الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نشوة الإبداع ، قراءة في قصيدة سامي مهدي

منال البستاني

2015 / 6 / 23
الادب والفن


**

النص
" لحظات خاصة "
**
تدّافعُ اللحظاتُ ،
تنفي اللحظةُ الأخرى ،
وتأكلُها جميعاً حفرةُ الماضي ،
فأوشِكُ أن أرافقَها إليها ،
ثمَّ استعصي عليها ،
أو على نفسي ،
فأوقِظُ ما ثوى في القلبِ
كي أصطادَ واحدةً
وأنشيءَ لحظةً لي من
شظاياها ،
وأمسحَ ما تبقّى من دموعِ
اليأسِ ،
انتزعَ السعادةَ من منابعِها ،
وأبتسمَ ابتسامةَ واثقٍ للناسِ
والأشياءِ.
هذا الكونُ لي أيضاً
ولي من حصّتي فيه سعادةُ أن
أكونَ ،
وأن أعيشَ ، ولو إلى أمدٍ ،
وأن أختارَ ، أنّى شئتُ ، أصغرَ
غيمةٍ
وأخيطَ لي من قطنِها الفضيِّ
أشرعةً ،
وأبحِرَ في فضاءٍ لا حدودَ له
ولا آجال ،
أبحٍرُ حيثُ لا جرحٌ ولا ألمٌ ،
ولا يأسٌ ولا ندمٌ ،
ولا شيءٌ ،
عدا ما أشتهي من نشوةِé
الإبحارِ
والإيغال ،
منفرداً ،
وحتّى لو تعبتُ وعدتُ ،
حتّى لو خُذِلتُ ،é
فسوفَ أنشيءُ لحظةً أخرى ،
وأخرى ،
تجعلُ الأيامَ أسخى في الوعودِ
وفي الآمالْ .

**
تتسم قصيدة الشاعر والناقد العراقي سامي مهدي " لحظاتً خاصة " بالسرد الجمالي والذوق الفني ، لم يغلب عليها التعقيد الظاهري ، لكنها عميقة في مضامينها ، بعيدة في غاياتها ، تسبح في فضاء الإرادة والحرية والواقع والخيال وتكشف لنا تجليات الأمل الذي غاب عن حياتنا غياباً جوهرياً، وتسرد تجربة روحية تتحدى الزمن الذي يأبى الشاعر أن يراه وهماً أو لا وجوداً ، بل يرى فيه تجربة عقلية إبداعية ، يشخّصها بصيغة فنية نفسية تعكس صورة الشاعر الذي يبحث عن فضاء مفتوح على المطلق ، لازمان فيه ولا مكان يفرُّ إليه هربا من الحاضر .
إن اختيار الفعل " تدّافعُ " في مطلع القصيدة له مناجاته التأثيرية على النفس ، أصل الفعل هو تتدافع ، إبدال التاء دالاً وإدغامها بالدال الأصلية يعبر عن الطابع المأساوي السريع للزمن حتى بدا كأنه أمواجٌ متلاطمة ، وإلى جريان الأحداث في الحاضر بصورة تثير الخوف لما فيها من دلالات توحي بانفلات القيم والفوضى والتدافع على المادة والملذات العابرة . الفعل " تنفي " يرمز إلى الفناء والزوال ويزداد تأثيره عمقا مأساويا نستمد دلالاته من الفعل " تبتلع " الكارثي الذي يكشف شراهة الزمن ونهمه . يقف الشاعر هنا عاجزا عن الإمساك به، يهم أن يستسلم للوهن الذي نستمد دلالاته من الفعل " أوشك " استسلاماً يؤدي به إلى حفرة العدم ، لكنه يحاول أن يتغلب على الصراع بين الماضي بتراثه المزدهر ، والحاضر الراهن الذي يسجننا بدائرة القمع والقهر، يتحرر منه الشاعر بالإبداع والبحث عن الذات . يتجلى النص بفاعلية الحركة وتدفقها ، تعكس تجربته في الحياة ، كما عبرت حروف العطف " أو " " و " "الفاء " " ثم " عن انعطافات الزمن وتشظياته مابين الماضي ، والحاضر الهائج وانعكاساته السلبية على ذهن الشاعر ، حضر صوت القصيدة عاليا بصوت الهمزة وحركات تنوين الكسر والفتح والضم وهي تصدح بإيقاع موسيقى النون وغنتها وأصداء بحر الكامل الذي أعطى للأفعال حركيتها و لأجراسها صدىً فتجلى الجمال الصوتي للنص ، وألقى ظلالا على تأملات نفسية تبحث عن الكمال ، تقاوم الزمن ، وترفض الهزيمة التي تنبثق مقاومة دلالاتها من الفعل " أستعصي " الذي يضمر صراعا يحتدم في ذات الشاعر والإرادة الخلّاقة التي تأبى الوهن أمام الخيبة والإحباط .

يسرد لنا النص بأسلوبٍ جماليٍ حقق إبداعا يكشف صوراً تختزل الواقع القبيح والإنسان المسلوب الحرية والإرادة والاختيار . فالعنوان " لحظات خاصة " مثقل بالأسرار ، يجذبنا منذ البداية إلى التساؤل عن ماهية هذه اللحظات التي جاءت بصيغة التنكير ، لحظات لها حُرمة وقدسية وجلال في ذات الشاعر ، لكنّ لحظة من هذه اللحظات أفلتت من قبضة الزمن وهي في حوزة الشاعر، لها تجسيدها الأسمى ، لها ميزة ذات طابع جمالي وجودي والقدرة على تخفيف الانفعالات في ذاته ، تداوي جرحه و تمسح دموعه . يفيض النص بألم مكنون ولغة مكتنزة ، جعلها الشاعر ديمومته ومسكنه الوجودي ، يضم حلمه وأمله واغترابه . إن الفعل " ثوى " بالرغم من أنه مثقل بدلالات الموت والغياب إلا أنه يأخذنا إلى الطاقة العليا للماضي وإلى الثراء الذي يضخه في روح الشاعر ، وإلى قدرته على إزاحة الحاضر فيتألق الخيال الذي جعل منه الشاعر مسيرته الإبداعية للوصول إلى المتعة الجماليه ، فالخيال كما يقول ابن عربي هو أوسع الحضرات لأنها حالة برزخية تجمع مابين العالمين اللذين استوعبا الوجود ، العالم المرئي والعالم اللا مرئي . يفرُّ الشاعر إليه بحثا عن المثال . يستمد منه القوة ، يرى فيه وسيلته للانتصار على الغياب والخيبة والوحشة ، فالماضي يسكن في نفسه ، عالقاً في ذهنه لأن الحاضر يطوي في ثناياه اليأس العميق والاغتراب .

إن لغة سامي مهدي عميقة ، نحتاج في قراءتها إلى سبر الدلالات والمعاني التي تكمن في الغور العميق من النص كي نفك رموزها فتنبثق لغة الشاعر شفافة بمضامينها النفسية والفلسفية ، تبوح للإنسان والكون والأشياء بمكنوناتها . يأخذنا سامي مهدي في مغامرته الشعرية إلى أسطورة نهر النسيان La mythologie de l eau de Léthé ، إلى منابع الإلهام والصفاء، هناك يتحرر من ازدواجية الزمن ومن الألم ، يبحث عن الحقيقة التي تقوده إلى طريق النور وتأخذ بيده إلى النعيم الأبدي . يجذبنا في تجواله الروحي الصعودي نحو الغيوم ، ينتقي منها غيمة يرمز بـ " قطنها الفضي " إلى هشاشة الحياة ، يلغي عدمية اللون الأبيض للقطن الذي يرمز للموت والكفن والطقوس الجنائزية في انحراف دلالي يخرج من المألوف إلى اللا مألوف ويحيل الموت إلى رمز للحياة السرمدية والانتصار على الكسر النفسي والتمزق بالفعل " أخيطَ " و إلى عرسٍ فضيٍ يسبح في فضاء مضيء هادئ يستقبل الروح حين تتحرر من الجسد وتعود إلى الله ، هناك حيث تعود إلى منزلها الأول تنعم بالصفاء والحكمة والحق والعدل والإنصاف وتحلِّق في أثير أزرق سماوي تتيه في فضاء اللا متناهي حيث تتلاشى المادة والجدران والقيود والخوف والأحقاد الدنيوية والقلق، ثم تنحرف الدلالة في الفعل " أبحرُ" المشحون بكبرياء الشاعر وبحثه عن فضاء واسع يضم حزنه وهواجسه ، وحده فضاء الشعر يحتويه ، فضاء لا حدود له ، يسبح في عالم البرزخ ، يقربه إلينا الشاعر بمفردة " أشرعة " تعبر عن رغبته في الفرار من الأرض التي تئن لما عليها من صراع ونزاع وحروب فتأخذ الصورة مدىً سماوياً بحرياً ، وتتداخل الصورة السماوية بالصورة البحرية في نشوة روحية يُؤثِرها الشاعر على كل الملذات المادية ، نشوة لا يجد لها نظيرا في عالمنا الأرضي ، تنأى به عن الضَلال والفساد والانحراف.

يجسد نصُّ سامي مهدي لغة شعرية هدفها العودة إلى الأخلاق والفضيلة والنزاهة والرحمة لأنه غير قادر على مصالحة ذاته مع الواقع الفاسد ، فنحن أمام اغتراب الشاعر بكل ما يسكن روحه من جمالٍ لا يجد له نظيراً في الحاضر ، يتسم بخصوصية تساعده على تشييد علاقته بالوجود والوصول إلى المثال اللا مرئي ، وهذا مالا يدركه إلا بالزمن الإبداعي فلولا هذا الزمن المضيء ، لاستسلم الشاعر لسيول الخوف واليأس والعدم تجرفه بلا رحمة ، فالخيال يحقق له متعة روحية تخلق فيه حالة من الوعي الصافي ، يجد كينونته في الفعل الذي ينبض بالحياة والحركية والحرية التي يستنبطها من إرادته ويرى فيها حقيقة يبدعها العقل والتأمل ويقوده الفعل إلى غايته الإنسانية ، ولا ينحرف بنواياه إلى الهدم والتدمير ، لذا نسمع صوت الشاعر يُغنِّي فعل الكينونة " أكونَ " وتتوهج إرادة امتداد تجعله يُحلق في فضاء حلمي يمتد إلى مستقبل غيبي مجهول يمثل بالنسبة له الخلاص ويخلق فيه زمنا يتجدد بالأمل ويحرره من السلبية والسكونية إلى الحرية ، ونستمد دلالاتها من " أوقظُ " ، " أصطادَ "، " أنشئَ" ، " أمسحَ " ، " أنتزعَ " ، " أبتسمَ " ، " أكونَ " ، " أعيشَ " ، " أختارَ " ، " أخيطَ " ، " أبحرَ" ، " أشتهي " إن الرغبة في رؤية الفيلسوف الأمريكي إرنست بلوك تتأجج من حماس الإرادة وتمثل طاقة نفسية تتضمن الفاعلية والنشاط الواقعي .

نسمع في القصيدة إيقاع الإرادة السريع ، سامي مهدي لا يريد أن نجعل الأمل سلبياً في حياتنا بل أن نشحنه بإرادة إيجابية ، وإلا سيبقى سلبياً يسكن في عتمة أعماقنا ، مرتبطا بتمنياتنا وأحلامنا ، بعيداً عن ضياء الفعل الذي هو روح الأمل والحياة ، نسعى به إلى تحقيق ذاتنا وسعادتنا ، فالسعادة لا ندركها كما يقول أرسطو إلا انطلاقا من العقلية الجوهرية وليس انطلاقا من العقلية المتمثلة بالملذات والأنظمة الفاسدة العابرة . إن سامي مهدي تتوهج روحه بالإبداع والنظر والتأمل العقلي الذي يوصله إلى المطلق ذي القوة الجمالية النورانية وتؤكدها رؤية الفيلسوف الألماني هيجل ، الذي يرى في الفن جمالاً تبدعه الروح وتنتجه الحرية ، وهو التجلي المحسوس للفكرة . سامي مهدي لا تبهره الملذات الدنيوية المادية بنعيمها الزائل بل يبحث عن النعمة الكبرى في الحياة السرمدية و في الشعر الذي يشحنه بالطاقة ، إليه يبوح ويتحرر من الكتمان ، ويخلق ذاته خلقا جديدا . يُبحر في مخاطراته الشعرية بين السماء وعالم الغيب والبحار بحثاً عن الأمان والسعادة التي لا يشوبها قلق الموت والفقدان لذا جاءت مفردة "غيمة " في القصيدة منتقاة، تسبح في فضائها الشعري المتفرد وتعبر عن روح الشاعر الذي يتعالى على الميول الشهوانية والغرائزية ، روح تخترق الحُجُب بحثا عن الضياء ، تطمح إلى الارتقاء نحو الأسمى. ، ترغب في مماثلة الأثير والانصهار في اللا متناهي والتحرر من الزمن بحثا عن الله الخالق ، الجوهر الأزلي ، كما تعكس تألق الوعي و الـ أنا التي هي مركز العقل الواعي عند العالم النفسي الألماني كارل جوستاف يونك ، تعكس القصيدة صورة الشاعر الذي تتحكم في سلوكه القيم الأخلاقية والمجتمعية ، حضور الإنسان عنده يمثل الضمير ، وهذه صورة مثالية لأنها تقترب من رؤية العالم النفسي الألماني فرويد بـ أنا النفسية .

إن الهمة العالية هي سمة من سمات الذات الشعرية، تأخذ بيده ، تقيه السقوط ، ترتقي به إلى الجمال الإلهي ، تمسح الغبار والأوهام عن الأفكار التي تبثها الحضارة المادية والعولمة التي تتسم بحب الذات والغرور والخُيلاء والعجب والفخر والاستعلاء على الشعوب وتمزيقها وقمع إرادتها ، وتنشر في العالم كل السلبيات التي تؤدي إلى الخواء وتفريغ الذات من غاياتها الأصيلة في الحياة ، فالإرادة الإيجابية تفتح للشاعر أبواباً يشرق منها الأمل ، لأنه يرى في الشعر حلا لمشاكله الوجودية وللاحباطات المتراكمة وليدة الواقع الفاسد ، لذا نرى الشاعر يستعلي على الواقع ، لا يتصالح معه ولا مع كل القوى التي تهدم الإنسان بنوازعها الشيطانية المادية ، بل ينأى عنه بالإبداع ويكتفي بذاته ، ونستمد دلالة الاكتفاء بالذات من مفردة " منفرداً " ، جاءت بصيغة الحال ، تخص الشاعر بالموهبة الفذة التي هي نعمة من نعم الله ، تعكس صورة الشاعر المتوحد مع اغترابه وتأمله ، فالموهبة الشعرية تشكل عنده فضاءً فسيحا تتوهج فيه حالاته النفسية الوجدانية العميقة ، الفرح ،الحزن ،الحب ،الأمل ، الندم ، القلق ، اليأس والخوف هي حالات يَبني عليها عالمه الداخلي الواسع الممتد و يتوغل فيه ، حين نبحث عن المعنى العميق لهذا التوغل نمسك دلالته الروحية في مفردة " الإيغال " التي جاءت بصيغة مصدر لتأخذ مساراً بعيدا يتجه بنا نحو الجبال والأدغال والطرق الوعرة والغابات الكثيفة تعبر عن مخاطرات الشاعر في التوغل وحيدا مع ذاته ، فهناك يجد كينونته في عالمٍ يُشكّل له كوناً فريداً آمناً يمتد ، يتنفس الهواء النقي ، بعيداً عن الخطيئة و الجرائم المرتكبة بحق الإنسان. إن سامي مهدي يُركز على القيم ذات التأثير الروحي التي تُبنى على الخير في تحقيق أهدافها ، تطمح إلى حماية كرامة الإنسان وحلمه وأمله ، لا تلحق الضرر به ، ولا ترهقه ، بهذه المفاهيم الإنسانية يشكّل رؤيته للحرية النقية من الإثم والعيب والجريمة ، حرية داخلية تمنحه الشعور بالطمأنينة والسلام ، تقيه من السقوط في سجن المادة واليأس ، وهكذا ينتصر على الوهن والخذلان. إن الإرادة الخلاقة ترتبط بالكينونة الأخلاقية في رؤية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ولا ترتبط بالقوة والاقتدار والإنسان الأعلى كما ربطها الفيلسوف الألماني نيتشة .

إن سامي مهدي يرى الماضي بعين الروح والقلب وله قيمته الواقعية ، وهو إذ يعود إلى الماضي فلأنه يساعده على أن يخلق ذاته في كل آن ، ويؤكد لنا روية الفيلسوف الفرنسي بيرجسون أن كل لحظة يعيشها الإنسان هي ثمرة اللحظات السابقة التي عاشها وهي إبداع و حالة انبثاق. سامي مهدي يسير إلى الأمام بما يحمل من قيم الماضي في تأمله للحاضر ، يحفزه الإبداع ،لا يتعب من انتظار الأمل والبحث عنه ،لا يشعر بالخذلان والخيبة حين لا يتحقق ذلك الأمل ، يتحدى عقبات اليأس والموت ، يرمي وراءه عشوائية الزمن ، لا يتوقف ، تصدح كلماته بترانيم االحرية ، يُحيل البكاء إلى بسمة مضيئة تمحو كبرياء المادة الزائف القبيح ، يرسم لمستقبل صافٍ في ذهنه ، يتصالح فيها مع ذاته منطلقا من رؤيته في ظل الواقع الراهن والانحراف الذي يجبرنا على التخلف و يغمرنا بالاغتراب ويسجننا في فضاءٍ مغلق يعتبره الشاعر العدم الحقيقي والنفي الجذري لكلية وجودنا وكينونتنا الإنسانية .

تسكن الـ أنا العميقة في أعمق أعماقه وتجسد عنده الفعل الحر الذي هو كما يقول بيرجسون الفكر الأكثر تأسيسا للذات بخلاف السقوط الذي هو الاندماج في عالم الآخرين. لهذا تجسد الـ أنا العميقة عند سامي مهدي الصعود والإرتقاع الفكري بحثاً عن ذاته وعن مكانٍ يمتلك فيه حريته للعيش بسلام ، فالحرية كما يراها الفيلسوف الألماني هيدجر هي قدرة الإنسان على تأسيس ذاته من حيث هي متميزة عن غيرها. تتألق الـ أنا العميقة عند سامي مهدي الذي يمتلك الرصيد العالي من القيم المعنوية ويمجد الإنسان في قواه الروحية ، يؤمن بالحرية التي لا تستمد شرعيتها من تفوقها السلاحي والمادي ، ولا يغيب معها الحوار المتناغم ، لا تبتر ماضينا وحاضرنا ،لا تتركنا نسير في أنفاق التخلف المعتم وأنفاق الملذات الحسية ، بل يؤمن بالحرية النابعة من القيم الروحية التي تأخذ الإنسان إلى فضاء البحث والمعرفة والإيغال في المعنى الحقيقي للحياة وهو البناء والتعمير وليس الهدم والتدمير والتخريب الطائفي ، وهنا تنبثق الـ أنا الإنسانية تسبح في فضاء الألم والقلق والحياة والموت تعكس رؤية الشاعر الذي يُدرك هشاشة الحياة التي تسير باتجاه الموت الذي يرى فيه أساس المعرفة الجوهرية ، وأن لكل إنسان ذاته الخاصة لكن ذلك لا يعني أن نعتزلَ الحياة وننكفئَ على أنفسنا ، بل علينا أن نُحيلَ الحياة إلى فاعلية نشطة ولهذا نرى أن رحلته في هذه القصيدة تنسجم مع رؤية هيدجر الذي يرى رحلة الإنسان في الحياة رحلة تفهُّم الذات والعالم والكشف عن الوجود ، فالإبداع عنده ، هو هذه اللحظة التي تنتشله من فكرة الفناء والعدم والوجود الزائف وتكشف له المعنى الحقيقي لكينونته الإنسانية التي هي في فلسفة هدجرالكينونة المنفتحة أبداً على الوجود . يرفض الشاعر التخريب ويمجد الحرية التي يزينها الوعي الذي يرى فيه هيجل الشرط الجوهري لتقدم الروح ذاتها باتجاه الوعي المطلق .

إن قصيدة سامي مهدي " لحظات ٌ خاصة " ذات طابع ميتافيزيقي ، مبنية على الماضي والحاضر والمستقبل ، يتجلى فيها صراع الروح مع نقيضها القبيح الذي يتجسد في الواقع الممزق الحزين، لذا تُؤثر الانفصال عنه وبدء مرحلة جديدة يجد فيها الشاعر كينونته ووجوده في مستقبل يمثل له الملاذ و الخلاص . تعلو الـ أنا الإنسانية في القصيدة بترانيم الأمل التي تنشده في مستقبل أكثر سخاءً في إسعاد الإنسان وانتشاله من حاضره المؤلم ، مستقبل لا يهدم الماضي بل يُعيد صياغته ويخلق واقعاً جديد يزدهر بالفعل الذي يحمي الإنسان ولا يقمع أمله وحريته وهذا ما يبني عليه الشاعر مفهومه الجوهري للحرية التي لها قدسيتها ولنا حقنا في ممارستها بالفعل الخلَّاق وليس بالفعل التخريبيٍ ، وإلا فسنبقى مدفونين في حفرة الجهل والتخلف ، صامتين أمام الهجمات الكبرى التي تأتينا من الغرب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3