الخبر والحدث وكل ما جرى في ذلك اليوم فاجعة كبرى، على مستوى الوطن أو على مستوى العائلة. كان والداي يحبونه كثيرا، ولو تأخر قليلا في أحد المساءات كانت والدتي تطلب مني أن أخرج للبحث عنه. لقد كان يحبني ، وكنت ابادله ذات المشاعر. ولأن عملية القتل اقترنت بالغدر والغطرسة، فقد كانت ردود فعل المشيعين غاضبة جدا. حملت الناس جثمانه مرورا بكل المناطق الشعبية التي عرفته وأحبته وأحبها، وكان حقا يوما حزينا، تلقينا فيه المواساة من جموع وشخصيات كثيرة جدا.
اما عن عملية اطلاق الرصاص فيقول السيد بطرس شعيا شقيق الراحل: كنّا نعرف جيدا إن مؤسسات الأمن مليئة بالبعثيين والقوميين وأعداء الشيوعية، وكانت هذه فرصتهم للأيقاع بين الزعيم وبين أكثر الناس حبا له وحرصا على ثورة 14 تموز وأعني بهم الوطنيين واليساريين والفقراء. ولا اتذكر يوما أن قام الأمن بمعاقبة (بعثي أو قومي) نتيجة اعتدائه او قيامه بعمل مخالف للثورة، لكنه أسرع وأطلق الرصاص الحي على أناس كانوا يقومون بتعليق لافتة سياسية، لم تكن تدعوا لقلب الحكم او قتل اي شخص او تدعو للكراهية والحقد، لقد كانت تدعوا بكل بساطة الى : ((السلم في كردستان)) وهي استجابة للنداء الذي اصدره الحزب الشيوعي، والذي حذر من الفخ الذي نصبه اعداء ثورة 14 تموز لقيادتها الوطنية وذلك من خلال اذكاء الأحقاد الشوفينية واشغالها بالحروب الداخلية وأرهاق الجيش والشرطة حتى يتسنى لهم الأنفراد والأنقلاب على الحكم، وهذا ما تم بعد فترة وجيزة في يوم الثامن من شباط الأسود عام 1963. لقد أحب أخي الراحل الثورة وقادتها الميامين، ومن الصعب أن يصدّق الأنسان بأنه يُقتل بالرصاص الذي كان المفروض ان يحميه. لقد كان رحيله خسارة شخصية لي ولعائلته خاصة لزوجته حيث كان اولادهما في عمر الزهور( سنة ونصف و ستة شهور)، اما للوطن فأظن انها كانت اشارة قوية لما ستؤول اليها الأوضاع لاحقا، لكن بعد فوات الأوان.
اما زميله ورفيق دربه السيد كوركيس منصور (أبو شوقي) فيتذكره بالقول: كأن الحدث يعيد رسم مشاهده أمامي اليوم وليس قبل (54) عاما خلت. كان الراحل ينحدر من نفس بلدتي (باطنايا) وفي بغداد عشنا بذات المحلة الشعبية (المربعة) وأنعقدت صداقة حميمية بيننا ، ولأن الراحل كان كادحا وينحدر من عائلة عمالية فأنه تعلق أكثر بالأفكار الوطنية التي توّجت بالأنتصار الكبير الذي حققه الشعب في ثورة 14 تموز . وبالرغم من انه لم يكن على درجة عالية من التعليم لكن ايمانه السياسي كان حقيقيا وصميميا، لابل انه تمكن من التأثير على كل افراد عائلته. وبالحديث عن التزامه السياسي فقد كان بالنسبة له مرادفا للموقف من الحياة والأنسانية، إذ لم تدعوا يوما للدمار أو التخريب أو القتل، بل على العكس فقد كانت تنادي ب (وطن حر وشعب سعيد). ويكمل السيد "أبو شوقي": في الليلة التي سبقت الحادث، انطلقنا سيرا على الأقدام (كعادتنا يوميا) قاطعين شارع الجمهورية من جهة منطقة (المربعة ودكاكين عبو) نحو ساحة الطيران، وتوقفنا قليلا امام المكان المزمع تعليق (اللافتة) فيه ، فكان من شرفة لشقة مطلة على ساحة الخلاني و مملوكة من قبل السيد (حمدي شريف) شقيق الأستاذ عزيز شريف.
في صباح اليوم التالي، كنّا عدة مجاميع، واحدة للحراسة وأخرى للتعليق وهكذا. كان يرافقه زميله المرحوم (نعيم مروكي)، وبينما كان الراحل يصعد السلم لتعليق اللافتة، فأذا برجال الأمن ينادون عليه بالنزول والتوقف عن ذلك، وهددوه بالرمي بالرصاص، فأجابهم: إني جئت لأكمال هذه المهمة ولا تهمني لغة الرصاص! وفعلا قاموا بإطلاق الرصاص عليهما، فأصيب نعيم مروكي في جسمه وتعافى لاحقا، فيما اصيب الراحل بطلق ناري اخترق مثانته وأدت لوفاته لاحقاً. ويكمل أبو شوقي: هكذا يخطف الرصاص هذا الأنسان الوديع الذي صعب عليه أن يرى العراقيين يتقاتلون، فيما الرجعية وأعداء الثورة من البعثيين والقوميين متربصين بأحقادهم الشوفينية وواضعين الخطط لتضييع الثورة ودفعها في الدروب المظلمة. وللأسف فإن رحيله كان واحدا من المؤشرات لقادم الأيام من المآسي والأرهاب والدمار.
** السيد كوركيس منصور (أبو شوقي) صديق في غاية الوفاء لهذا الشهيد، فهو لا يكف الحديث عنه وعن مأثرته البطولية في الشهادة، وكان قد نشر مقالة عنه يوم 18 كانون ثان عام 1987 في جريدة (صوت الأتحاد) بديترويت، ضمنها تلك الحادثة وأبيات من الشعر نظمها له، علما إن أبا شوقي هو الوحيد الذي يحتفظ بنسخة من صورة الشهيد، فشكرا لك يا وفي.

**الذكر الطيب للشهيد يوسف بولص شعيا، شهيد السلم في كردستان
**المواساة لعائلته الكريمة، إخوة وأخوات وزوجة وأبناء وأحفاد
**الأندحار للأفكار الشوفينية الحاقدة والدوام لتطلعات الأنسان نحو غد أفضل

حزيران 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الغالي كمال يلدو
عبد الرضا حمد جاسم ( 2015 / 6 / 21 - 11:23 )
محبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة و ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام
الراحة الابدية للشهيد و الذكر الطيب له و الصبر و العزة لذويه و اصدقاءه و رفاقه
و الشكر لكم ايها الكريم
اتمنى ان نعرف عن اطفاله خالدة و ثامر
تحياتنا لهم و لكم و كل من يعرفه و يتذكره
دمتم جميعاً بتمام العافية


2 - شكرا لك عزيزي عبد الرضا حمد جاسم
كمال يلدو ( 2015 / 6 / 21 - 12:41 )
لمرورك البهي وتعليقك الجميل. بالحقيقة إن ابناء الراحل يعيشون حياتهم بصورة طبيعية، لكن وللأسف لا يتذكروه لأنهم كانوا صغارا، كذا الحال مع السياسة، لأن الأنظمة التي توالت، جعلت السياسة والتداول بالشهداء ومآثرهم (خطيئة) كبرى. يكفينا ان نتذكر اولئك المضحين، وهذا اقل ما يمكن تقديمه بحق هذا الأنسان الشجاع.

اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟