الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( مرايا الشيب ) نص يؤسس لنمط مميز في السرد

عبدالكريم الساعدي

2015 / 6 / 23
الادب والفن


( مرايا الشيب ) نص يؤسس لنمط مميز في السرد.
دراسة نقدية
بقلم أستاذ النقد العربي: أحمد طنطاوي
النص/ مرايا الشيب / للقاص عبدالكريم الساعدي

كتابة عملاقة تؤسس لنمط مميز في السرد ..كتابة تعيد إلى الأذهان عصر هذه الريادة للأساطين, كمصطفى صادق الرافعي و قلمه المعجز الجبار الرصين , و محمد عبد الحليم عبد الله و ريشته الناعمة مصورة الغمام و الأصيل و المشاعر المساوقة لهما, و من يماثل هذه الأمثلة و الروافد .قلم واضح أنه نهل و استوعب تماما تراث عميق, و معاصرة تجسِّد الفلسفة و الفكر الثاقب و التأمل الاشراقي.الكاتب يجيد تمامًا و بشكل مذهل آليات التناول لموضوعاته ... يعرف كيف يقتحمها بحس الخبير الواعي لخصائص المتلقي المنتظر .. هو يُنشىء و منذ الوهلة الأولى جدلية بينه و بين قارئه هذا على أسس معرفية يقترحها مسبقًا, مفادها أن عليك أن [ تتمثل و أن تعايش ] و أن تتشرب الكلمات بقلب عازف حالم و منشد مبتهل .. أنت الآن في ساحة القداسة, و عليك أن تتنسم الأريج, و تستشعر المسك و الأراك, و هذا البخور النادر الذي تحتشد به الأركان. أنا أصر على هذا المنحى العطري التنويمي الذي تمارسه هذه الكتابة العبقرية الغريبة..أن القارئ لن يكون بعد القراءة هو هو نفس الشخص قبل أن يقترب و يكتشف هذا المنحى الصوفي المحلِّق في الأرجاء يلح عليه الكاتب, و هي سمة لصيقة به تمامًا. إنه يدخل بك عبر القراءة إلى كهوف [ التذوق ] الجليل بالمفهوم الصوفي , و يهمس إليك بالمقولة الشهيرة [ من ذاق عرف ] .. فتعال نديمي _ عبر الكتابة_ نلج غمار الوعي المعرفي الفائق بصياغة أدبية صرفة, و هي الفلسفة أيضًا بتمامها مستترة لو تأملنا.(مرايا الشيب) - هذه بالمناسبة- و قبل البدء في محاولة القراءة للنص الثرى _ هي مرايا متعاكسة تُرى فيها الذات على أسطح مختلفة الألوان و الإضاءات , فتشكِّل في مجموعها بانوراما من التعرُّف النشِط للروح في رحلتها السرمدية.
[1]
حين تقوم الروح بتجميع المفردات المتناثرة في سماء التوله، في نظرة متأمل يمزج بحكمة رجل ستيني لن يطأ غير حرائق الأمس و يخرج منها مفعمًا , لاشك أن نتوقع التحليق في آفاق تجربة عرفانية عانت من قبل إحباطاته, رجل جديد خرج لتوه من انصهار يماثل تجربة "جوتاما بوذا " تحت الشجرة بعد اليقظة و التنور.. الرؤى تتغير حتمًا حين تكتسب الأشياء خطوطها القزحية متجسِّدة بضياءٍ كأنه آتٍ من سدمٍ بعيدة المكان اختيار يحتشد بكل الإمكانات الداعية للتفكر المدهش .. نُزل أتخيله في مكان منعزل يؤمه المسافرون , هذا المكان مسرح خيالي ممتاز يردد إيقاع سكنى الغرباء القليلة الشاحبة للعابرين في رحلات رمادية و أسفار مجهولة لا شك تحمل في رحمها حكاياها هرم وحيد يجتر في توهُّج و توقد و لهيب أحداث حياته, و ينبش عبر الذاكرة و يجترح ماضيه المثقل بمعاناته التي ما فتىء ينظرها في المرايا و هو قابع في دائرة ذاته استكشافًا, هو يراقب في وله و تمعُّن حركة الحياة في مقابلات مع مراياه الخاصة .. هذه التحركات للمسافرين تلقى انعكاساتها _ تكشـــــُّفًا _ على ذاته القلقة التي تراجع حياتها من جديد المعاني الجديدة لخطوط رسمها الزمن على جبينه دون أن يدرى, و نشر الشيب ستائره على نوافذ الوجدان, و ها قد حان الآن وقت التعرف و الاكتشاف ..هذا الاقتراب التدريجي يُماثل ليلة ديكارت الشهيرة أمام المدفأة و رحلته الفكرية المتدرجة حتى الوصول إلى الكوجيتو المعروف " أنا أفكر إذا أنا موجود " , و هي وحدة و رحلة اكتشاف موازية أيضا لرحلة حي ابن يقظان منفردًا على الجزيرة النص إذًا إبستمولوجى [ بحث معرفي ] بامتياز , و إن كانت مادة المعرفة ها هنا هي المعرفة الباطنية الأفلوطنية المدهشة , و هي تقصٍ مضنٍ عن اللوغوس Logos القانون الكلى للكون و المبدأ الفعال ] , و يجب الحرص على النظر إلى النص من هذه الزاوية , و لهذا كنت قد وصفت النص في أول تعليق لي _ و مباشرة _ [أنه إشــــــــــــــــــــراقة تستدعي التأمل .[
[2]
هم الهاربون .. و هو كذلك هؤلاء جزعوا فتسربوا تباعًا حيث ظنوا أنه التواري , هم يعانون الخطأ , و يرزحون تحت عب إثمهم و الخطايا , لذا اختاروا هذا المكان المعزول _ كالمصحات النفسية _ في الأماكن البعيدة المختفية بين غابات الأشجار حيث السيادة فقط لأصوات الطيور إنهم ليسوا بالعاديين .. بل هم من ينطبق عليهم وصف نسيم " _ زوج جوستين في الجزء الأول من رباعية الإسكندرية و المعنون باسمها النفسي أو الجنسي _ "يطبع أناســـًا اختاروا الانتحار المتعجل و المنفى ,في محاولة منهم لاستعادة الهيكل , و إعادة بناء الروح , أو الانتظار حيث تضرب الروح ضربتها و تلوذ لمستقرها الأخير النبي و الآثم , كلاهما يسمه الاختلاف و التميز .. بل إن الكابالا_ المذهب التصوفىإن " الإسكندرية " تفعل بالحب ما تفعله معصرة النبيذ , و إن الخارج منها إما أن يكون رجلا مريضًا أو يعانى الوحدة أو نبيًا _ أعنى بما أقول , كل الذين جرحوا بعمق في قدرتهم الجنسية " إن العجز _ تمثل الإثارة الجنسية فيه نوعًا من الرعب اللذيذ, إذ يكفى الإعلان عن علاماتها الطقوسية حتى تثير فكرة الجنس نفسه و تطرده في الوقت نفسه , فالاستربتيز يقوم على فكرة التناقض , فهو إزالة الصفة الجنسية عن المرأة في الوقت الذي نعريها فيه.. هو تلقيح الجمهور بجرعة من الشر لنتمكن بعدها من إغراقه" في الخير الأخلاقي(رولان بارت - أسطوريات : أساطير الحياة اليومية ) و هو ما يعيدنا إلى فكرة التطهر في الكابالا العاديون هم الآليون النمطيون المماثلون للتماثيل الشمعية و الواصلون هم المحترقون المنغمسون في بحار الضياء و الكشف و التحقق حتى لو كانت الضريبة هي الاحتراق و التلظي و الانصهار حتى الذوبان ..... فلا يبق إلا الروح فقط, و التسامي بعد الفناء و الزوال { الظاهري البوذي } الأداةالملاهي,بيل, و تلك الرحلة الخطرة هي [ المرايا المتعددة ].. تلك الوسيلة الحتمية الساحرة للرؤية على مستويات عدة .. مظهرها الساخر _ ذو الدلالة العميقة الداعية للتأمل_غرفة المرايا الضاحكة بمدينة الملاهي , حيث يرى الإنسان أوجهه الأخرى المتعددة البعيدة عن التأنق و التحطيمية الكاشفة في قسوة بالغة.
[ 3 ]
الضجر و افتقاد المعنى
يتراوح السرد في النص بين نعومة الاستقصاء .. و اقتحام دوائر اللهب .. و بشكل عام , فإن قصص الذكريات و التغلغل النفسي و الاستبطان تتميز بحميمية و توتر و قلق مساوق, في نفس الوقت الذي تتدرج فيه السياقات في دروب تحاول أن تلمس الجوانب الخبيئة للنفس .. إن الأحداث [ باطنية ] و التطور تمثله المونولوجات الداخلية و الرؤى الذاتية , و التصور الراسم الرؤيوي و لن نرى أحداثًا خارجية كبيرة , بل إن التطور الدرامي يعتمد على تدرج الشحنات الوجدانية تصاعدًا كلما اقتربنا من بؤرة التذكر , أو الاكتشاف النهائي المراد كما في رواية "ذكريات " مثلا لأجاثا كريستي , و التي تحكى فيها استدعاءات ماضٍ يعج بالعلامات , و كما في رواية " الغثيان "لسارتر التي أجد تشابهًا في الروح و السياق العام بينها و بين هذا النص من حيث التعامل بصيغة اليوميات و العدمية المسيطرة , و الإحساس العام بالعبثية
و عدم وجود المعنى الكامل المفهوم للحياة , و حتى في النهاية التي يحدث فيها الفراق بين البطل و حبيبته إن القصة التي بين أيدينا درس كامل في هذا المفهوم [ مفهوم الضجر
و افتقاد المعنى ] , و هو التجسيد الرمزي لعتبة النص _ عنوانه الدال ) مرايا الشيب )،
فالنص يمثِّل انعكاسات العمر مُلقاة على جدران التأمل ..السطوع و الظلال ..المرايا المتعددة المساهمة في تحقيق التعرُّف و اكتشاف المعنى المستتر.
[ 4 ]
( أ ) في صناعة النثر
أبو الهلال العسكري في كتابه { الصناعتين : الكتابة و الشعر } أورد _ في باب البديع , فصل الاستعارة و المجاز _ نماذج كثيرة رائعة للكتابة المحلِّـــقة في سماوات التألق و الفخامة مثل قول أعرابي " ما رأيت دمعة ترقرق في عين , أحسن من عبرة أمطرتها عينها , فأعشب لها قلبي " , و أعرابي آخر وصف دارًا فقال " هي و الله معتصرة الدموع . جرت بها الرياح أذيالها , و حلت بها السحاب أثقالها و في العصر الحديث نجد الأمثلة الراقية عند من أعطوا للنثر ألوانه الفخيمة اللائقة شديدة التأثير كمصطفى صادق الرافعي , و محمد عبد الحليم عبد الله { الذي يماثل في رأيي مدرسة أبوللو في الشعر رومنسية و حزنًا } و نموذج شاعر النيل " حافظ إبراهيم" النثري في تعريبه لرواية البؤساء لفيكتور هيجو و التي بدأها بهذه السطور :

" أشرف على مدينة ديني رجل يضرب في الأرض على قدميه فدخلها و قد مال ميزان النهار و اكتهل اليوم الأول من شهر أكتوبر سنة 1815 و كان قد ركب نعليه عامة يومه فما أدركها حتى أخذ منه الجهد و أعياه النصب و أمله طول الشقة , و حتى ملكه الجوع و نال منه الظمأ و جمع في منظره بين تعب الحياة و تعب السفر , فكانت النظرة إليه تدعو إلى الريبة فيه . لذلك ما نظره أحد من سكان تلك المدينة إلا و مرت بالمخيلة, في أمره و تصويرًا سعوا إلى اتخاذ اللغة سبيلا للتشكيل الفني و رسم اللوحات الشعورية المسرفة في الإيحاء و المغايرة عن الواقع الذي يعانى جفاف روتينيته . بإيجاد العطر المختفي بعيدًا .. و استحضار العبق الكامن داخل الأشياء ليمثلا أمام المخيلة , ليرسما لوحاتها و يردِّدا إيقاعاتها هؤلاء و غيرهم ممن سلكوا نفس هذا المسلك الجمالي في التعامل مع اللغة سبكًا. و كاتبنا هو المظهر الحالي لهذه السلسلة الممتدة عبر حلقات الإبداع الثرى النشِط كما سنرى بهاء الفيوضات , و أنوار التجليات التي أبدعها قلمه العجيب و ريشته الغريبة.
( ب ) ميتافيزيقا اللغة
كان النقد الجمالي القديم يتعامل مع فنيات اللغة استخدامًا ظاهريًا يهتم بالخطوط].الألوان الخارجية للوحة دون استيحاء الأبعاد الباطنية و الماورائية التي يمكن أن [ تهبها ] و توفرها اللغة [ كبناء فلسفي .. كأيقونة فلسفية و سيكولوجية ] تتجاوز الأبعاد المتاحة إلى تلك الأخرى المتجاوزة و المستحيلة , و الضاربة في جذور اللاوعي .. و حتى بالنسبة للمستويات الممكنة للوعي فهي تتعامل معه باعتباره [ وعيًا جديدًا ] .. وعيًا يدرك علاقة جديدة مع الكون لم يكن
العقل يدركها قبل ظهور النظريات الحديثة التي تدخل نطاق الغرابة و اللامعقول فيما يتصل بالزمن مثلا كالنسبية و الكوانتم _ النظرية الكمية _ بأبعادهما العلمية و الفلسفية، كان الهلال قديمًا صورة بالغة الروعة في تصوير ابن المعتز له :

" انظر إليه كزورق من فضة ** قد أثقلته حمولة من عنبر "

أو أنه :

" كَمِنجَلٍ قَد صيغَ مِن فِضَّة يَحصُدُ مِن زُهرِ الدُجى نَرجِسا "

أو كما وصف الشاعر محمود سامي البارودي محنته بأنه قد :
مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي...فَشِبْتُ وَلَمْ أَقْضِ اللُّبَانَةَ مِنْ سِنِّي

عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ…أَلا شَدَّ مَا أَلْقَاهُ فِي الدَّهْرِ مِنْ غَبْنِ "
إنه الظاهر , و هي المباشرة غير المتوغلة لأسطح المرايا الأخر , تعامل لا يتوخى الانعكاسات العميقة و لا ينبش باحثًا عنها في الثنايا .روح تتشهى القبض على الحقيقة .. بالتأكيد ليست هي الحقيقة كما كان يراها الأدب القديم , و المعروضة نماذج منها فيما سبق عند ابن المعتز , و الذي اكتفى بوصف ( شكل ) الهلال كأنّه زورق فضي يفيض بحمولة سوداء , و لم يتخذه معبرًا لتصوير المماثل النفسي الذي ينوء بالأثقال في عصر قلق و هاجس مترع , و حافظ إبراهيم الذي اهتم بجماليات اللغة فقط , و حتى في عصر الإحياء عند البارودي الذي وصف محنته أن الفراق قد أورده للشيب في عهد الشباب , و شرح الأمر في تقرير مفاده أنه :
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ فقط .......... و ليس ذلك العالم الكبير الذي صوره " السياب " في قصيدته " غريب على الخليج " لم يرسم هذا الأدب إذًا ( الما وراء ) أو يصور باطن هذه الخطوط المسرفة في عموميتها , و التي اهتم الأدب المعاصر بالتركيز عليها .. كما عند
" بشر فارس " مثلا في جبهة الغيب 1960التى يتطلع بطل المسرحية فيها إلى الوصول إلى "العالية" ذلك الجبل الذي تستقر فيه الأبدية , و حين يستوقفه الإمام كي لا يصعد يخاطبه قائلا:

"حسبك أن تكون سلكت في الطريق، أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، لا نظرة من حدقة جنيت بغبار السنابل، ولكن من حدقة هي للروح طاقة " أو في هاتف المغيب لجمال الغيطاني 1992 التي يحس البطل فيها بهاتف غريب يضطره إلى الهجرة نحو مغيب الشمس يتساءل :

" لماذا يكون الموت فجرا ؟ كذا الميلاد في معظم الأحيان ؟ و

" خلال للحظات الفاصلة , الواصلة بين عالمين , دوى الهاتف , برق , لكم تكررفيما بعد , لكنه لا ينسى أبدا المرة الأولى , هكذا .. لا تمحى البدايات من الذهن , كذا النهايات , أما ما يقع بينهما فنسبى " أو كما بلغ الذرى بعد ذلك في " كتاب التجليات " 1997 وصولا إلى كاتبنا الأستاذ عبد الكريم الساعدي .. هذا الامتداد الطبيعي و الصادق في تمثيل هذا الاتجاه الأسلوبي العميق الفريد.
[ 5 ]
الأسلوب و السرد

بداية, لا أتخيل أن يُكتب هذا النص بأي شكل آخر غير هذا الشكل , و لا أسلوب و قلم غير هذا القلم .الجماليات.لتناول و معالجة السياق المحموم الرهيف, ساروا جميعًا بإحكام
و سبك مذهل في بلاغة و تمكن يستثيران التأمل و الدهشة الكاملة :فسيفساء اللغة .. الجماليات .. الشعريالراسمة. .. الإيقاع الصوتي و التناغمي بين الجمل و الفقرات , معمار هندسي يدعو للتوقف , فالعتبة مثلا :

" مرايا الشيب" بصيغة الجمع , تؤكد _ منذ البداية _ ما سيتضمنه النص من تراوحات و أخيلة عاكسة _ فهي ليست مرآة واحدة مخاتلة , بل هي مرايا مثيرة للقلق , و أن المرايا المتعددة ستسعى لرسم المعنى الشائق من خلال تقليب الأوجه , و عدم الارتكان للظن الواحد اليقيني , فالحقيقة في النهاية مغلّفة برقائق الخداع و عدم الفهم الكامل "ما كنت أدري أنّي دوّنت أنين النزلاء، كبرياءَ الأمس، بعدما لفظتهم لوعة" النهاية هي تجربة صوفية .. و هي استدعاءات ماض يعج بالعلامات . التعامل الآن يسعى للقبض على الكامن في الأشياء .. إيمان بتجليات الباطن اللامحدودة , و تلك اللهفة العارمة للتوحد بالكون في هرمسية تستبدل
"مطوّقة بالإثم " جملة واحدة حوت مجلدًا من سماوات التألق المصوِّر لهؤلاء الذين يحملون
تعاستهم _ و خطاياهم _ تنوء بها ظهورهم و يسعون لما يشبه المطهر الدانتي , و يشير أيضًا من طرف خفي إلى فكرة المخلّص و مفهوم الفداء في المفهوم المسيحي . المعنى فلسفي غائر , و لا تصلح كل الطرائق القديمة لرسمه , فالمعنى متسع للغاية و متشابك , و القارئ نفسه هو قارئ جديد مغاير , و بين الكاتب ] الحديث [ و القارئ [ الحديث ] وشائج و جدليات
تختلف _ أيضًا _ باختلاف كل من الكاتب ( الفذ ) و المتلقي ( الواعي) , روابط و اتفاق مسبق على المشاركة المزدوجة لكشف المغاليق عبر التحليق المتكاتف في سماوات التجلي الفائق، و التجربة هنا في :

الكوجيتو الديكارتي [ أنا أفكر إذا أنا موجود ـــــــ إلى [أنا أسبر أغوار الوجود و أتشربه و أحاوره و اتحد به ..... إذا أنا موجود ] إنّها مراودة صوفية للقبض على الحقيقة .. و أنوار التجلي

" كان المكان يوشوش بالصمت والهدوء، يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع عيون تقطر دهشة وندم، مكان اتكأَ فوق عجز نزلائه. ، أجسادٌ خاوية مرّ بها المكان أرقاً "


" عدت وأنا كلّي شوق لأملأ كأسي من إيقاع ثمالته، من نبع أنينه "
" حين أطلق أحلامه المنسيّة اغتاله الفجر، كان فجراً كاذباً "

" أفترشُ أهداب المكان، تفزعني مقل تحدّق في الضباب، تنتظر أدوارها، تعدّ ما تبقّى من عمر". الزمانية - المكانية تشكِّل مع الأبطال وحدة ما , يتم النظر إليها من خلال منشور زجاجي متقن الصنع .
[ 6 ]
لكل فن كتابي طريقته المميزة له , فكتابة المقال الصحفي تختلف عن الكتابة القانونية عن الكتابة العلمية , و جميعهم يختلفون عن الكتابة الأدبية التي تختلف هي أيضًا جناسيًا : { قصة - شعرًا- نقدًا و حتى في مجال القصة فطبيعة الموضوع تقتضى [ نمطًا خاصًا ] من التناول .. [الأسلوبية حسًا معيناً ] من المعالجة .... } فالموضوع السيكولوجي المتوتر اللاهث يقتضى [ كتابة قلِقة ] كما في قصص إدجار آلان بو الكابوسية الخانقة التي تتميز بالسرعة و نيرانية الكلمة الصارخة المرضى النفسيين و العقليين و القبور و لتصور البشاعة و الجرائم , و الموضوع الشاعري الهامس ستختلف حريرية الألفاظ و رهافتها تمامًا عن التناول السابق. أما الموضوعات الميتافيزيقية الماورائية التي تخاطب الروح بالأساس في رحلتها السديمية الغامضة المجهِدة _ كهذا الموضوع الفلسفي العميق _ فلابد أن تهرع إلى معالجة [ فوق -عادية ] في الوصف الذي يعالج مستوىً سادسًا أو سابعًا من الوعي يجعل المكان مثلا: : .
يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع، صراخ يتلاشى في هدأة النسيان" "
و "يتكىء فوق عجز نزلائه" هذا التجسيد للمكان الذي يجعل الجماد يضج بالصراخ غير المجدي, و يشارك القابعين فيه أساهم , بل يغمره الإنهاك حتى يتكئ هو على عجزهم الملول , هو تصوير لا تقدر عليه كلاسيكيات الأدب العربي القديم في أقصى ما وصلت إليه من براعة بلاغية الصور تتابع في تدفق موجي ساحر لتؤكد ما ذهبت إليه من ما ورائية الرؤى الواصفة المتحدة بالشخصيات اتحادًا تامًا:
فرّ إلى نافذة الوجع، يلتهم مرارة صمته، فجاءت كلماته من فم ماضٍ يغشاه مدّ بعيد" "
القصة تحتشد كلها بأمثال هذا التناول , و من العبث الاستمرار في استحضار الأمثلة , و إلا سأنسخ القصة كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ عبد الكريم الساعدي علامة بحق في مجال الكتابة الفائقة الشائقة المحكمة , و المعالجة ذات الأبعاد الثلاثة , و استخدام قوس قزح ريشة , و مياه الأمطار مدادًا , و هو بحق فخر للكتابة العربية الرصينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با