الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فأر الذاكرة الذي ابهجني وأبكاني في كأنه يعيش

هدى توفيق

2015 / 7 / 9
الادب والفن


فأر الذاكرة الذي أبهجني وأبكاني في كأنه يعيش

من بداية قراءة هذا النص الشعري البديع،تدرك أنه يحمل تجربة شعرية متفتحة غزيرة من خلال تجربة ثقيلة المغزى، موحية العبارات، تشي بعالم مخملي، بحس لغوي عال، تتراسل فيه كل الأنواع الأدبية بين حس سردي، لشعر نثري سردي، به العديد من التفاصيل الصغيرة والدقيقة، والمحملة بمعانٍ تزخر بها تلك التجربة الشعرية المميزة وإن كان بها طابع فلسفي ووجودي إلى حد ما، مما أضاف لها عمقا وتأثيرا، رغم عرض أمور الحياة البسيطة، والتفاصيل المدهشة، والنصوص بإجمالها تنحو إلى الغوص في أعماق النفس التعسة والشقية بما تجلبه لنا الحياة من ذكريات وآلام الوحدة والملل والفراق، فتتراكم علينا الأحزان وتصنع لها مكانا خاصا في الذاكرة، وما من حيلة في أيدينا غير ديمومة البقاء أمام كل هذا الزخم الحياتي المتوتر.
يصرح شاعرنا منذ البداية على السير إلى الأمام سواء خسرنا أو ظفرنا، لابد أن نمضي إلى الأمام، رسالة الفنان الحقيقي، التحريض والدفع والمضي إلى ما نريد ونسعى بشتى الطرق. وقد استحضرت تلك الروح القوية من كلمات لوالت وايتمان فيكتب قائلا على لسانه:
- أنا أعترف بأني حرضتك على المضي
معي إلى الأمام ....
يتألف الكتاب من ستة وعشرون قصيدة (نصا شعريا) يأخذنا إلى عوالم تكتب بحس سردي، تعج بالتفاصيل، والخروج عن المألوف والعادي ورغم النبرة الإنهزامية التي تطفو على السطح بوضوح إلا أن في أغوار هذه الكلمات دعوة للبهجة والتفاؤل. فالجمل الشعرية جمل أشبه بالجمل التلغرافية سريعة وقصيرة تلهث بإيقاع زمني سريع لتحلق بالذاكرة كطيف نتأمل وجوده، وفلسفته في النبش وراء الكلمات الموحية التي تمر أمام أعيننا كالنسمات العليلة والشافية للإرتواء، وملاحقة تفاصيلها القاتلة كالسهم النافذ لتخترق قلوبنا ألما وحزنا للخلاص، والتبرأ من كل ما كان وحدث، وما لابد أن يحدث ويكون ويدفعنا إلى الأمام والمضي حتى النهاية، كما أخبرنا شاعرنا الرقيق من البداية ليس فقط من كلمات والت وايتمان، وإنما من عنوان الكتاب – كأنه يعيش- تلك الكاف لولاها لاختلفت كل الأمور وأخذت منحى آخر، ومهدت الطريق للتأمل في تلك النصوص الشعرية بحس فلسفي وجودي يشير بمعان تفوق ما تحويه الكلمات البسيطة التي آزرت بساطتها روح الإمعان والتأمل في تلك النصوص الجميلة المأخذ والفلسفي الطابع فلفظة كأنه يعيش تعطينا المعنى والمضاد له، هو يحيا ولكنه كأنه يحيا، كأنه موجود، وهذا الشك والتردد لأنه لا يعيش كما يريد ويتمنى فهو ربما كان يريدها أو لا يريدها، فهو في النهاية غير مسئول عن وجوده، وبالتالي يستدعي إفتراضا مجازيا كأنه يعيش، كأنه كان موجودا كأنه خلق دون قصد منه أو رغبة.
في نص قصيدة { فأر الذاكرة}: يحكي لنا بلغة رومانتيكية التي تمرر قسوة هذا الفأر الذي قرض وأتلف ذاكرته، حتى نسي الأسماء وراحت بعيدا عن التذكر فظل وحيد حاله فيلعن هذا الفأر الجهنمي الذي يقتل أرواحنا وكياننا بإتلاف ذاكرة البشر بالنسيان فيكتب قائلا:
- لعن الله فأر الذاكرة
يقرض الأسماء واحد فواحدا
ويتركني وحيدا أغسل الأطباق
أرتق الجوارب المثقوبة

عندما نتأمل الأمور والناس والحياة، ونحن مستلقين، رافعين نظرنا إلى السماء البعيدة، نفكر في أحوالنا، لابد أن نتذكر الموت، وما تجلبه لنا من ذكريات مع أحبائنا الذين ماتوا، وتعلق في أذهاننا كلماتهم، والحضور الخاص بهم الذي شملنا في سنوات العمر الماضية معهم، والفقد يعصر في جوارحنا، ويدمينا بآلام مباغتة وشديدة الوقع وقد جسد الشاعر هذه الروح بكل بساطة وأريحية وصدق في النص { خصومة أبي } حين حكي عن الخزانة الخشبية قائلا في تتابع منسق ومرتب وتصاعديا من الخزانة الخشبية، ثم القهوة والنصائح والرهان الصعب واستدراك أخير.
أولا يحكي لنا عن الخزانة الخشبية قائلا:
منذ أن مات أبي
قبل سبعة عشر عاما
لم أفتح خزانته الخشبية فقط
ثم القهوة كافيه أوليه........

التي يعرضها لنا الشاعربمفهوم مغاير عن الكلمة أي {القهوة } التي اعتدنا أن نقولها وحسب ونحتسيها بمغزى آخر عميق يربط بينها وبين روح أبيه الذي كان وفديا عريقا فيقول له بلمحة قتالية:
شأنها ككل الثقافات الغازية
(ودست بأسناني على كلمة غازية)

ولأنه يحدثنا عن الأب، فلابد من سماع النصائح، وإن كانت نصائح من نوع خاص؛ تحوي تمردا وغضبا على العادي والمألوف، بحجة أن تكون سعيدا أو التفاخر والتباهي بحسن خاتمتك بالتستر على أنصاف الموهوبين والحواة رغم أنك كنت عبقريا ولكنك تعيش العمر كله مهمشا وفي حالك ككل الأغبياء الطيبين وهو يعترف ويؤكد أن كل تلك النصائح خاطئة، بل في دور الخطيئة التي لا تغتفر فيكتب قائلا:
أن تكون أبي
فلا شك أن هذا
سوف يغفر لي
خطيئة أني أشبهك

ثم الرهان الصعب مهما ساءت الأمور وتعقدت لابد من الرهان على الأصعب حتى وأنت داخل غرفة الحالات الحرجة، فحلقة الرهان هي إستكمالا للنصائح اللؤلؤية التي تسطع بأضواء الصدق، والتمرد والتحريض دعوة شاعرنا من بداية النص فيخاطب الأب :
كنت تراهن دائما على الأصعب
أن تتقدم البيادق إلى الأمام
بنزق لاعبي القمار
على أمل بعيد
أن يصل أحدها إلى النهاية
وبعد كل هذا يا أبي ويا أيها القراء الأعزاء
الحياة كانت تستحق أن تعاش
الحياة المليئة بالإثارة والدهشة
والحياة الرديئة
أيضا

وتستفيض النصوص الشعرية ، بغزارة ولهث مشع كنور الشمس الساطع يمتزج بروح النص السردي بتفاصيله الرقيقة ليخبرنا عن معان متنوعة ومتعددة للتجربة والعيش وراء الأبواب منكفئين على أنفسنا، نمارس الملل، والبحث في الأوراق القديمة، التي تملأنا بالحيرة واليأس وهواجس الفقد والحنين الدفين لكل ما فات وضاع دون أن ندري بإحساس نوستالجي عال وغائر في عمق روح شاعرنا المعذبة للغاية. ليعدد مرة أخرى وأخرى يعاتب ويلوم فأر الذاكرة عدوه اللدود في (نصه الشعري) دون إطمئنان وهو يحاول الفرار منه لكن لا يستريح الفأر ولا تهدأ روحه المجهدة.
هم أعداء ولكن أيضا يشفق عليه من محنة إستعادة الذكريات البعيدة التي يقرضها النسيان، وتتلفها الذاكرة التي شاخت بفعل فأر الذاكرة فيكتب قائلا:
كلما دخلت نفق الأزهر
أشعر بفأريتي
هكذا أكون:
فأرا في ماسورة
مغلقة من الجهتين
ويمر الوقت بطيئا

ولأن الأصدقاء هم جزء هام من ذواتنا يشاركونا إعتراكات الحياة، تتباين أوصافهم وأفعالهم في روح تلك النفس الشاعرة الهائمة في فضاء الذاكرة ناشدة الخلاص والهرب من الملل والوحدة ورتق الجوارب والوقوع في مصيدة فأر الذاكرة، فيحكي لنا شاعرنا الكبير عن الناس الطيبين الذين يراهنون على الحياة كأنها ورقة يانصيب ويراهنون أيضا على محبته كأنه مجبر على ذلك وهم لا يدركون أنه أصبح لا يهتم.
إن تلك النصوص الشعرية تطرح كل الأحاسيس القاتمة والبائسة بعنفوان وغزارة شعرية رشيقة وصادقة ودقيقة يتعال بها على كل المحسوس والمادي والثابت والقائم بالمجرد فيما يسمى كما أظن ما وراء الطبيعة والوجود بالتأمل الطوباوي والنظرة الرومانتيكية والإمعان الذهني والشارد إلى أقصى حد لأن تستجلبه تلك الروح المعذبة الطاهرة من كل الأفعال والأخطاء الصغيرة والكبيرة التي يرتكبها هؤلاء الناس الطيبين بعفوية أو بقصدية لذلك يدون مقولته القوية والحاسمة لموقفي من هذا العالم الشقي بـ(كأنه يعيش) فهو بينهما يحيا ولا يحيا في آن واحد فيكتب قائلا:
أهتم بهذا النهر
هو الذي يخصني بالتدفق الأبدي
منذ أن غرس على ضفتيه الآلهة لتحرسه
وأمر الناس أن تؤلهها
إله فإلها
وجيلا بعد جيل
أهتم كذلك بجدران البيت
لأنني أعلق عليها صور من أحببتهم
ولأنها تسترني كل يوم
فأنا عائد من المساء وحيدا

يشبه الشاعر أصدقاءه بالأوغاد، وينسج قصائد تحضهم معه فقط وهو يكتب شعرا رقيقا ينثر فيه علاقته بهم والتي أحسها أشبه كشظايا جرحت أطراف قلبه وتوغلت إلى عمقه بين المسكوت عنه، والظاهر السطحي في عودة ثانية للحقيقة الأولى التي أطلقها على عنوان كتابه الشعري ليثبت أيضا كأنه سعيد أي لا يقين أو مؤكد تعادل كأنه يعيش أيضا في النص الشعري غرفة بشباك مرتفع (إلى إبراهيم الشريف)، وهو يسألهم بدهشة لماذا ما كان ولماذا ما أصبح وأمسى ؟ إنه سؤال برئ يجتر من الذاكرة لتبحث عن الدفء والأصدقاء الأوغاد الذين رحلوا فجأة – سؤال شديد الوطأة على نفسه ينتابه في لحظات الملل وهو يرتق الجوارب المثقوبة.
ويغسل الأكواب والأطباق بعناية فائقة
فهو لذلك كأنه يعيش، كأنه سعيد، وتلك فقط هي الحقائق الواضحة والمؤكدة في حياته التي مرت في عبث أنه يعيش أنه سعيد أنه يفعل كل ما يجعله سعيدا أوهام كلها عاشها وبها تسربت سنوات العمر دون أن يدري كيف؟ ولم يبق له غير صديقه وعدوه في آن واحد فأر الذاكرة الذي يلاحقه بترتيب الأوراق المبعثرة على المكتب، ليفرغ بداخلها أرقام وهواتف ومعلومات، حتى لا يقرض فأر الذاكرة اللعين الأسماء واحدا تلو الآخر، لذلك يتساءل بروح الطفل البرئ لازال بدهشة طفولية صادقة وهواجس الفقد، وحنين جارف للماضي تملأه وتمزقه:
لماذا أنا والأوغاد (أصدقائي)
نسهر طوال الليل
فنكتب أحلاما نارية
في معاني النهار
وعندما يحل
على جفوننا ضوؤه
ترتخي
جفوننا
وننام!؟
وترفرف روحه كالعصافير التي تبحث وتجد في بحثها عن معنى الحرية، مكمن الخطر ومكمن الوجود للأرواح المتمردة، وكلمات الشعر الحر تطن في أذنه وتملأ قلبه وعقله لتهب لنا روح ثائرة أمام عبث الآخرين ولغط الغوغاء، وبهذا يكون القتل دون آلة تنزف الدماء، بل بأشد وأجدر آلة وهو دفء الكلمات وإبداع الشعر الذي يسلب القلوب المتحجرة والعقول التائهة لتطفو على أمواج البحر الهادرة وتسير بهدوء وصلابة إلى شاطئ الأمان والحرية اللامتناه بعيدا عن الحرب والوحل، ورفع راية النكوص والهزيمة وهو يعلن هذا بكل جراءة وشجاعة في قصيدة (هكذا يكون القتل):
لن يرغمني أحد
على أن أكون الذي لا أحب
لن أدخل حربا
ليس لي فيها شبر أرض
ولن أرفع راية
أيضا لتدركون جيدا
لن يرغمني أحد
على أن أعيش في وطن
يكره الشعر

وبين اللذة، والسرير المقابل والأزمة يقاوم شاعرنا المحارب، الذي يكاد أن يكون كساموراي المحارب العظيم ويعلن أنه قادم، وسيدخل ساحة المعركة بكل جدارة وشجاعة رافعا راية الحرية وهو يتلو آيات أشعاره وأحلامه المجهضة وذكرياته التي يحاربها فأر الذاكرة بالإنقراض والفناء، وذلك لسبب بسيط وهام للغاية أن روحه الحقيقية لازالت روح طفل:
تمحي اللون
لا يلتفت يمينا ويسارا
يتقدم
حتى يبتلع المشهد كله

ليثبت خلوده بعد الموت كما فعل أجدادنا العمالقة والعظماء في حلقات التاريخ المتوارية وروحي تسعى أن تكون خالدة باقية حتى ولو ما بقي هو أقل القليل فنبتهج لأننا زرعنا ما يمكن للآخرين أن يحصدوه:
وردا قليلا، ربما
لكنه يستحق
كل هذا التعب في الحياة
نعم تعب الجري في السنين وورقة من سفر الغياب
هكذا عاما
وأعواما
لكنني حتما
سألحق يوما بقطار ذاهب
إلى مكان أفضله

ورغم كل ما قلته وصرحت به وأعلنته في كلماتي، فأنا أصدقكم القول يا قرائي الأعزاء أنني أريد أن أقول لكم بعد كل هذا أنني كائن بين بين كأنه يعيش كأنه سعيد كأنه يفعل
وسنشرب شيئا كالشاي
ونشكو شيئا كالحياة
ونحن جالسان حول طاولة
مسكوب على مفرشها المائل للصفرة
بقايا زمن
سنفعل ذلك بكل الملل


هدى توفيق
كأنه يعيش
شعر : أشرف عامر
دارنشر ميريت الطبعةالأولى 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في