الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسهار بعد اسهار (5) : ديكتاتورية العم ياسين

محمد رفعت الدومي

2015 / 7 / 27
الادب والفن


لا يمكن التغاضي عن تذبذبات النفس الحادة حيال العواطف الإنسانية ، التي تجد التعبير عنها بشكلٍ واضح ٍ ، وتواجه إلغائها بالغموض نفسه ، وبالصرامة نفسها أيضاً ، برغم هذا ، وربما بفضله ، يظل القليل من العواطف حبيساً ، في غرف مغلقةٍ ، يتشبث بجذور التحامه ، بلا مشروعية ، بأشياء بعينها بشكل خاص .

تتبدل الرغبات والمخاوف وسطوح الأحلام ومنظومة الإدراك الذاتيِّ ، صعوداً وانخفاضاً ، وتبقي راسخة ذلك الرسوخ الانفعاليِّ كخنجر معلق في البال ، وبالنسبة لي أنا .

هضمَت قشرة ُطفولتي عبثيتها ، وحلَّ الشبابُ تمائمي ، ونضجتُ في أدني بقعة ٍ من ظلِّ الألم ، آلاف المرات ، وكراهيتي حيال يوم الجمعة تتمسك بامتلائها .

قد يتردد الفراغ من حين لحين في النفس كالمكيدة ، ولكن يضيع ، حتي يمكنني أن أعتبر كراهية هذا اليوم تناذري الخاص ، غير أني أستطيع أن أمسك بيدي أشجار ذاك التناذر ببساطة ، السماد الذي عتَّقَ تلك الأشجار داخل العمق الأليف لروحيَ الصغيرة أيضاً .

ربما كان أطوله تخصيباً وحضورا ذلك التحذير من ذلك اليوم تحديداً، الذي يجثم علي ألسنة الأمهات جثوم العادة ، وما ينطوي عليه من ساعة نحس ، تسرح فيها الجنيَّات ، لكي يعكِّرن سلام الأمهات ، فينخرط الفقد في لهجاتهن ، وهو اعتقادٌ لا يتحد بالموضوعية أبداً .. وبرغم ذلك ، وربما بفضله ، أجد يوم الجمعة يجد التعبير عنه بغابةٍ من النبض الأكيد في أوردة الفواجع التي تتصدر لائحة التراث الدومي الحزين ، بطول اللوحة المرسومة علي جدران الذاكرة ، وبعرض حصارها الصحيِّ .

لا أظنُّ الأمرَ ينطوي علي شئِّ من الغرابة ، ذلك أن الفلسفة الشعبية تعقيبٌ صادقٌ علي غابة من التجارب الإنسانية السحيقة .

هناك سببٌ آخر أتمُّ امتلاءاً ، لا يزال يوم الجمعة عطلة تجمِّد الحياة المدرسية ، ويكرس نفسه جداراً يفصلنا عن يوم السبت ، أقسي أيام الأسبوع المدرسيِّ وأطولها ، لذلك كنا نحب ليلته أكثر من نهاره ، حيث يكون الجدار في عنفوانه ، وحيث يمتد غابة من الساعات تفصلنا عن الإلتزامات المدرسية ، وتفصلنا أيضاً عن ديكتاتورية العم ياسين ، فراش مدرسة الدومة ، وسلبية الناظر حيالها .

العم ياسين الذي كنت أخافه أكثر من مخافتي الناظر ، والأستاذ فريد ، والأستاذ عمر والآخرين ، طوله الفارع ، بطنه المنتفخة ، عيناه العدائيتان .
العم ياسين ، ذلك المارد الذي يزعم الدوميون أنه أكل جرناً صغيراً من الفطير وخمسة من كيلوات الدهن البقري الخالص في وجبة واحدة !
لقد أصابني الغثيان لمجرد كتابة هذه الوشاية الرائجة ، وأقسم علي هذا .

العم ياسين ، ذلك العاشق الذي انخرطتُ في سره ، ذات صباح ، خلف انتباهه ، فضبطته في لحظة رغبةٍ واضحةٍ ، يفكر بصوت مرتفع :

- آه لو قطمة ف خدك يا كوثر !

المرحوم ياسين ، ذلك الطيب الذي كنت أسبقه غالباً إلي المدرسة ، في الصباحات الشتائية بشكل خاص ، فأجد الباب مغلقاً ، وأتسلل إلي بيت الخالة لطيفة ، لأنعم بحرارة الشاي وعطاء النار ، ويدهم سلام البيت فجأة .. فتطوق المكان في عينيَّ هالة ٌمن التوتر ، وأهم بالنهوض ، وأنا ألعنه في سري . فيردني بصوت مسور بالرقة ، ويفتح بيني وبينه بوابة الحنان لبعض الوقت ، ثم .. بمجرد الدخول إلي سياج المدرسة ، يعود وجهه إلي مائدته الأولي، كأنما خلق الرجلُ خلقاً جديداً .

ديكتاتورية العم السادات أيضاً ، فراش المدرسة .

كان يأتي من البطحة علي حمارةٍ رماديةٍ قصيرة ، جثم نهيقها بمجرد الاقتراب من المنحني المفضي إلي المدرسة جثوم العادة ، وما إن ترفع رأسها ، وينتصب ذيلها ، وتغور خاصرتاها وتصيح :

- هي هان ، هي هان ، هي هان ، هئ !

يتزاحم المنافقون من الصغار علي الترحيب بوفادتها ، وربطها في مربطها للحصول علي نصيب أوفر من التغذية المدرسية التي يوزعها الرجل .
العم السادات الذي رأيته ذات ضحي ، يدخل حقل قصب قريب ٍ ، ويعود بسلة من الجراء العمياء ، تحت درع معتني به تماماً ، من غياب أمهم ، ثم وضعهما بمأمن خلف انتباه الناظر ، وعاد ليوزع التغذية ، تملكني إحساس بالرغبة في القئ ، لمجرد إحساسي بتداخل الخبز والجبن برائحة الجراء العمياء ، وأفضيت بسرِّي إلي قريب القاع ، زميلي "عبادة" ، فذهب مباشرةً ، وأطلع الرجل علي سري ، طمعاً في الحصول علي نصيبي من التغذية .
طاردني العم السادات ، وفشل في اللحاق بذعري ، فقذفني برغيف خبز ، أصاب مباشرة وجهي ، تألمت وسط شعوري بالحرج من ضحكات الرفاق ، فعدوت مذعوراً، لأستدعي أبي ليستعيد لي كرامتي الضائعة ، فارتطمت ، فجأة ، بتحفز الكلبة الأم ، ونباحها العصبيِّ ، لقد فكَّت شفرة رائحة جرائها ، تملكني الرعب التام الدوائر، وتراجعت راضياً بالمقاربة المخزية .

المرحوم السادات ، الذي انخرطت في سر أيامه الأخيرة، لقد كابد المسكين في شيخوخته الكثير من أصداء الآلام الشاقة .

وجمال المرحوم مرعي أيضاً ، فراش المدرسة ، لقد وجد الرجل حبه في قلوبنا الصغيرة التعبير عنه منذ البداية ، عندما انصرف الرجل منذ البداية عن ضربنا إلي ضرب المدرسين مباشرة ، وأقسم علي هذا ، كانوا يخافون أعصابه العارية علي الدوام ، وكانوا يقولون عنه أنه غشيم ، من الممكن أن يضرب خصمه في ساعة الغضب ، بأي شئ تقع عليه يداه دون مراقبة العواقب .

هناك سماد آخر وحديث ، وأكيد ، يغذي أشجار ذلك التناذر ، لقد تجاوزت فاجعة أبي التي لم أتجاوزها حتي الآن ، وأظن أني لن أتجاوزها إلي الأبد ، العتبة النقية لبيتنا العتيق ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة ، لابد أن ساعة النحس المظنونة تختبئ بين التاسعة والعاشرة ، وهي ساعة نسبية بالتأكيد ، وكان من الممكن أن تواجه إلغائها .

لولا أن شبه أبي البشريَّ ، خرج من بيتنا محمولاً علي سواعد الرجال دون أن يخبِّئ في نيته كالعادة خط الرجعة ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة من صباح يوم جمعة أيضاً .

محمد رفعت الدومي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية