الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيكل هبوط القمر – رواية (2)

حمودي زيارة

2015 / 7 / 14
الادب والفن


ينزلق ضياء الصباح الخامل، من عناء تسلق الجبل، على إستكانة الشط، وأنزواء البيوت بغلالة الدفء، وسرعان ما تنتشر أشعة ضوئه في مدارج المنازل الغارقة في الرطوبة والسبات، يوقظ معه عيون الأطفال. وخطوات طالب التي تطارد ضوئه على الطرقات، وصوته الضاج. وتباعاً تصمت الكلاب من نوبتها الوجلة والمرهقة، اذ تسلم المعابر الى عبث الأطفال والبق، وأنين نواعير الحياة الرتيب. عند قبس الصباح الأول، يجفل الشط على لسعات البق، وقساوة الأطفال عندما يرشقوه بالحجر.
ومع إيقاظة الشط يفرك الأطفال عيونهم ليطردوا النعاس والرمد. يتناولوا بعضاً من فتات الخبز ورشفات من الشاي، وبشكل عفوي يجتمعون في مداخل الأزقة. يتفقد أحدهم الآخر وإن حدث أن تأخر أحدهم ، يذهبون بجمعهم الى بيته، ويشرعون بالصياح عليه، بأشارة خاصة معروفة من قبلهم. فأنهم يعافوا أن يطرقوا الباب، أو ربما يبعثوا أحدهم. وبعد لحظة يخرج مذعوراً حافي القدمين، على وجهه شئ من الخيبة والأنكسار، كأنه تطاول على الهيكل، وفي يده لفة خبز دون أدام. ودونما أكتراث بلغط القرية، يواصل الشط حداده معانقاً بلوعة افراط القصب الوقح. وتلال البيوت الطين التي تسوره كقلاع لبقايا حروب قديمة، واقف دون أن تعتري صفحته مويجة، سوى طبقات الطحالب الخضراء بسبب حثالة المواد الكيميائية الكثيفة.
يتقاطر الأطفال بشكل عابث يملئهم الفرح والصياح، كلاً منهم يعتنق حديثاً في شفتيه، فتأخذ الحكايا تحوم في سربهم، وكأنهم في شجار تحسبه لا ينتهي. لعنة تمس أقدامهم، عندما يديف العفن أنفاسهم وتطالعهم أكوام الزبالة. يهرولون بأقصى مالديهم من مراس وقوة، إذ تعلق عيونهم في عصف الأوساخ، دون غضاضة. وعلى وقع حكاية، تناقلها تاريخ القرية، بأن أحد ما عثر على حلقة ذهبية في تلال الأوساخ، لذلك تمالك الأطفال حينئذ نشوة عارمة. بالأضافة الى هذا، أشاع طالب، بأنه أثناء هبوط الملاك، لمح خرزة لامعة، سقطت منه الى أكوام الزبالة، بينما كان يجلس على حافة الجبل. أختراعه الدائم للقصص، هو من أجل أن يقاتل في حضورهم تفرده ويائسه، والفراغ الذي يخنقه في الليل عندما ينام مع الحيوانات، حيث يرفض عمه أن ينام مع عائلته، أراده أن يكبر وحيداً من دون عائلة. فراحوا بشكل قسري يأمون الزبالة يومياً، فباتت الحكاية حلم فاره يداعب خيالهم، فيأخذون يحفرون وينبشون في الأكوام المليئة بالدود والأمراض يومياً، علهم يجدون ما حلموا به مع الشط بغدران غناء. الشط الذي أستقر من طوافه الغجري، على بقايا هشيم قرية البقرة هارباً من القرى البعيدة بعد أن ردمت خريره، ملتقطاً أشلائه، واثقاً عنانه الى بيوت الحرمان التي تنتشر على ضفافه، ببركة هيكل المهبط، التي راحت بيأس متوسلة في مباخر أيام الأثنين، تتابع الأيام أن تبقى قائمة.


***

في أحدى المرات ترآى من بين الأوساخ والبكتيريا المتكلسة، وألياف العفونة، صندوق يبدو من منظره كأنه خزينة. الحقيقة قد دفنه طالب في بداية الليل عندما قذف الافق سواده، كان لا يخاف شبح الخوف الذي يتربصه في الزوايا والفلوات. وفي اليوم القادم، حاول طالب أن ينبش في نفس المكان الذي دفن فيه الصندوق، وما أن لاح جزء منه، زعق :
صندوق، وجدت صندوقاً .
وضع طالب في الصندوق بعض النقود التي دفعتها له أمه في إحدى مشاويره الحزينة، من أجل أن يطرد الملل الذي أعتراهم. حيث ساوره قلق موجع، ليلة البارحة، بأن نزوة لعب الأطفال معه ستبدد عن قريب من قلوبهم. الصندوق يماثل صناديق أمهاتهم المليئة بالأسرار والحُلي حيث عثر عليه طالب في مراح بيت عمه، وكان مهمل هناك لفترة طويلة. تكالب جميعهم على الصندوق فحملوه الى مكان متوارٍ، وبمعالجات شتى أستطاعوا أن يفتحوه. زايلت الخيبة قسماتهم، حينما وجدوا بعض النقود. لأنهم في الحقيقة كانوا يظنون بأنه مكتظ بالأوساخ. فسارعوا في الحال بألقائه الى الشط لئلا يستدل عليه أحد بعد أن أشار عليهم طالب ذلك. وكذلك من أجل أن ترقد العملة المعدنية في جيوبهم بهدوء، دون أن يكشف أمرهم أحد بعد إفشاء السر. وبالتالي فأنهم يعرفون على وجه اليقين، بأن الشط المكان الوحيد القادر على كتم الأسرار. فما كان من طالب الا أن وزع عليهم النقود دون أن يأخذ له فلساً.
الشط ينحسر حيال زحف ضفافه، بيد أنه يكابر رغم ذبوله من أجل أن يبقى منادماً القمر المتكأ على ضفافه. والملاك العالق في طحالبه ومويجاته وأسماكه. ماداً ضفافه لخطوات الأطفال، ودموع الطين في نثيث المطر، وعراك الكلاب اليومي، والاسرار وحزن المجالس وبرودة الشتاء، ونظرات طالب المحدقة في سواد الليل، ومراجيح الفرح الهزيلة.

***

بعيد زمن هبوط الملاك من ثقوب الليل، نحو خرائب القرية. الذي أرتادها، فهبط بجانب النهر ذات ليلة خريفية ليبل عطشه من سلافة مائه، تماثل رجل الملاك كضوء فاغم يميل الى اللون الأبيض. كان وقتها، الليل شديد الظلام وبارد دون لسعة، والكلاب على غير عادتها، كما في بقية الأيام، فقد واصلت نباحها، تخال بأنها تحاول أن تشتت أوهام خوفها. تهجدت بأعتداد أنامل الملاك على نثار الغبار المفعم بالسكون، وعلى الفور، أستلقى الملاك على أريكة ضوئه، يلتقط أنفاسه المبهورة. يبدد الظلمة. أنسلت بأختلاس هيولى روحه، تجوب حنايا القرية، تستاف رائحة أوجاع البيوت. القرية كانت تخوض كالمعتاد في لجة متاعبها، وأعبائها، في لحظة الهبوط. عندئذ حسب إشاعة عابثة، أنتشرت في مجالس القرية. الأشاعة خطت بمداد ضوء الملاك، قصة رقيقة التي ما لبثت أن نخرت على جدران الطين، كمسلات الأجداد، بضياء الملاك العابق، تحكي بأن شلير التي يوقر عمرها سنواته الاربعين، لمحته بإم عينيها الواهنة، كشهاب ناصع يترنح في ضوئه، يهاصره تواشج الظلام العنيد، في الوقت التي كانت فيه ساهرة الى جنب بقرتها الخائرة التي ترزح بشراك المرض. البقرة تسمرت في أعباء الوهن والنحول، بحيث تعذر عليها أن تبارح المراح لوقت طويل. الأمر الذي أثار مخاوف أهل القرية وقلقهم عليها، فأنبرى اللغط يجلد أشداقهم، ويوري غيظهم. بيد أن البقرة كانت مثار شغفهم ومصدر بركاتهم، وباب السماء المفضي الى واحات الخير، الذين قدموا هنا من أجله. وهذا متأتي لأعتبار بسيط، كونها أعتادت دون مقارفة للخطأ، في كل أوان للمخاض أن تلد توأم منذ المخاض الأول، وهذا يعزى وفق أيمانهم، الى رضاب العشب الذي نمى على ضوء القمر. إستفراد البقرة بأصابع ضوء الملاك، أضفى هالة مزدانة على وجودها في تاريخ القرية التي تفتقر الى أعمدة للأبطال. في العادة التوأم من كلا الجنسين، ذكر وأنثى. الذكر يأتي في البداية ومن ثم الأنثى. لون الذكر أسود قاتم دون شائبة، والأنثى بيضاء ناصعة. أثناء المخاض، يلتف أهل القرية وتجار المواشي خارج المراح، ينتظرون بقلق عما تسفر عنه الولادة. التجار في نزاع محتدم، وصخب طنان، للفوز بالوليدين الجديدين لدرجة تصل المزايدة الى أموال خيالية. وفي أحدى المرات من حدة النزاع، أصاب أحد التجار، تاجر أخر بطلقة مزقت كتفه. عندها قرر سامان أن يوقف البيع لتلك السنة، وإقترح أن يعمل قائمة بالأسماء بعد أن وضع الأسماء في صفيحة سمن صغيرة، وبدأ يطوح بالصفيحة ليمزج الأسماء، وراح يسحب أمام أنظارهم، ليمنع الأقتتال. ونظراً لذلك أستاء بعض التجار وغادروا القرية بعد أن نشروا كلمات تهديد. كتيبة العبيد عكفت بهمة، تبني بأجساد أفرادها ثكنة لمنع دخول أحد الى مكان الولادة.

***

أقتطف الليل ببراعة رزم نور نجومه التي تتبختر كعارضة للأزياء في كبده، فأودعها قناديل، طائفة في دياجير القرية. يالجمال جرار رحيق الصمت في جوف ليله، حيث تبرز جارية الليل العذراء، بوشاحها المخمل صاغرة تترع بيوت القرية بالسواد. حينئذ تناهى عزيف حميم الى أسماع شلير، يتمرغ في تضوعه، أخذ يدنو برصانة، صار قريباً، فهنا تماثل شبح الملاك، يتهادى بوقار وأباء. يجدل نبض قلبه، صوت الأنين والتوجع الصادرين من حشرجة أنفاس البقرة. كشف عن بريقه بتؤدة وسط أستبداد الليل. وبراثن الحلكة القاتمة، التي أبتلعت نهارها. حاول الملاك أن يطرد في صمته العميق، تشابك الظلمة من حوله، كيما يبصر طريقه، وكذلك يتسنى له أن يكتب طلاسمه على تغضنات جلد البقرة. تهافت بضوءه الى حافة النهر، غرس ضوء يده في الماء، غرف براحته، فشرب بتلهف وسرعة، فخضلت لحيته. ونسبة الى ذلك، جزم أهل القرية، بأن رائحة ماء النهر طيبة وفاغمة، تستطيع أن تشمها عن بعد. تراث القرية الذي يعج بالخرافة تسلل الى أذهان الغرباء. فأمست باب نيرفانا. يثير فيهم الأنتشاء لزيارة القرية والوقوف على أسرارها.

***

وبقصة أخرى، حسب زعم الكلمات التي أورت هشيم مسارب القرية، بأن الشئ الذي حض بريق الملاك في تلك الليلة الحالكة، من أن يقبض على حبال هبوطه، ويتأرجح فيض ضوئه، نحو أطراف القرية الساكنة الى قدرها الأبدي، منذ مخاضها الأول، وضفاف النهر الهزيل. يمسد بنوره وجوم التراب. يعزى بأن بقرة الملاك كما أدرج أهل القرية على تسميتها، كانت تماماً على وشك أن تنفق، فقد طال نزالها مع المرض، وتستطيع أن تشتم رائحة الموت من حولها، علاوة على أسراب الذباب التي عاقرت طنينها فراحت تهرش جلدها. نيركز التي شاطرتها الوجع، ألقت برأسها على رقبتها بعد أن ساومها النوم بحلمٍ جميل. لهذا عمد الملاك أن يولي الأدبار عن صومعته ويمرر ألق نوره الطري على شحوب جلدها، وإنتفاخ بطنها ايضاً من أجل أن ينقذ التوأم من لهيب جوفها الذي برزت عليه شبكة من الاوردة. السبيل من أن تستمر القرية في بقائها، لأن وجود البقرة، تعويذة ناجعة لذلك. تستطيع أن تشم رائحة شواء، وقتما غمز إصبع الضوء جلدها. في البرهة التي لامس فيها نور الملاك مقلتي شلير، وتهالكها المضني، وبعد أن خامر النور عتمة المكان. جفلت بلوثة ونبست تحوقل، وكذلك نيركز، ما أن رأت نهوض، وإستواء بقرة الملاك على قوائمها الضامرة، تشاكس خطواتها بنشاط وحيوية، يغريها الفرح. غارت في الهلوسة، وبرحت تهز رأسها الطويل، كأنها تحاول أن تهش ذبابة وقحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي