الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعا صباح المرعي، عذرا ايها الفقيد الغالي!

رزاق عبود

2015 / 7 / 19
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


لم نكن بالصديقين اللصيقين، وربما كانت امزجتنا تختلف بالكامل. لكنه دخل القلب منذ اللحظة الاولى، رغم كل الحذر، وعبارات، وسلوك المجاملة المعتاد، وهو يعتذر انه كان على عصام، ان يخبره بزيارتي ليتهيأ افضل. اجبت: "انا اعتذر لاني اقتحمت عليك وحدتك". رد باتسامته المعهودة، التي يصعب تفسيرها احيانا: "انها شقة الجميع، هذا بيتكم فتفضل"!
كان ذلك في اواخر سبعينات القرن الماضي عندما دعاني الصديق العزيز عصلم خماس، الى شقة الفقيد في شارع جيورجي ديمتروف في العاصمة البلغارية صوفيا. ترددت قليلا عليهم بعد ذلك، لان الشقة كانت مفتوحة دائما لمن كان يسكن المدن الاخرى، ولا يجد نزلا، او فندقا يأويه، او يفوته القطار، وهو امر كان يتكرر في صوفيا. لم التقه سابقا، ولم ادخل شقته قبل ذلك اليوم. سمعت بالشقة، التي يطلق عليها البعض "المضيف". سمعت باسمه اول مرة عندما كنت احاول تدبير سكن لاحد الهاربين من جحيم صدام حسين عام 1978 في احد فنادق صوفيا. اشار احدهم: "خذه الى فندق صباح"! ولما سالت جديا اين يقع ذلك الفندق؟ فهمت من الضحكة الجماعية، التي قوبلت بها انها مزحة تقدير لطيفة. لما كنت هناك بعد سنة من هذه الحادثة. فهمت ماذا كانوا يقصدون! كانت شقته شبه ملجأ لكل من لم يجد سكنا حتى من السواح العراقيين. وليس نادرا ان تكون الزيارة عند الفجر، وفي الغالب لايعرف زوار الشقة صاحبها. الذي كان عليه ان يذهب مبكرا الى عمله كطبيب في احدى مستشفيات صوفيا.
في زيارة اخرى، بعد ان، اعتبرت نفسي صديقا دعاني الى غرفته الخاصة، التي لايدخلها احد الا من "يمون" عليه خاصة الاخ هشام مطر، او عصام خماس الضيف شبه الدائم هناك. كانت علاقتهم، واستمرت، عميقة، وقريبة، وحميمية، وتتخذ شكل الاخوة العجيبة، والرفقة الابدية. انهم كما يقال احيانا: "رب اخ لم تلده لك امك". او كما مزح معي مرة: "علاقتي بهما زواج كاثوليكي. وهما اقرب الي من ابناء عائلتي". معروف عن صباح انه قليل الحديث عن اموره الخاصة، واعتقد ان، حدود صداقته، تقف عند حدود مايسمى في الغرب "الانتگريتيت". فهمت ذلك من اول لقاء، واول زيارة، واحترمت الامر. وربما احبني واحترمني لذاك السبب. فاجئني، ونحن في غرفته، وهو يطلب مني سماع قصيدة كتبها. لقد سحرتني شعريته، واعتقد اني من القلائل، الذين يعرفون انه يكتب الشعر الشعبي الرقيق جدا. انقذني صوت عصام خماس من حرجي، وهو يصيح بمزاحه، وفطنته، وعفويته المعهودة: "بلكي رزاق يقنعك انه انت خوش شاعر وتبدي بالنشر". ارتسمت على محياه ابتسامته الخجولة، ونظرته الطفولية البريئة، وشئ من الرضا الفرح. قلت له، انا لست ناقدا ادبيا، ولا افهم كثيرا في الشعر، لكني كمتذوق اعتقد ان شعرك جميلا، وقد سمعت ما قاله عصام وهو قارئ جيد.
خرجنا من الغرفة وهو يشعر بنوع من الارتياح، والاطمئنان، واتسعت ابتسامته، وهو يرى عصام خماس يقوم بحركات صامتة(بانتوميم) لشاعر يلقي قصيدة. تناولنا الطعام الذي اعده عصام، وهما يمارسان المعاكسة البريئة المعتادة مع بعضهما. اعتقد انهما كانا ثنائيا جميلا. شدة الورد الثلاثية صباح المرعي، وهاشم مطر، وعصام خماس انقطعت منها وردة، او سقطت منهم نجمة، كما علقت استاذتنا سلوى زكو في الفيس بوك على خبر وفاة الدكتور صباح المرعي.
في الصيف الماضي، كان ضيفا على مؤتمر الانصار الابطال، كنت مدعوا مثله. لم التقيه في الجلسة الافتتاحية. سمعت بعد ذلك، بوجوده. كان الطقس حارا جدا بشكل استثنائي في ستوكهولم. طلبت من احد الاصدقاء، ان يقلني الى الفندق. تعلل ان الوقت متاخر. قلت ستجدهم يتبادلون الحديث في حديقة الفندق فالجو حار جدا. وهؤلاء لم يلتقوا منذ سنوات ولن يضيعوا الفرصة. كان صديقي متحمسا للقاء الملحن الكبير كوكب حمزة، وانا كسرت كل التقاليد، ورافقته لرؤية صباح. قالوا متعب ويرتاح في غرفته. بعد لحظات جاء مسرعا بملابس النوم. فرح بلقائي، وقدر انني جئت من اجله. ودعته في نهاية اللقاء، وكعادته طلب مني بهدوء، والحاح، ان ازوره في لندن. واضاف: "ترة ازعل اذا تروح عند غيري"! في اليوم الثاني، وجدته بالصدفة يجلس في احدى مقاه ستوكهولم، وانا في طريقي لموعد طبي. جالسته قليلا واستغربت جلوسه لوحده. تعلل بانه سبق، وان تجول في المدينة، وانهم سيعودون قريبا ليتجهوا معا الى المطار. عندما استعيد صورته الان افهم، ان قواه لم تسمح له بالتجوال، وانه يضطر للراحة. لم يرد ان يشغل لقائنا بعد عشرين سنه من الفراق بامور وضعه الصحي.
اليوم "يحتفل" الملايين بما يسمى "عيد الفطر المبارك" رغم انه لا توجد بقعة اسلامية على الارض لا يسودها الفقر، والعوز، والمرض، والتخلف، والاضطهاد، والحرب، والارهاب. سألني صاحب المحل عن سبب كدري اليوم فشرحت له الامر بانني لم ازر الفيس بوك منذ اكثر من ستة اشهر، واليوم صعقت بخبر وفاة احد الاصدقاء. قال: "هذه الحياة طفولة، وصبا، وشباب، ثم حياة عائلية، وبعدها شيخوخة، وامراض، وعجز احيانا، ثم النهاية المحتومة. لكن الانسان الطيب يحصل على الخير دائما". اعترضت: "لكن الطيبين هم من يصابون بالمكروه دائما". رد متحسرا: "فعلا للاسف"! عندما شرحت له كم كان صديقي طيبا، وكريما، ونبيلا، ومعطاءا. سالت دموعه دون ان يرد، وهو امر غير اعتيادي لرجل سويدي. عرفوا بانضباطهم، وعدم اظهار مشاعرهم. فكيف بنا يا فقيدنا صباح كم سنبكيك ياترى؟ وكم سنتألم لفقدانك؟ وهل تعوض خسارتك لاقرب اهلك واصدقائك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا