الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتحار جماعي عربي

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2015 / 7 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


"لكنها تدور"

انتحار جماعي عربي

رغم هبة الشباب العربي في ثورات الربيع العربي ورفضهم لجزء من طغاة الوطن وشبكات مصالحهم وطوابيرهم الخامسة بغية اقصائهم واحلالهم بجيل آخر، بوجهات نظر تتماشى مع مسيرة العالم الديمقراطي الحر، إلا أنهم آبوا ورفضوا الرحيل رغم تظاهرهم بذلك مرحليًا بينما كانت الموجة أشد منهم ومن شبكاتهم وطوابيرهم، ثم عادوا ليتسللوا مثل يهود العصور الوسطى عندما اخترعوا الغيتو واختاروه طريقة عيش لهم وسط بحر لجاج من المسيحيين في أوروبا. لم يعِ هؤلاء الفسدة الدرس فعادوا ليناورا من مواقعهم المسيطرة في الدولة في محاولة للحفاظ على مصالحهم وميزاتهم دون أن يدركوا أنهم يلعبون خارج التاريخ والسياق العالمي مهما صور لهم سراب مصالحهم العكس.
قال الشباب كلمتهم مخضبة بالدم في دول النظم التي تُدعى جمهورية، وحدث ما حدث، ولا تزال الملكيات الخليجية تتعامل مع الواقع الجديد كالنعام، رغم أنها تعلم جيدًا ما يُحاك ويُجهز لنزيف دم طويل الأمد في الخليج العربي بين الشيعة والسنة. لا يريدون أن يتعظوا مما حدث في بلدان أخرى، في أميركا اللاتينية، فرغم بعدها الجغرافي عنا إلا أنها قريبة منا لسياقات تاريخية وتنموية وديمغرافية حيث تشبثت الأنظمة الهرمة ومن خلفها الجنرالات والكنيسة بالسلطة ولم يكن أمامها من بد سوى قبول ما يفرضه السياق العالمي واللحظة التاريخية.
لا يريد كثيرون، أو هكذا يتصورون، أن يدركوا أن نظمنا الهرمة وشبكات مصالحها الرثة لم يعد لها متسع في عالم القرن الحادي والعشرين، فمهما بدا الغرب مباركًا لهم، فسوف ينقض على أنظمتهم التي تمثل عبأً عليه أمام شعوب العالم الحر. والشئ نفسه ينسحب على أصحاب التيار الإسلامي الذين لا يريدون أن يدركوا أن الإسلام المشاكس، المنغص لحياة الآخر، لا بد أن ينزوي تمامًا، ليصبح بلا كلمات أو مفاهيم طنانة لا تتماشى مع عالم حر سيأخذ منحى جديدًا فور خروج أوروبا من أزمتها الاقتصادية مع نهاية العقد الحالي.
طرفا النزاع لم يبديا رغبة ولا نية في الحوار والمصالحة، وهذا ما يرفضه المنطق، منطق عالم نحتل مركزه ونسبب له صداعًا مستمرًا بطغاتنا وجهادنا المسلح، ودعواتنا الميتافزيقية والمنافية للسياق. وقد يأتي اليوم الذي نندم فيه على رفضنا للإسلام السياسي المعتدل. أقول هذا وعيني على ما يفعله أنصار بيت المقدس في سيناء وأخواتها في سورية والعراق.
لقد تلاعب البعض بالديمقراطية وأوهم الشعب المصري أنه انصاع لمطالبه في الحرية والديمقراطية، دون أن يسمحوا بتداول حقيقي للسلطة، مستخدمين أشباه الساسة، أو هواة السياسة من الإسلام السياسي، جسرًا في هذه اللعبة.
هنا تحضرني واقعة عشتها في مدريد فيها نقاط التقاء مع ما حدث لاحقًا في أرض الكنانة. ففي عام 1992 التقيت بالزعيم الإسلامي البارز في الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنور هدام وكان معي الصديق محمد عبد الكافي، الكاتب والصحفي التونسي- أطال الله في عمره- وأجرينا معه حوارًا طويلاً حول تداعيات تلك اللحظة على الجبهة والجزائر إذ سرعان ما رفض العالم، ومن خلفه جنرالات الجيش الجزائري، صعودهم في الانتخابات وأخذت التصريحات تؤخذ عنوة من ألسنتهم بأنهم لن يسمحوا بممارسة لعبة الديمقراطية بعد تسلمهم السلطة لينقلب عليهم العالم. يومها رد علينا أنور هدام بهدوء وثبات: أتحدى أن يأتي أحد بمثل هذا التصريح موثقًا على لسان أحدنا. ثم سارت الأمور إلى ما سارت إليه من حرب أهلية أو ما يسمى بالعشرية السوداء، فسالت الدماء روت صحارى وجبال الجزائر وأنهكتها، وكأن التاريخ يريد أن يعيد نفسه لكن الجزائر وفيرة الموارد وتستطيع أن تسمح لنفسها بذلك الترف الدموي.
ما تشهده دول الربيع العربي تحول دموي طال أمده لأن الدين، العقيدة، والنعرات الوطنية الكاذبة يتصارعان في أفق لا يأخذان فيه مفجري هذا التحول الذي أنهك الأمة بعين الاعتبار. كلاهما ينظر إلى كوب الماء بنظرة أحادية تنفضح أمام المشاهدين، ولكلاهما مبرراته المنطقية التي تدلي بظلالها على القاعدة الشعبية للطرفين، بينما الشباب أصبحوا كمتسولٍ على قارعة الطريق في أحسن الظروف ومنهم من أرهبتهم السلطة ولفظتهم أينما شاءت.
الكبت المفرط والشعور بفقدان الأمل في مستقبل أفضل حمل الشباب، الشريحة الأوسع في مجتمعاتنا العربية، إلى التعشيش في شبكات التواصل الاجتماعي، ووصل بكثير منهم الحد إلى تعهيرها، ما أدى إلى نتائج فاضحة ومدمرة: ضاعت اللغة العربية، فلم يعد أبناؤنا في المرحلة الجامعية قادرين على الكتابة بلغة عربية شبه مقبولة، هذا إن كتبوا بأحرف عربية، إذ أصبحت لهذه الشبكات لغة يتقنها الشباب، ثمرة هذا الفشل الرسمي والعائلي في مجتمعاتنا، يضاف إلى ذلك الحرية الجنسية التي تمارس طوال شهور السنة، باستثناء رمضان الذي تقتصر فيه على الليل، فهذا حرام في وقت الصيام، إلى جانب زيادة مضطردة في عدد الملحدين بينهم وفقدان الهوية.
من تسنح له الفرصة بالتجوال بين طلاب الجامعات والاستماع إلى أصواتهم ليسروا إليه بآلامهم، بحكم العمل، سيدرك حجم المأساة والضياع الذي يشعرون به، فجلهم لم يعد يأكل الوطنيات ولا يثق في الإسلام السياسي. إنه الابتعاد عن الوطن، عن الهوية، والبحث عن ملاذ فردي حيثما وجد. هناك رغبة في الخلاص، الفكاك، والتحليق في آفاق تملؤها الحرية الفردية والجمعية. هذه السلبية كانت لدى شريحة عريضة من الشعب في العقد السابق لثورات الربيع العربي. لم يعد الكثيرون يفهمون ما يدور حولهم، فقد طالتهم السنوات العجاف والاضطرابات التي أصبحت تشكل هاجسًا ومصدر خوف في حياتهم اليومية.
هذه السلبية تخيم على شريحة الشباب بينما "العواجيز"، من أي لون سياسي، لا يزالون على خطابهم العقيم الذي يعود إلى عقود مضت، وكأن الدماء التي سالت ولا تزال تسيل لا ثمن لها. ومن غير المنطقي أن تستمر الأمور كثيرًا على ما هي عليه، مهما آمنا بنظرية المؤامرة أم انتفينا وجودها، فكلنا يتآمر على البلد، وما يتفوهون به من وطنيات ومزامير لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن المتأمل لما يحدث في بر مصر منذ اغتيال المدعي العام هشام بركات وما تلاه من دماء تروي رمال سيناء، وما بينهما، يدرك أننا أمام تحول مأسوي في الصراع الدائر منذ سقوط مبارك في 11 فبراير 2011، وما يدور في اليمن والعراق وسورية وما حدث في تونس والكويت، يحملنا على التفكير في ما يحدث. نبدو وقد قررنا الاقدام على انتحار جماعي بعد أن نأتي على بلداننا ونتركها خاوية لتنمو فيها أكبر شوكة زُرعت في ظهر المنطقة لتحقق حلمها بالتمدد بين النيل والفرات.
عندما شاهدنا الضربات الموجعة التي سددها التكفيريون في شمال سيناء إلى الجيش المصري ونشاهد ما يرتكبونه من بشاعات في سورية، أتساءل: ألم يعدونا بتحرير فلسطين بجهادهم؟! لماذا يصوبون بنادقهم إلى ذويهم؟ إذا كانوا يتمتعون بهذه الاستراتيجية والتكتيك العسكري الدقيق فمن شأنهم أن يحرروا فلسطين لو غيروا فوهات بنادقهم وأسلحتهم الحديثة صوب فلسطين المسلوبة.
هناك حكاية يلف سردها روياتان مختلفتان في مضمونهما، ففي روايتها الأولى أن نوعًا من الفئران يسكن جزيرة وعندما تدرك الجماعة اقتراب انتهاء ما في الجزيرة من طعام لها يؤثِر فريق منها الموت حفاظًا على حياة باقي أعضائها فتتوجه مجموعة منها إلى البحر وتنتحر بشكل جماعي، وتفيد روايتها الثانية أن فريق الانتحاريين يأتي على الأخضر واليابس وهو في طريقه إلى البحر. ويبدو أننا نسير على خطى أبطال الرواية الثانية.
في لحظات تشاؤم راحلة كنت أتصور أننا سنتحول، بفضل خزعبلاتنا الميتافيزيقية وتشبثنا بماضٍ لم يكن خيرًا ولا سلامًا، إلى هنود حمر جدد، لكنني اليوم أصبحت أكثر تشاؤمًا وقد نقدم على انتحار جماعي مبكر، أصبح على الأعتاب أكثر مما كنت أتصور في شبابي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا