الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(( الواقع والشاعرية في ... هبوط عابر )) دراسة نقدية لقصة ( هبوط عابر) للقاص عبدالكريم الساعدي/ الناقد: يوسف عبود جويعد

عبدالكريم الساعدي

2015 / 7 / 28
الادب والفن


(( الواقع والشاعرية في ... هبوط عابر ))
دراسة نقدية لقصة ( هبوط عابر) للقاص عبدالكريم الساعدي
الناقد: يوسف عبود جويعد

النص: هبوط عابر

لا أعرف كيف ولجت عوالمها، أنا القروي المتّشح بالحياء، العائد تواً من نقاء جنوبي، مزهر بالجمال، والصفاء، مواخير معتمة، غريبة ، تشقّ قلب أزقة ضيقة، ملتوية كأفعى فرعونية، لم أبصر سوى استغرابي، أحدّق في نساء ترتدي العري ثوباً، ترفّ على مقلهنّ سحابة تستمطر خفقة الذكورة، يطلقنَ في الفضاء ضحكات عالية، أمواجها طويلة، ألفاظاً مدعاة للتقيؤ، تحفّ بهنّ عيون صيادين مهرة، ترمي بسهامها نحو مناطق صارخة بالإثارة، أجساد مختنقة بأثوابها، كان كلّ شيء عارياً إلّا أنا، كنت فريسة سهلة تطاردها عيون البغايا، لا أدري كيف ابتلعت تلك الأزقة خطواتي حتى منتهاها، هل كنت في حاجة ما؟. في تلك الليلة كنت والزقاق وهي، نسهر على ضفة رغبة مجنونة، طافحة بالإغواء، لا أدري هل كنت أسعى لحتفي، وأنا المكبّل بقيد حكايات جدتي؟، يا للهول! كنت بين نارين، عواصف الذنب والغياب كأثير في مدار بركانها، يقطفني اختناق النهد بإزرار أصابه الدوار، تشربني عيناها نبيذاً معتّقاً، أتضوع عبير مسكها، تنفلت أناملي من صمتها، تهذي بالارتجاف، تغيب في رواق الخصر، وأمضي شهقة في عشبها الأخضر، أخلع ظلّي، فأتيه في مباهج الحسن دون طوق، أكابد حرائق لهفتي لدفء لحمها البض. كنت غائباً تماماً إلّا من حكايات جدتي، لا أدري كيف أبصرت مفاتن التيه وأنا الأعمى؟، استوطنتني المخاوف في ظلّ ليلة باردة، مكتنزة بالضباب، أنفث دخان الكبت بعدما استبدّ بي الشوق، أبحث عن مستقر لوهج ارتعاشتي، أطلّ على شرفة ضحكتها، تهبط خفية فوق منفاي، فتراني استحمّ في عطر أنوثتها، تتمايل، تثني خصرها، تستبيحني أنفاسها اللاهثة، أتيه في ثنايا مباهجها، فيصفعني الغياب تحت قباب صهيلها. كانت امرأة محترفة، تحمل فتنتها بين بريق عينيها الناعستين، وبياض فخذيها الصارخ بالتوهج. امرأة لها نكهة الحرائق، لم تكن بيننا مسافة تحسب سوى أنفاس تلهج بلذّة النعاس، نحتسي غبار السكر، مجنونين، متوهمين، توهمنا رعشتنا، نستظلّ بجنان اللذّة، نهرول في شبق نحو لحظة فناء، لحظة لم أعرفها من قبل، وقبل أن تسيل شهوتنا رضاباً يترقرق بين شفتين مرتجفتين بندى الورد، توخزني المخاوف، استفيق على مرثية الليالي المهشّمة بصياح ديوك قريتنا الغافية على سحر البراءة، أفزّ مرعوباً أسابق الريح في صحراء قاحلة، يحلّق الأمس حولي، ينثر وجه هدى في حقل يرعاه الوجد، كانت كنبع ماء صافٍ، لن أنسى حين تقابلنا أول مرة عند أطراف قريتنا، حين تصافحت العيون على عهد الهوى، كنّا نحلم كلّ مساء على ضفة نهر يفيض بالهمس، نغرق في مدى بعيد، نلوذ برائحة الغد، نرسم أطيافاً متّشحة بكركرات طفل صغير، يجوب أنحاء بيت يفوح برائحة القصب والبردي، تنفلت خجلاً، تغطي وجهها بأناملها الجميلة، تتطاير في فراغ من المحبة، تركض، تتساقط بوحاً جنياً فوق بستان الروح. كان كلّ شيء يرشدني إليها، تتراءى لي كلّ ليلة وكأنّها قطيفة النرجس، تتوسّد يديَّ فأغرق في طيب عطرها، مورقاً شغفاً بها، حتى هالني غيابها في تلك الديار البعيدة. كان النهر، أشجاره، نسيمه، ونغم نايه الحزين يسأل عنها، وأنا لم أعثر على جواب بعد، كنت عاشقاً لم يعرف غير الأنين، متعمّداً بالفراق والحرمان. كانت الأحلام معطّلة فوق نهر منسيّ، لأنّها غادرت وتركت وديعتها عند عاشق تائه في ضباب من دهشة. ها أنا أسبح في عالمٍ مجهول، يُدميني الغنج، مثقلّ برماد الذنب، أحرق راحلتي، وأترك خلفي وجه هدى تلفّه الديار البعيدة. تقتحم صمتي مندهشة:
- مالي أراك مؤتزراً بالبلاهة، مرتبكاً؟.
أترجل من أمسي، أرتدي عيني، لم يكن غيري والزقاق وهي، أسند ظهري إلى زاوية الخيبة، أدخن تعاويذ الأمس، استرخي قليلاً على حفيف الصوت، أحاول أن أتفادى صرعتي، أصحو على وساوس، تلاحقني، تؤرقني، يبدو أنّ مخاوف الخطايا/ حكايات جدتي مازالت تلاحقني،
" آه لو أستطيع عبور قلقي ".
نداءان يتقاطعان في المدى، يقطعان صمت الليل، يتقافزان بفزع، كانت اللحظة غامضة، طافحة بدثار الصحو وسد رمق ارتعاشتي، وبين خطوة وأخرى، أهبط متعثراً بجسد مخاتل، يوخزني بالدفء، تبتلعني ضحكتها، تلتقط ملاك خرافتي، يصفعني عطرها، أتحسّس ظلّي، أستعين بحرائقي المطويّة تحت قميصي،
"ياترى من يُلجم شهقة دولتها ؟ ".
توضأتْ بصمتي عند منتصف الخريف، أُطفأت عاهاتي عند ضفاف مملكة الجسد:
- تبدو أجمل من ذي قبل. قالت بازدراء.
- دعيني، فالخريف غطّاني بأوراقه البالية.
- كُفَّ عن هذا، أراك ديكاً أبله.
ولمّا شممتُ رائحة تهطل من طرف لهفتها، تيقّنتُ ألّا يردعها احتضاري، قلت:
- لا بأس عليك أيّها القروي، بقايا رعشة تتمرّغ فيها.
أصعدُ سلالم رقتها، وأنزوي في غفلتي. ثمة شتاء قادم يستمطر ماءها الفائر.

دراسة نقدية حول النص:
نجد في النص القصصي (( هبوط عابر )) للقاص عبد الكريم الساعدي نموذجاً ينحى منحاً حداثوياً , وذلك في محاولة القاص شق طريقه نحو تحديث النص, فبالإضافة إلى أنّ هذه القصة تحمل مقوماتها الأساسية وأسلوب كتابتها, إلّا أنّه استطاع إدخال عناصر التجريب والتجديد, إذ أننا نكتشف بشكل واضح إن أحد القرويين دخل زقاق للبغايا دون أن يعلم , وهذه الثيمة والحدث السردي الواقعي , أتاحت للقاص أن يضمّنها , صور وإيحاءات وإرهاصات وهواجس داخلية متفجرة بالحس الشعري المعبر , أي أنّه وصف القصيدة النثرية في متن النص القصصي , دون إقحام , أو خروج عن السياق المنسق للمبنى السردي المتين , بل إنها إضافة تسمو بالقصة القصيرة إلى حيث وصولها إلى لقصيدة النثرية , والمحافظة على المسيرة السردية والحدث السردي على مستواه المطلوب , لأننا نجد القروي وهو السارد للأحداث , يتفجر وكأنه بركان من الأحاسيس الوهاجة المشتعلة , مع استحضار شحنة الحرمان التي كان يعيشها دون أن يشبع هذا الجانب المهم من حياته , أي الجانب الجنسي , وذلك لكون القاص بدأ في العملية السردية من دواخل القروي , وظل يغوص في قاع هذه المشاعر الداخلية , ناشراً هذه الهواجس على فضاء الحدث القصصي , ليجعل من النص تركيبة تميل إلى رفع مستوى التناول السردي إلى حيث زهو ورفعة وسمو تلك المشاعر التي ما هي إلّا مفردات شعرية نثرية , تدخل ضمن متن النص السردي للقصة , لتؤازر الحدث والحكاية , وتعالج الأسباب والدوافع , التي جعلت القروي ينصاع لهذا الواقع ويستسلم , محاولاً الهروب لبعض من الوقت من حكايات الجدة , ((لا أدري هل كنت أسعى لحتفي، وأنا المكبّل بقيد حكايات جدتي؟، يا للهول! كنت بين نارين، عواصف الذنب والغياب كأثير في مدار بركانها )) والجدة في هذه القصة تمثل حزمة المثل والمبادئ التي تربى عليها , وإنّنا نلاحظ بأن القاص سما بأبطال القصة أو شخوص القصة , القروي والغانية , فوق مستوى الحدث الواقعي , باستخدام لغة مركبة هي مزيج من , الواقع , الخيال , الهواجس , الأحاسيس الجياشة , الحرمان , الحلم , الأمل , الماضي وذكرياته , وبما أنّ هذه القصة وأغلب القصص التي كتبها القاص عبد الكريم الساعدي , اعتمدت هذا النهج المتطور الجديد للقصة , فأن خروج القاص من نقل الحدث والحكاية من واقعها إلى حيث أراد لها أن تكون , اعتبرت حالة جديدة يتطلبها الطور المراد تقديمه للقصة , وحالة استثنائية , لأننا نرى طغيان اللغة العالية , والحس الشعري المنساب والمتناسق وسياق الحدث السردي على واقع المسيرة السردية , لأنه يشكل الحالة المهيمنة والتي تستحوذ على النص السردي , وتعطيه هالة جديدة , تدخل ضمن السياق الفني الجديد , أي إن العملية السردية تتلاشى وتنزاح ليكون بديلها لغة أخرى , تعطي نفس النسق التتابعي التصاعدي , بل أنها أكثر متانة , وأقوى تعبيراً ((وأمضي شهقة في عشبها الأخضر، أخلع ظلّي، فأتيه في مباهج الحسن دون طوق، أكابد حرائق لهفتي لدفء لحمها البض. ))
وينعكس هذا التناول الجديد , فهو يعيش مشاعر مركبة وهو يتابع النص السردي . بين واقع القصة ولغة السرد وشاعريته العالية , ليشكلان حالة من الوجد والتعاطف مع النص , قل نظيرها قي بقية القصص.
ومن الجدير بالذكر أن قصة ( هبوط عابر) قد حصلت على الفوز بالمركز الخامس لمسابقة ضاد للقصة القصيرة/ 2015، و التي نظمتها( دارضاد المصرية للنشر والتوزيع) ، وقد أختيرت القصة من بين أكثر من 700 نص أدبي لكتاّب عرب من مختلف البلدان العربية، لينال الكاتب درع الاستحقاق( الفوز)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا