الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطرف ونماذج من المعيش اليومي

إبراهيم رمزي

2015 / 7 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ظاهرة التطرف والتكفير والإرهاب ... لا تزداد إلا تأريقا لكل المجتمعات الجانحة إلى السلم والتعايش والتسامح. وكل بلاد تضع خططا خاصة بها، أو بتنسيق مع غيرها، من أجل القضاء على الظاهرة. وتوفير السلام اللازم لصيرورة: مجتمعيةٍ، ودينية، واقتصادية، وفكرية، وفنية، ..
لكنّ خطاب التطرف لا يسكن المساجد والزوايا والفضائيات فقط، بل هو منتشر بأساليب كثيرة في المعيش اليومي على أيدي "متطوعين" رصيدهم المعرفي متدنٍّ أو منعدم.
بعضهم يعجز عن تقمص دوْر الواعظ، فيشنف أسماعك – رغما عنك - بتسجيل لأحدهم: باكيا، شاكيا، مرغيا، مزبدا، مشككا في عقائد الناس وسلوكاتهم، ثم متوعدا بالويل والثبور، وعذاب السعير لكل من لم ينته أو يتعظ بما "يَسْلَح" من ترّهات. وبعد معركته الدانكيشوتية يختم بعبارة: "والله تعالى أعلم". (إقرار ضمني بأن بضاعته مغشوشة).
وفئة أخرى: "تصفُ الطلولَ على السماعِ بها"، كل زادهم "أقوال" سمعوها هنا وهناك، وأكثرُها من دجالين ومدّعين للمعرفة الدينية والدنيوية، ... سمعوها فصدقوا خرافيَّتَها، أو أساؤوا فهمها وتمَثّلها، ثم سعوا إلى "وعظ " غيرهم بها، فحرفوها أو ابتدعوا فيها .. متوهّمين أنهم على صواب، وكأنهم وصلوا إلى أسمى الدراية. والأخطر في الأمر هو مشابهة هذه النماذج لعجين في يدٍ "محنَّكة" يسهل عليها تعليب "العجين" لأغراض غوغائية، أو طرود مفخخة.
أما منابرهم فهي: مرْكبات النقل العمومي، والأسواق، والشوارع، وأماكن التجمعات البشرية، وحتى في المقابر.
والخطاب السائد عندهم هو: الجرأة على وضْعك في خانة مصنَّفة، فأنت إما "مؤمن" وإما "كافر"، ولا منزلة بين المنزلتين، ولن يفيدك الدفع ببراءتك مما توصَم به. ومن المضحك المبكي أن يجيء وسْمك على أيدي جهلة توهموا أنك قاصر عقليا وعلميا، رغم أن القصور فيهم بيّن. وقد يغنمون – إذا لم تكن صلبا – "ثواب" التنغيص عليك، وربما تشكيكك فيما لم تشُكّ فيه من سلوكياتك وأفكارك. ولا سبيل إلى الجدال بالتي هي أحسن، لأن الغلبة "للسفيه" أكيدة. وسلاح "الوضيع" إذا قُهِر هو السبّ، والتهم المبتذلة، والسلوكات المستهجنة.
ولن تجد جوابا لتساؤلاتك عن أسباب التلصص والتطفل والرقابة عليك، ما دام الطرف الآخر يلغي من اعتباراته: "ليس عليك هُداهم ولكن الله يَهدي من يشاء"، "لو أنفقت ما في الأرض ما ألّفت بين قلوبهم"، "كل نفس بما كسبت رهينة"، "لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت"، "ولا تزر وازرة وزر أخري"، والمثل الشعبي: كل شاة تعلق من كراعها .
قد يكون الجواب الوحيد المحتمل هو: أن آدمياً مثلك يريد أن ينصّب نفسه واسطة بينك وبين الله، فيبيح لنفسه محاسبتك ومؤاخذتك، وتسليط وصايته وعدوانيته عليك. (انظر موضوعيْ: "من يوميات الشيطان"، و "رسالة إلى دعويّ"، المنشوريْن بموقع الحوار المتمدن.)

والآن أسوق لكم أمثلة واقعية من المعيش اليومي:

1
حضرتْ امرأة مأتمَ إحدى النساء، وكان بين الحاضرات واحدة منهن تصدّت للوعظ. فأخذتْ صديقةُ المرأة بيدها وأخرجتها من المأتم وهي تحوقل، فلما استفسرتها عن السبب، ردت عليها صديقتها: عجبا لهذا الزمان، ولمن لا يستحيي، "الأخت الواعظة" من "بيت سيء السمعة"، من قدامى المومسات السكيرات الحشاشات، أميّة جاهلة، أقامت في السجن مددا مختلفة، فكيف يتأتى لها الوعظ؟

2
طفلة في ربيع الزهور، بقلب أبيض، وسريرة نقية، غِرّة، حالمة، وادعة، لا تميز بين الحُملان والذئاب، سرعان ما يطغى عليها الخجل عند محادثتها، لم تجرب الحياة بعد، ... صادف مرورها في الشارع كهلا - يتأبط لبدة – متوجها نحو المسجد، فتصدى للطفلة بعبارات نابية قاسية، أبرزها: كاسيات عاريات، عليك وعلى والديك لعنة الله أيتها الممسوخة، أنتنّ حطب جهنم وبئس المصير، ...
شكّت الطفلة في عَتَه الرجل وجنونه وخرَفه، وبهتت، ثم أطلقت ساقيها للريح حتى لا يلحقها أذى جسدي .. وهي لا تعرف سببا لتهجّم الرجل عليها.
وصاحبنا هذا، مشهور – عند بعض من يَعرفونه - بهوايةٍ خاصة، دأب على ممارستها باستمرار، إذْ يستغلّ كل فرصة - في الأماكن المزدحمة - لتلمّس أرداف الطفلات والنساء، والاحتكاك بهن، ... فيا له من واعظ تقي!
وقد ذكرني سلوكه بمقطع فيديو – على الشبكة – لشبان - بدولة عربية - يتعقبون فتيات، يتحرشون بهن، ويلمسون مؤخراتهن، في جرأة علنية زائدة عن الحد تعتدي على حرية الآخرين، لا تبالي بالأخلاق وبتوقير الغير. والفتيات ليس في لباسهن ما يثير أو يخدش الحياء، فكلهن محجبات مبرقعات. وربما كانت "شقاوة" المراهقين ترى غير ذلك، وتستند - في "معاكساتها ومزاحها الثقيل" – على إحدى "فتاوي شيوخ ما بين السرة والركبة".

3
متسوّل يردد: "يا أولاد الحلال، يا مؤمنين، يا من مالُه حلال، ... أعطوا مما رزقكم الله لهذا المسكين". فإن استجبت لاستجدائه فأنت "ابن حلال" وإن لم تستجب فأنت "ابن حرام، وكافر، ومالُك حرام من رزق الشيطان، ... "
بالطبع تبدو البراءة في صيغة الاستجداء، وفي اعتماد مصطلحات دينية: "الإيمان والحلال، ونقيضهما: الكفر والحرام"، ولكن وراء الأكمة ما وراءها. والشجرة الواحدة لا تحجب الغابة.

4
شهدتُ دفن والدة أحد الأصدقاء، ولما وُضعت في قبرها وبُديء في إهالة التراب، كانت لوعة الحزن والدموع الحرّى طاغيين على أهلها. ودون تكليف من أحد، انبرى شاب بلحية خفيفة لا يكاد سنه يتجاوز الخامسة والعشرين على أبعد تقدير، ليتحدث عن عذاب القبر ونعيم الحياة الأخروية أو شقائها. وباستفزاز مقيت لم يُراع فيه - أساسا - مشاعر أقارب المتوفاة، قال بنبرة يقينية – مشيرا إلى القبر -: ... وأقسم بالله العظيم أنها تُسأل في قبرها الآن ...
وقد تبين لي – فيما بعد – أنه يتطفل على الجنائز، ويتلاعب بأفئدة الحاضرين ومشاعرهم، لهيمنة الحزن والخشوع، عساه "ينهب" بعض الدريهمات منهم بـ "فهلوة" دينية بذيئة.

5
توقفت الحافلة - التي كنت أستقلّها -، فصعد شاب وفتاة، توجهت الفتاة إلى مقعد في الخلف. أما الشاب فكان يحمل على كتفه جهاز تسجيل متوسط الحجم، بقوة 300 w، شغّله بأقصى قوته، فانطلق صوت مقريء، كان الشاب يحاول مواكبته في القراءة، فيعْثُر به صوتُه الأجش، وعدم حفْظِه لما يُرتّل. عيناه الشاردتان، وأسنانه المصفرة، وشفتاه المسْودَّتان، تصنّفه في خانة السكارى ومن لا علاقة له بالقرآن والدين. ثم غيّر الكاسيت "ليسمعنا" أناشيد وابتهالات دينية، ... وبعد ذلك شرع في عرض الشريطين المسجلين للبيع: "للمؤمنين وليس للمنافقين والزنادقة والكفار، للأتقياء الذين يعرفون الله، ويعزّون الإسلام وينصرونه، ويضحّون في سبيله بالغالي والنفيس، للذين يهُون عليهم ثمنُ الشريطين من أجل سماع كلام الله، وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام .."
ولم يسقط في شباكه إلا إحدى السيدات. ولما رأى بوار "تجارته" انقلب على الركاب بكلام سافل منحط، ثم لحق بصديقته، وبدآ يتناوبان على تدخين لفافة حشيش.

6
شيخ وقور، تعود بسْط لبدته على بلاط الإسمنت الممتد أمام دكانه، والصلاة هناك. ويوما ما وبعد انتهائه من صلاته، تقدم نحوه شخص ليقول له: صلاتك غير جائزة، لأنك تصلي فوق الإسمنت. وأُوقِع في يد الشيخ، وصار يتساءل: أتكون صلاتي طوال السنين الطويلة الماضية غير جائزة لهذا السبب؟
هرع الشيخ إلى تقليب صفحات بعض الكتب الدينية التي بحوزته، والْتَهم صفحاتها، ولكنه لم يعثر على ما يؤكد ملاحظة ذلك "الطفيلي". واستمر في قلقه و"شكه"، حتى جاء أحد أصدقائه - والذي يعتبر أوسع منه ثقافة ومعرفة، بحكم تخرجه من معهد ديني - فنفى مقولة "الطفيلي" نفيا قاطعا، وأورد لذلك عدة شواهد.

7
دعاني أحد الأصدقاء لوليمة بعد رجوعه من الحج. وجاء مجموعة من الفقهاء القراء، فتصدروا المجلس – بعد إزاحة بعض المدعوّين – وبعد شرب كأس شاي، أطلقوا العنان لحناجرهم يرددون سورا قرآنية. وكنّا - بعد انتهاء وصْلاتهم القرائية - نعود لأحاديثنا السابقة. ثم انبرى واحد منهم للقول: سأفسر لكم معنى سورة "العصر"، ثم شرع يسرد – كشريط مسجل - ما حفظ، متناولا الجانب اللغوي، واختلافات المفسرين، وبيان الإعجاز .... والحقيقة أنني كظمت "استحماري" مدة عشرين دقيقة، ثم انسللت من المجلس.
ولما التقيت بذلك الصديق بعد مدة، عاتبني على انصرافي، فكان جوابي: لقد اعتبرتها مناسبة للالتقاء بعدد من الأصدقاء الذين باعد الزمان بيننا وبينهم، وتجديد أحاديث الذكريات وتقلبات الحياة بكل واحد منا ... ولم آت لأكون كالخشب المسندة، مفروضا عليّ الصمت والاستماع، ويا ليته كان قصيرا موجزا. أهذا ما كنت تأمله من استدعائنا؟
هذه الفئة من المقرئين – عادة – تختم جلساتها القرائية بفقرة الدعاء لمن "يتبرع" لهم بقدر ضئيل من المال. (وهو ما يعني منافسة غير شريفة للقينات المغنيات. تسميّتُهن - ويا لمكر التسميات! - في المشرق: عالمات، وفي المغرب: شِيخات. وما ينَلْن يسمى: غْرامة، أو نقطة). والتبرع قد يكون قسريا – لا تطوعيا – خاصة عندما يقف "الفقيه" أمام كل مدعوّ على حدة، ليحرجه حتى يدفع، ثم تقول "الجوقة" في حقه دعاء.
أحد الأشخاص كان يتمسك دائما بعدم الدفع، ويبرر ذلك بقوله: أليس لي فم أدعو به الله؟ كيف أُنيب غيري ليدعو لي؟ هل دعاؤه مقبول للاستجابة، ودعائي مقصيّ منها؟
هذه "التجارة، المعفاة من الضرائب" جعلت بعض "جوقات" القراء والمسمّعين والمنشدين الدينيين، لا تتوانى – حين التعاقد معها – في فرض شروط قد تكون مجحفة بالمستدعِي. مع تفضيل سكان الأحياء الراقية على سكان الأحياء الشعبية. وبعضُ "جوقاتهم" تتخذ من مظاهر البذخ شعارا لها، تتجلى في العناية بمظهرها وأناقتها وتوحيد لباسها، والتنقل في سيارات فخمة، واقتناء أجهزة تكبير صوتية حديثة لاستخدامها (عدة الشغل)، ...
ومن الطرائف التي حدثت في إحدى المرات، ما رواه أحد هؤلاء "الفقهاء"، بمناسبة جمع "الغْرامة"، فقدْ تبرع لهم شخص سكران بمائة درهم، فتمّ الإسهاب في الدعاء له بالهداية والتوبة والرجوع إلى طريق الصواب، ... فهمس في أذن زميله الذي كان يسرد الأدعية: ما أراك إلا هاوي نكدٍ وفقر، بقيةُ المؤمنين الصالحين يتبرعون بالدرهمين، وأفضلهم بالعشرة، وهذا السكران تبرع بمائة، فهلاّ دعوتَ اللهَ بأن يُكثِر من أمثاله.

ختاما، يتعين طرح سؤال - له انتساب لعلم الاجتماع -: ما مدى وعي هذه الفئات بالدور الذي تمارسه في تشويه واقع المتدينين، وازدرائه، وعرضه في صورة كاركاتورية؟ والتسلط على براءة المتقين البسطاء، الوادعين، المسالمين، لتحويلها إلى جحيم؟ ومن ينفي عنهم صفة "العلماء" الذين يتبعهم الغاوون، والذين هم في كل واد يهيمون، ثم يقولون ما لا يفعلون. حتى صار بينهم: "من يحيي ويميت"؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #