الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفتاح الفردوس في رواية صانع المفاتيح

هدى توفيق

2015 / 7 / 8
الادب والفن



لا شك أن الراوي يستلهم مفردات الحياة الواقعية فقط، كمجرد أسماء لنسج خياله الواسع أثناء السرد الروائي عن طريق البطل الرئيس وهو السارد (صانع المفاتيح)، وهو رجل عجوز تخطى السبعين، يعمل بصنع المفاتيح في ورشته بقريته، التي أصبحت مشوهة تماما، وتسكنها حيوانات شرسة ليس لها إسم غير في الغابات والصحراء، ويشم رائحة عفونة في كل جوانبها ويرى تبدل كل أحوال أهل القرية تماما التي أصبحت مثل المدينة في كل ملامحها، وهذا سببه الحقيقي زواج الصفقة، من خلال صانعة الزيجات المعروفة كتجارة رائجة، وبذلك نرى التغير التام لكل أفكارنا القديمة عن القرية إلى شئ مشوه أقرب إلى المسخ، احتلت به كل موازين القرية المعروفة لدينا.
تبدأ عتبة النص الروائي بطالع النخل الرجل الطيب، الذي كان يراه صانع المفاتيح في طفولته يصعد النخل بقلب حجري، ليحصد البلح الأحمر والأصفر، فالنخل وطالعه رمز الشموخ، ومع إختفائه، رحل البطل الحقيقي، وظل لنا البطل المزيف، وهو صانع المفاتيح، الذي يعاني صداعا شديد الألم، ويسير نائما من سوء حالته النفسية لما يسمعه من حكاوى عن أهل قريته حتى ملّ ثرثرتهم وشكواهم المستمرة، فقرر بوازع من الحب لقريته أن يصنع لهم مفتاحا للسمع يمكنهم من سماع ما يريدونه لا غير. أراد أن يصنع الفردوس، لكنه فردوس وهمي، لأن الأفكار المثالية مهما كانت تحوي هدفا نبيلا، إلا أنها لا تتجذر إلى تغيير الأعماق، فأهل القرية هم نموذج حي لهذا الشعب المتكاسل، الذي على الدوام ليس بيده أي حيلة، دائما ينتظر المعجزات لتغيير عالمه بينما التغيير الحقيقي يأتي من الداخل دونما إنتظار لحلول السماء، إنه شعب إنكساري مهزوم قادر على الهروب، وكانت البداية بمفتاح السمع، حتى لا ينعتوهم بذوي القرون، أو عديمي الضمائر لعملهم في فندق الخواجة اللالي، ومستشفى الرحمة، وإنه لولا الحاجة ما عملوا في أماكن شبيهة.لذلك هم مقهورين يشاركون في صنع أمجاد الآخرين إلى حد السخرة والعبودية، طبيعة الإنسحاق، والإستسلام الكامل، وقد جاءت الفكرة الخيالية للراوي لتؤكد على هذه الأطروحة المتوغلة في وجدان هذا الشعب المستضعف، الذي لا يفيق من غفلة إلا للبحث عن المسكنات الوقتية، منتظرا المنقذ والمخلص الذي أتى هنا على صورة صانع المفاتيح الذي هو ليس بشخص عادي، بل هو معجزة منذ ولادته، في عمر العامين عشق قطته سلوى التي تقول بعض الروايات أنها ولدت يوم مولده. هذا الطفل الذي تعود على الصمت والتأمل، وبدت عليه علامات الحكمة، حتى أنه حفظ سورة يوسف في أربع ساعات فقط، وعندما كبر إتخذ من الصعود للجبل المواجه لقريته مكان للتأمل ومعرفة الله عن قرب دون قراءات فلسفية، مهمته تدوين حكاوى القرية التي إضطرته لصنع مفتاح خاص، ويعتمد في رسالته على نبوءة العرافة التي أخبرته بها وهو طفل (سينال هنا الغلام ثراء ومكانة، لكنه سيموت محبوسا) ثم النبوءة الثانية، والتي بها إنتهت الرواية وتم فناء القرية (يا أهل القرية، الصباح القادم، آخر صباحات القرية، بعدها سيحل ليل طويل، ربما لا ينتهي أبدا).
ولأننا لا نحتاج إلى معجزة، أو جبل مقدس أو صانع مفاتيح مثالي، لديه أفكار أسطورية وخرافية من أجل التغيير الحقيقي، تبدأ لعبة المفاتيح من مفتاح للسمع، لمفتاح البصر، لمفتاح الكلام، تلك الدائرة المغلقة التي لا تؤدي إلى نفع أو حل جذري وتنتهي اللعبة بإختفاء المفاتيح الوهمية، ويتوه الناس ويتعاركون ويتقاتلون ليجيئ الليل فاردا جناحيه على دماء غطت الأرض الطيبة التي كانت من قبل تخرج قمحا وذرة. ولأن الإعتقاد لتحقيق السعادة الكاملة بإقتناء سلسلة المفاتيح بإعتباره الحل النهائي ولكنه في نفس الوقت كان الهزيمة الكبرى التي تنمو وتكبر وتحصد أشخاص صم بكم عمي مستلبين من التفكير، وأفعال الإرادة الحرة، والقدرة على التمييز والإختيار لمواجهة الحياة الجديدة، والعالم الآخر المستمر في صعوده، ونحن أمامه كالأقزام لا نستطيع أن نطوله أبدا، أو حتى نحاول السعي في ملاحقته ومسايرة صعوده إلى الأمام.
ليبدو عالمنا العالم الثالث المطروح روائيا في تلك القرية الصغيرة أشبه ببقعة مظلمة في ركن شديد الإنطواء والإنزاوء، بعيد اعن كل أضواء وأنوار العالم الأول بأفكاره الحديثة والمتطورة ولأن المسار الروائي محكوم بإطار فكرته الأم، وهو إختلاف أفكار أسطورية وخرافية عن إمكانية التغيير ومحو هذا التشوه الكامل. كان الإنتقام من أصحاب صانعي الشر كالدكتور وجميلة أيضا خرافي. رغم أن موقع جميلة بمصيرها القدري، بقهر وفقر مدقع أخضعها لزيجة فاشلة، ومعاشرة الرجال من أجل رغيف خبز ثم عملها في فندق اللالي عاهرة وأخيرا إنجابها طفل مشوه يمتد جبينه حتى أنفه بلا عينين ولا حاجبين، حتى لجأت هي وزوجها الدكتور لمفتاح البصر كحل منطقي حتى يتجنبا أكبر قدر من الألم. وهذا بالتأكيد الإنتقام الإلهي للدكتور بشكل خاص لأنه يتاجر بأعضاء المجانين والمرضى، والعبط، قانعا نفسه قائلا أنه عملا إنسانيا من الطراز الأول، وبالتأكيد في حقيقة الأمر فكرة إنسانية جدا، ولكن كيف تم أداؤها هذا هو ما ليس إنساني مطلقا، بتخدير المرضى المجانين لسحب نور عيونهم لآخر مقابل المال الذي يتقاسمه مع الطبيب النفسي، فالدكتور يتحرك من فكرة ثابتة داخل عقله، والتي بدأت تتسرب داخل الكثير من العقول الجديدة لشباب هذا الوطن، وهي فكرة عدم الإنتماء لهذا الوطن كما حدث لمدرس التاريخ صديق الدكتور الذي أخبره برأي قاطع أنه لن يعلم إبنه الرضيع حب تراب هذا البلد.
ورغم مزايا سمعهم المغلق إلا أن السارد أي صانع المفاتيح يدرك أنه ليس لهم مستقبل، فأطفالهم لا يملكون مفاتيح، وحتما سيكونون رجالا، وحتما لن يتوقف القبح وإن تغيرت أشكاله، هناك خيط سردي رائع و عميق الرؤية والتناول الروائي، يعزز متانة هذا النص، ويرعاه إلى النهاية بين صانع المفاتيح وجميلة والدكتور و الكوابيس التي جعلت المشهد الروائي أشبه بمسرحية أغلقت ستارها على إستيقاظ صانع المفاتيح مفزوعا وهو يتذكر رؤى الليالي الثلاث الفائتة عن أهل قريته. ولأن كل شر له مصدر، تجسد في الطرح الروائي في الخواجة اللالي وفندقه، الذي تمتد أصول عائلته للرومان الأوائل الذين احتلوا القرى المجاورة سنة 40 قبل الميلاد واللالي هو التجسيد الحي لصورة الشيطان العصري رمز الفساد والشذوذ. أدرك أن صناعة هذا العمل الروائي يحتمل مثل تلك الشخصية ولكن استحضارها بذلك الشكل يوحي بقدر عال من التنظير إلى فكرة المؤامرة والهيمنة الغربية التي أرى أنه لا يحتاجها بساطة النص وإطاره داخل خيال الفكرة الخرافية عن لعبة المفاتيح وصانعها، فممارسة الدعارة والزفاف المثلي وحفلات العري والخلاعة ليست هي الشرط الأساسي لتدهور أحوال أهل القرية، وتلك أشياء متواجدة داخل الواقع المصري دون الحاجة للخواجة اللالي وفندقه، فأي عالم ثالث أو أول به كل الأهواء والأحوال نتيجة لتباين البشر وإختلافهم في أي مكان. ولكن تلك المغايرة تحسب للراوي عندما نال الدكتور عقابه لما يفعله من شر بطفله المشوه، بينما الخواجة اللالي لم ينل أي عقاب فقد أثبتت نضج العمل الفني، فليس كل ما هو شر له عقاب – خاصة عندما وصل الشر إلى ذروته والخواجة اللالي يخرج من سيارته لينجدهم من خلال الشاب الثلاثيني بكل حزم أنه سيترك لهم أسماعهم وأبصارهم شريطة أن يعملوا لحسابهم وألا يعترضوا على شئ وأن يفعلوا ما يطلب منهم في أي وقت ليصبح الخواجة اللالي رمز الشر في اليقظة والحلم، وهو دائما يقبع في الخلفية ممسكا بسيجار كوبي، ومرتديا قبعته ومبتسما نصف ابتسامة باهتة – لتكون تلك الرؤية هي المشهد الختامي للرواية، ما يعني صراحة أنه لا أمل إطلاقا.
ورغم كل هذه القتامة المشهدية في الطرح الروائي، إلا أن هناك فائز واحد هو النحات الفنان رمز الفن والحب والأمل الذي لم يختفِ مثلما إختفى طالع النخل. وقد قام بنحت تمثالا عبقريا في الساحة الرئيسية للقرية. كان التمثال لإمرأة جميلة تعانق حيوانا خرافيا. بل والأهم من ذلك أنه الشخص الوحيد الذي حقق حلمه بمفتاح السمع. فهو يعشق عمله ويتفان في قضاء وقته فيه دون أن يضيعه مع أقرانه في الثرثرة والحكي عادة شعب مصر، هو يعمل ويعمل في صمت، صانعا بمفتاح السمع سعادته البالغة من أجل الفن الخالص من أي شوائب ولا يقع تحت أتراس مفاتيح الغفلة.. والإتكاء.. والتخلف.


هدى توفيق


صانع المفاتيح
رواية
أحمد عبد اللطيف
دار العين للنشر
الطبعة الأولى 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني