الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تغريدة الشجن والحب والموت

هدى توفيق

2015 / 7 / 7
الادب والفن



تغريدة البجعة للروائي مكاوي سعيد، تلك الرواية البديعة، التي تبعث في نفسي بهجة وإبتسامة طويلة تلازم روحي بعد الخلاص من قراءتها مباشرة رغم الجو النوستالجي الحزين المهجن على أجواء الرواية من خلال سرد وحكي بطل الرواية مصطفى ذلك الثائر والمحب والشاعر والفنان والصديق المخلص لكل تفاصيل الحياة التي أخذته إلى الهاوية في نهاية الأمر.
مصطفى يخاطبنا من بداية الرواية قائلا:
- أنا في حاجة إلى مكافأة إلهية ودعم سماوي... أجاهد خلال أعوامي الأخيرة كل أظل أمام الناس كما يتصورون عني... ثقة بالنفس وجرأة واتزان ياه لكل هذا الغباء.. هل مازال أحد يتصور أنه متزن نفسيا؟... ص33
مصطفى إبن الطبقة المتوسطة، التي تحمل هم الصعود، والطموح والبحث عن الحقيقة المستحيلة، وأخيرا الإنهزام والإنكفاء داخل عقاقير بكل الألوان أمام تردي الزمن، وفقدان حبيبة قلبه هند في الجامعة، ثم انهيار عصام تماما بعد موت زوجته سامنثا المفتون بها ليحقق حنينه الجارف لقصة حب حقيقية كما حدث بالضبط للفنان عالمي من أمريكا اللاتينية مكسيكي الجنسية اسمه بييجو ريفيرا، كان يحب زوجته الفنانة التشكيلية فريدا كالو بجنون وعندما أفقدها مرض خطير وجعلها عاجزة عن الخروج والتواصل مع العالم .... إعتكف بيجو كما إعتكف عصام في شقته مستخدما إبداعه وموهبته في الرسم على جدرانها وأسقفها وأرضيتها وأعمدتها وأثاثها... وتتوالى ضربات القدر القاسية على رأس مصطفى حتى يصبح شخصا مريضا نفسيا يعاني الاكتئاب الهوسي أو المرحي، ويتبدل مصطفى من حال إلى حال من شاعر إلى عازف عود يلحن عليه بعض أشعاره إلى مناضل سياسي محب وله، إلى التمرد على مهنة التدريس والدخول إلى عالم الفن والجاليريهات والأصدقاء الأجانب من خلال صداقات ومعارف عصام المتعددة خاصة في منطقة وسط البلد التي تقود إلى معرفة مارشا الأمريكية الجنسية التي تغرس هي وأصدقائها ثقافتها في واقع ثقافي شرقي أصيل به قدر عال من البوهيمية والغرائبية يجعلهم مفتونين وواقعين تحت أسره كالسحر، مندهشين بكل إيماءة، وحركة، ومشهد، حتى يعطيهم مصطفى بحسه الفني وطابعه الرومانسي المفتاح للحقيقة الكاملة دون أي زيادة أو نقصان دون زخرفة أو تجميل أو إصطناع، وقد تمثل ذلك جليا ومدهشا في حكاية أولاد الشوارع وإن كان أبرزهم القائد كريم هؤلاء الملوثين بقاذورات الحياة هم كما هم، ليس هناك أي إضافة من تطورات العلم والمجتمع والثقافة والتحضر وكل تلك المعاني والقيم التي تصبح بلا معنى أمام هذا الوجود الحي الناطق الذي يفرض إشكاليتة كما تتبرأ له مع ديمومة الشارع وسلطة الحاجة والفقر والعوز.
يراهم مصطفى بنظرة حقيقية، ليس بها أي افتعال أو زيف وهو يصرخ من أعماله المسحوقة، عندما عقد عزمه بصدق، عن عدم نيته أن يستكمل مشروع إعداد وكتابة سيناريو فيلم عن أولاد الشوارع مع مارشا لأنهم في الحقيقة هم الجزء الوحيد في حياة مصطفى، الذي به إستطاع أن يتطهر من كل عذاباته، وضلالاته الفكرية، وهو يعيش بضمير معذب تائه حائر، غير قادر بتاتا على صنع أي قرار مصيري لإعوجاج حياته المستديم بين الحنين وإجترار ذكريات الماضي عن حبه الملعون للهروب والإنصياع تماما لصداقة وحب مفرط لعصام ثم الإستستلام تماما لمارشا، وأصدقائها الأجانب حتى يفيق من غيبوبته التي أخذت منه أعوام وأعوام طويلة حتى كاد عمره أن يتلاشى لتبرق له الحقيقة التي غابت عنه لسنوات ممتدة ويكون لقاءه مع كريم في القصر المهجور هو اللقاء الحاسم في حياة مصطفى لتطهيره تماما من كل الماضي والحاضر وربما المستقبل أيضا قائلا على لسانه:
- ولأول مرة هناك أتمنى أن يتركني كريم، أبيت في حضن إحداهن أو يغض الطرف عن معاكستهن ومراودتهن لي عن نفسي أتمنى أن يبتعد عن سبوباته وأن يتركني أتعرض لأذاهن أو متعهن أو حتى مآسيهن أرغب في التلصص على قذارتهن الجنسية على شجارهم الدموي العنيف على دمائهم القانية المندفعة من الجروح كنت بحاجة إلى أن يعزلني شئ عن كل ما يحيط بي لكن هيهات لا أنا ولا هو امتلكنا الجراة للتواصل، كانت الجسور بيتا مهدما من فرط قذارته وواقعيته ومن فرط إدعائي وخيالي ص334.
حتى يقولها بكل شجن وحب وألم شديد وهو يلاحق ساعات قليلة باقية من حياته التي قرر أن ينهيها بصدق بالغ وهو يتأمل كل تفاصيل حياته كشريط سينمائي يدور في عقله بدقة وعبث ووجع لا مثيل له مع هؤلاء المنتهكين (أولاد الشوارع) إلى أدنى درجة من درجات الواقع الذي هو يفوق تصورات الخيال في بعض الأحيان، قائلا على لسانه:
- لو تعلم يا كريم أني الآن أتمنى أن أغوص في الوحل – أريد الموت قذارة أن أتطهر بالوسخ فربما لن يتجنبني الوسخ ويظهر لي اشمئزازا، العلم والتنظير والبوتقة التي نعيش فيها ونحتمي ورائها عزلتنا عن العالم الحقيقي، صنعنا عالما آخر موازيا ليس جميلا ولا محملا بالمثل بل عالما تافها متعاليا خاليا من الروح. ص334
في تلك الرواية الفاتنة التي أقرأها الآن للمرة الثالثة أجزم أن فتنتها تأتي من مصدر واحد يجعلني أهيم بها في سماء الصدق الفني أنه صدق وصل به الكاتب إلى عمق غور سحيق ليس بمقدور الكثير الوصول إليه إنه صدق يجعلنا نشعر بالكلمات والسرد الشيق والحكي المتيقظ كأنه أقرب إلى كادرات سينمائية حية تنبض بلغة رشيقة وبديعة الوصف في العديد من الأمور فكأنك لست فقط تقرأ إنما تشاهد وتشعر وتحس بنفسك تتابع الحكي وتتأثر كالمبصر (كالناظر) للأحداث كما رآها وعاشها مصطفى تماما والرغبة والشوق يحرضك على معرفة المزيد حتى النهاية.
لا شك أن البناء الفني للرواية متماسك ومتجانس في أغلب خيوطه التي يحركها مصطفى كبهلوان محترف دونما أي قدر من الملل أو الرتابة خاصة وهو يخبرنا عن مكان بعيد إلى حد ما عن أذهان العديد من الناس خاصة من يقطنون خارج القاهرة تقريبا لا يعرفون عنه غير الإسم الشائع والمتداول وسط البلد وميدان التحرير وطلعت حرب وكل الشوارع الخلفية والملاحقة له جروبي والآتيليه وقهوة ريش وزهرة البستان والنادي اليوناني والعديد من الجاليرهات للفن التشكيلي والفنون الأخرى من قطع فنية أصيلة وقديمة تعبر عن مدى ثقافة وحضارة وميراث ضخم من الفن، الفن الثمين والجاليات المختلفة الأجناس كعالم كوزموبوليتاني، تتوجهم حكايات أولاد شوارع وسط البلد حيث خفاياه وأسراره تتفتح وتنكشف على يد مصطفى الفنان بحرفية وصنعة ومهارة ملازمة وضرورية للبناء السردي للرواية وليس حكايات سياحية عن منطقة وسط البلد الممتلئة بالكثير من الأماكن والأشياء التي تؤصل لثقافات وأمزجة وأحوال متعددة مرت بها منطقة وسط البلد.
إن إعترافات مصطفى المعذب بحب الأوحد وموتها المفاجئ، هذا الحب المثالي العظيم الذي انزلق به إلى ضياع لانهائي وهلوسات وضلالات فكرية؛ تجعله يتخيلها في ياسمين حتى كاد أن يقتلها لتخرج منها روح هند، هند تلك الهالة النورانية والملائكية التي أضاءت حياته وبغتة رحلت عنه في لحظة غدر من العبث القدري، تجعله يبصر ويعترف بكل صدق وشجن وحب وسقوط وصل به إلى القاع قائلا على لسانه:
- لم أفعل شيئا صائبا في حياتي أهدرت كل الفرص التي كان من الممكن أن تغير مصيري وتمسكت بإصرار وعن عمد وبغباء شديد بمشاريع حياتيه كانت نتائجها الحتمية فشلا وطيشا ونزقا وجنونا....
وتستمر تغريدة الشجن والحب والموت التي بدأت بهند و يوسف حلمي والأم وجوليا وسامنثا حتى تأتي التغريدة الأخيرة والفاصلة التي أوقعت مصطفى تماما في فخ الهزيمة النكراء أنها تغريدة عصام ذلك الطائر الحر الذي تحول بعد موت سامنثا إلى ما هو أشبه بالبجعة في أيامها الأخيرة حين تستشرف الموت فتتجه إلى شاطئ المحيط وتنطلق في رقصتها الأخيرة وتغرد تغريدتها الوحيدة الشجية ثم تموت ص3
هدى توفيق

المصدر :رواية تغريدة البجعة
الناشر: الدار للنشر والتوزيع2008
تأليف :مكاوي سعيد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني