الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناجي العلي.. قمر المنفى

سليم النجار

2005 / 10 / 9
الادب والفن


بحرقة الذي ضيع اخر خيوط الفرح رسم ناجي العلي وطنا لذاكرة الحلم يرتسم في عين اللاجيء.
حدق في الاشياء ورأها غربة كبيرة ملأت كل ثقب في الخيمة التي ضمت حزنه طيلة حياته.
كانت عيون أولئك الأطفال الذين يزينون جدران بيوت الصفيح في المخيم تتجه نحوه لتسأله :اخرجنا من الخيمة.. متى نصير ككل الاطفال فنملأ المكان ضحكات جميلة?
تبرز الذاكرة في رسومات ناجي العلي دون غطاء, بينما تلفها فرشاته في ثنايا العذاب فتحجبها من بعض الاشياء التي لا يمكن ان نهرب منها.
ذاكرته امتلأت بكاء مرا, بكي وطنا غادره ذات فصل وتركه لغربة الايام.. وبعدها.. تمزقت احلامه في فراغات السياسة التي ابعدته عن وطنه , وعززت غربته..
انتهى به المطاف الى حالة تشبه الزهد او التصوف.. حبس نفسه في فنه, وظل يرسم الوجه ذاته للوطن ذاته.. انحصر عالمه كله في وطن رحل, وفشلت كل المحاولات في اعادته الى جمال الاشياء.
عدد خيبات وانكسارات الفلسطيني الغريب في ليل بارد حزين, وجوه بلا دفاء.. شعر انه خارج الاشياء, خارج هؤلاء الذين يدخلون ويشربون.. ثم يغادرون بلا رغبة في الضحك او البكاء.. منذ متى غادرته الرغبة في الصحر, وترك كأس الرغبة ان ينسى ما حدث وما يحدث? ربما منذ ان صار الوطن في عينه مجرد صفقة! او منذ فقد الدين احبهم الواحد تلو الامر..
يوم غادره غسان كنفاني, كان ما حوله اشبه بنفق مظلم لا حدود له.. تركه وحيدا اشبه بطفل ضائع يبحث في تفاصيل الوجوه الغريبة عن ملامح لوطن يغيب.
الحزن استوطن كل دواخله.. احتضن منظلة ووهبه حبا ايوبا.. لم يكن يدري يومها ان حنظلة نفسه سيعيده الى مجرد اشلاء في كفن بارد في بلاد الضباب..
بحر المنافي قذفه بكل صخبه ليستوطن في جوفه, شعر بموجه يرتطم بشغاف القلب يذكره بوحدته وهو يتنقل في مدن العالم, يعد جراحات العصر وبقايا وطن كان هو.
واخيرا احتفل بعيد الكفاح المسلح, على شاطىء حزين حيث لا احد سواه وحقيبة سفر من الم وكوابيس, جلس وجلست بجانبه فرشاته تلون كآبة السنوات الراحلة اذا امضاها عاشقا لوطن الذكرى..
يحدث بعينيه في بحر الخليج ومع كل موجة اغتسل من كذبة »صدقها ذات يوم ببراءة طفل«!
»تحرير فلسطين من النهر للبحر«
وتصير الكلمات »سكاكين« تمزق كمه بلا هوادة.. الطفل كبر والاكاذيب تخنقه, واختلط الحلم بالكذب وغابت فلسطين بمدنها الجميلة.
فرشاته حقيبة سفر متنقلة.. كانت اللحظات تموت في داخله, وكان الفرح يؤجل موعده معه, وكانت كل الاشياء تهرب من ذاكرته والاتي يفقد طمعه.. وكان الآتي الذي لم يتركوه ليأتي...!! وظل يتمزق على اسفلت الشوارع, خائفا وعاريا كرصاصة تجهل سبب اطلاقها..
ما زلنا نذكر يوما تبكي رفيقك غسان كنفاني.. الذي عدت باشلاء جسده.. يومها لجأت الى فرشاتك.. صرخت
لا احتمل موت الاشياء الجميلة في هذا الوطن!!
نطقت بعد صمت: الحزن يجب ان يأخذ دوره.. علينا ان نتخلى عن بعض الاحلام الجميلة.. فالنتائج لن تكون كلها ممكنة!!
هل تنبأت يومها بموت اجمل احلامك بموتك?!
شيء يقتل الخوف بداخله.. رصاصة ما ستصيبه.. سيطلقها احدهم من مكان ما.. ستثقب مكانا ما في جسدك.. ربما رأسك ربما سيحولونك الى جثة هامدة وينتهى الحلم الجميل..
وفلسطين الخضراء.. وكل ما كنا نريد ان يحدث ولكن لماذا تموت انت?!
هل كنت تدري انك تذهب الى الموت يوم التحقت بالثوار?
اي حقد يأكل هذا الوطن?
الانتفاضة تشد رواحلها نحوه بكل البرد المعتاد, وباقترابها منه تكبر حظوظ الموت, ويصبح من الصعب التكهن برؤية النجر من جديد..
تبين من خلال ضوء الحجارة.. حجارة.. -الانتفاضة.. انه خافت.. اغمض عيناه, وقلبه يكاد يحترق في صدره.. ودمعة مكابرة حبسها في مقلتيه.. فقط تعلم ان الدموع لا تليق بالرجال. وضع فرشاته على لوحته.. وتحسس وجه »حنظلة« فاذا ببرودة جافة تشل يديه.. ايمكن ان يكون هذا هو الوطن?
ايمكن ان يصبح الوطن لحظة موت مرعب لا غير?
انت مراقب ومطارد!! ها هو الوطن يأتي في صورة حجارة, او ام شهيد لانها لم تحتمل خبر موته الكاذب. وها هو يغادر قريته مطاردا برصاصهم ومطاردا بذاكرته من مدينة الى اخرى.. هارب من فراغ الى آخر.. ويظل يراهن على اشياء يعرف مسبقا انها ستموت.. لكنه يرفض ان يوقف حلمه.

ناجي العلي ساخر كبير وظف اللغة في فنه, ليس لتوضيح النهار, لا بل صاغ وعيه بمفردات ثقافية تدعو للثورة والتمرد من موقع الداعي لتركيبة ثقافة الذين يخاطبهم, خاصة ان فن الكاريكاتير ما زال في ذلك الوقت فنا للسخرية التي تنتقد نصاعة مرآة السلطة!
العلي حول المفردات اللغوية الى شريط سينمائي, يعرض على من بردت ذاكرتهم. وتأمل الوجوه المحيطة به, فلم يرى منها سوى الخيانة التي تلونها حفنة السماسرة!
وصرخ باللونين الاسود والابيض, كسيناريو متدفق من كل تلك الاجساد الفارغة من الحب والفرح. ولون باللونين كلماته التي سبقت شتات الكلمات السياسية الهاربة من السؤال. وتداول على اللونين الأبيض ثم الاسود, كاشارة منه ان التاريخ بلا ابطال, ليس تاريخا, وان السواد طغى على الوطن, بعد ان كان البياض دلالة الرصاص والنهار الذي سيتفيأ به تحت شجرة في قريته الشجرة.
اللون في رسومات ناجي العلي, لم يكن اداة جمالية تدهش غربة البصر, بل هو قلق وعذاب وترتب.
وهاجس لم يفارقه ابدا, مما دفعه الى اعطائه فرصة في لوحاته.
انحاز ناجي العلي سلفا لواقع الألم, وطرح الفعل ونقيضه, فلم تكن صورة الفلسطيني »زلمة« بالصورة التي كانت تتعزز في اعماله يوما بعد يوم, الا صورة لقبح معاناة الفلسطيني.
اختار الفعل »القبيح« في الجريمة التي ارتكبت بحق الانسان الفلسطيني, والنقيض بالجمال القادم كما هو على ارض الواقع, اي ولد من حفل القبح, فعلا جماليا, كجواب شرط على ارصفة المناقي التي اغرقتها الدماء, وكستها الجثث..
ونتساءل بعد هذه السنين لماذا لم يستخدم الفنان الشهيد ناجي العلي اللون الازرق تحديدا?! وكيف اوصل الاحلام وسط الحرائق بعيدا عن هذا اللون الذي يعطي الانطباع الاول بالحلم- اي الازرق?!
ناجي العلي الذي عاش لسنوات طوال وراء البحار الكبيرة في الكويت وبيروت. لم يحفزه هذا اللون على الاستخدام, وليس غافلا عن اهميته, بقدر ما هو موقف سياسي منه. فلم يستطع تذكر هذا اللون, الا في محطة اخرجته من وطنه. وابعدته عن حلمه.
كان فنانا صادقا ومحملا بالافكار ومثقلا باللوحات والقصص التي لا تنتهي.
غادر البحر, والمطر, الذي طاف به في اصقاع الدنيا, وهو اكثر عناد على عيش الحكاية بعيدا عن مرارة اللون الازرق, الذي فتح فاه لكل ذكريات وطنه, وابتلعه, ليتذوقه بعد ذلك, شتات وخيام, وتشريد.
رفض ان يكون نسخة عن البحر الذي فقد الوانه وعشاقه!
فضل الابيض والاسود, كطبول مرعبة تدق بصورة الممتلىء وحشة وغربة الايام.
ومن جديد, جدد باللون الاسود الاشياء التي اصبحت تخيفه بعد ان احتميت يصدر احترق واحترقت معه ذاكرته الجميلة.
وصارت الالوان في عينيه عبارة عن دوران في طواحين المنفى, ظنا منه ان الاحلام قد تعود.
ناجي العلي من الفنانين العرب القلائل, الذين سعوا بكل قوة وصف العالم العربي المعاش مع ربطه بتصور عالم بديل- اي مستقبلي.
اذا سعى ابداعيا لصالح البناء المستحبلي للعالم العربي. وهنا يصبح موضوع الفن عند ناجي العلي اقرب الى موضوع الايمان. حيث يتأكد المؤمن من موهبته الشخصية, ليس بمضاعفة »اعماله الابداعية«, وانما باليقين الذاتي لاصطفائه, عن طريق الكفاح اليومي.
ويعتبر الفنان ناجي العلي المبدع الحقيقي لفن الكاريكاتير الفلسطيني.. فقد ابتكر شخصية »حنظلة« التي نالت شهرة واسعة, وكانت هذه الشخصية فلسطينية حميمة في دمها وتعبيرها عن نبض الشارع الفلسطيني, وتجسيدها لاحلام الفلسطينيين, وانتقادها للاوضاع الاجتماعية والسياسية بروح لاذعة وخطوط جريئة.
فالتعرف على مشاعر الشخصية وعوالمها الداخلية انما يتأتى عبر الافعال اولا, وعبر موقفها من الحدث ثانيا, وعبر رأي الاخر, هكذا تعرفنا على »حنظلة« وهكذا تتحدد الشخصية في البناء الفني, وفق تموضعها الركني في فضائها التشكيلي.
ولعل من اهم سمات فن ناجي العلي, التعويل على عنصر التعرف من خلال الافكار الشائعة, الامر الذي يضفي غموضا فنتازيا عذبا على فضاءات شخصيته »حنظلة«.
حنظلة في فن ناجي العلي, شخصية من صميم النكبة محكومة بنسقها الذي يرى الوقائع وفق جملة من العلاقات الاجتماعية والسياسية..
فانه يمكن القول انه اذا كانت الشخصية الاجتماعية هي شخصية »حنظلة« الثابتة على مدار فن ناجي العلي, فان الشخصية السياسية التي ولدت من رحم الشخصية الاجتماعية, هي شخصية متغيرة بشكل نقدي بين مقام سياسي واخر, فان شخصية حنظلة تتوزع في المخطط الكبير للصورة السياسية الفلسطينية على نمط الشخصية الاجتماعية, ويمكننا هنا ان نجد في شخصية »حنظلة« مفهوما ديناميا للشخصية يسمح بتحليل منهجي سنتوقف عنده:
تتميز البنية الفنية ل¯ »حنظلة« باشتخال طبقتين فنيتين متميزتين , يميز ناجي العلي ما بينهما خطيا باستخدام الحروف الكاشفة او العادية لتمييز الطبقة الفنية المتعلقة بحاضر الزمن الفني والحروف الغامقة لتميز الطبقة الفنية المتعلقة بماضي هذا الزمن. واذا كانت الطبقة الاولى مشغولة بالتتابع الحدثي وفق زمن ومرعه في الحكاية الفنية, فان الثانية مشغولة بالسرد الاستذكاري. وبهذا المعنى يولد الخطاب الفني لناجي العلي من مفارقات زمنية متواترة ما بين زمن الحكاية وزمن السرد الفني.
وتحقق هذه المنظومة الاستذكارية وظيفة اساسية هي وظيفة اضاءة شخصية حنظلة في تغيرها الذي لا يعرف الثبات, فهي في ضوء منظور نقدي شخصية دينامية متعددة الابعاد, ما ان تستقر على بعد حتى تنزاح عنه الى نقيضه, وهي انزياحات ليست مفاجئة, او تحويلية, بل هي انعكاس للمقام السياسي الفلسطيني, اي معيار الانزياحات الحركة السياسية الفلسطينية المفاجئة من جل تحركها لدى المواطن الفلسطيني العادي, والتي نقلها ناجي العلي بشفافية عالية.
لقد عبر ناجي العلي عن ازمة المثقفين الفلسطينيين في حالات كثيرة معربا عن الفشل والشلل, التي يتحول فيها المثقف من ضمير الشعب الى الخضوع المطلق للطبقة السياسية الفلسطينية المهيمنة على مقاليد السلطة.
وبدلا ان يكون محرضا ثقافيا للجماهير, يتحول الى بهلوان في سرك السياسة الفلسطينية.
ناجي العلي رفض الانضمام لهذا السرك, معتبرا ان الفعل الثقافي موقفا نقديا مفتوحا مقابل سياسة شراء الذمم التي تعتبر بمثابة نسق من الافكار السياسية الخارجية من رحم الهزيمة, لتصور الواقع وطرح اجابات عنه ثابتة او مغلقة, تخدم التوجهات السياسية التي اوصلت الى ما نحن عليه الآن.
مؤلم جدا ان تودع ناجي العلي على الورق!!
ها نحن نحتفل ونرقص على الورق وسط الموج العاتي لعل الرقص يوقظ الرغبة بان ,,, البحر الذي اغواك بالفن المفترس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في